هناك فيلمان جديدان معروضان في الأسواق هذا الأسبوع وهما ليسا من النوع الذي يجيد الحكي. في الواقع، هما بعيدان عن سينما الرواية بعداً تاماً، اذ ان أحدهما يدور عن عائلة يهودية تعيش على نار فضيحة جنسية، والثاني عن... النحل، والإقبال عليهما أعلى من الإقبال على "ماتريكس" في بعض العواصم العربية. اذا ما صدقنا آمال الشركتين الموزعتين فإن كلاً من هذين الفيلمين سيجمع نحو 3 ملايين دولار من الأسواق. هذا رقم عال بالنسبة الى مسار الفيلم التسجيلي في العروض السينمائية. "ثينك فيلم"، موزعة فيلم النحل تعتبر أن 3 ملايين دولار هي أدنى ما تأمله من عروض فيلمها، بينما تقول شركة "ماغنوليا" بأنها ستكون سعيدة حال تجاوز فيلمها مبلغ مليونين و500 ألف دولار من الإيرادات. واحد من أسباب السعادة هو أنهما ابتاعا الفيلم بأقل من ذلك. السبب الآخر هو أن الفيلم التسجيلي حتى وقت قريب لم تكن له سوق تجارية. بضعة أفلام بدأت تحطم هذه النظرية بدءاً من عام 1994 عندما جلب فيلم بعنوان "أحلام كرة السلة" 8 ملايين دولار. وتداعت النظرية تماماً عندما انطلق فيلم "باولينغ فور كولومباين"، فيلم مايكل مور الرائع عن العنف في المجتمع الأميركي، وحصد 21 مليون دولار من الإيرادات في أميركا وحدها. فجأة، ارتفع الإهتمام بالأفلام التسجيلية التي كانت الى وقت قريب شبه ممنوعة في صالات السينما. ومع أن هذا لا يعني اي تغيير جذري في كيف يقبل الناس، حول العالم، على الفيلم التسجيلي، او غير الروائي بشكل عام، الا أنه يفتح الفرصة أمام عشرات المخرجين الذين دائماً ما اعتبروا أنفسهم واقفين في نهاية صف السينمائيين من دون رعاية انتاجية او إعلامية. آثار باولينغ "باولينغ فور كولومباين" كان إنتاجاً اميركياً صرفاً قام به مايكل مور وخطفه مهرجان "كان" في دورة العام الماضي وعرضه مانحاً إياه فرصة لدخول أسواق عادة ما تكون مقفلة في وجه الفيلم التسجيلي. المخرج الليبرالي المعارض عالج المذبحة التي قام بها طالبان في كلية كولومباين كمفتاح لموضوع أكبر عن حب الأميركي للسلاح، عن مجتمع قائم على تشرّب العنف وممارسته و - على أكثر من صعيد - مباركته ما يتيح للأفكار والمجموعات المتطرفة، تلك التي تشرّب منها القاتلان أفكارهما، النمو مستفيدين من جو الحرية المتاح. ويقارن مور الظاهرة الأميركية باللا-ظاهرة الكندية: شعب متشابه الأصول، كونه يتكوّن من قاعدة من المهاجرين البيض في بلدين انشئا على حطام أقوام أخرى، ليكتشف أن البلد المجاور تماماً يخلو من بذور العنف على نحو شبه تام. وفي تحقيقه يكتشف مور أن الخوف الذي يعيش فيه الأميركيون قد يكون المسؤول الأول. ومن بين أفضل المشاهد التي يتضمنها الفيلم تلك المقابلة التي ينشدها المخرج مع شارلتون هستون، الممثل السابق وأحد أكبر دعاة التسلح الفردي في اميركا، الذي يبدو قبل إجراء الحوار غير مدرك موقف مور منه قبل أن يطلب من المخرج وفريقه مغادرة دارته فوراً. فضيحة للدفاع عنها ليس من بين الأفلام التسجيلية الجديدة ما هو مماثل لفيلم مور في قوّته المستمدة من محاولة الأميركيين فهم أنفسهم بالدرجة الأولى، لكن "القبض على فرايدمانز" يحمل في طيّاته مواقف تستدعي الإهتمام. الفيلم الذي أخرجه اندرو يوركي ونال جائزة لجنة تحكيم مهرجان "سندانس" مطلع هذا العام، يقدم لنا عائلة فرايدمان اليهودية في ضاحية لونغ آيلاند في نيويورك. الأب يعمل مدرسا في النهار ويدير في دارته تحت الأرض مدرسة خاصة لتعليم الكومبيوتر في الليل... او هكذا كان الإعتقاد الى أن داهمت السلطات المكان واتهمت الأب وإبنه بإدارتهما مركزاً لصنع بورنو الأحداث ونشره على شبكات الإنترنت. ومثل قضية درايفوس الفرنسية في مطلع القرن الماضي عندما شككت بعض الأفلام في الحكم الفرنسي على اليهودي الذي اتهم بالتجسس، ينزع هذا الفيلم لإثارة الشكوك في حيثيات التهمة التي وجهت سنة 1987 الى العائلة، كما الى الحديث عما سببه كل ذلك من آلام مبرحة في أوصالها. ضبابيات روبرت مكنمارا وأحد أهم الأفلام التسجيلية المقبلة هو "ضباب الحرب" لإيرول موريس الذي عرض في "كان" هذا العام والذي قد ينجح في جذب جمهوره اعتماداً على ما يفتحه من ملفات سياسية وعسكرية. انه مؤلف من حوار طويل مع وزير الخارجية الأميركي الأسبق روبرت مكنمارا الذي كان قبل منح المخرج موريس ساعة من وقته لإنجاز "بروفايل" عنه، لكن الرجل فتح نوافذ ذكرياته كلها ومنح الوقت اللازم لفيلم من نحو ساعتين يقوم على المقابلة كما على المشاهد الوثائقية المساندة. المواضيع تتماوج من الشخصي الى السياسي ومن فترة الحرب العالمية الثانية وبيرل هاربور وما بعد الى الحرب الفيتنامية وما بعدها. وفي أحد المشاهد ينهار مكنمارا باكياً، لكنه في معظم المشاهد الأخرى يتحدث بصراحة واضحة ويبدو كما لو كان يريد أن يصفح المؤرخون عما لا يريد الإعتراف بمسؤوليته عنه!