رواية جديدة عن "جحيم" النظام العراقي، صدرت قبل أيام للروائي زهير الجزائري تحت عنوان "الخائف والمخيف". وفيها يفضح الكاتب بعنفٍ وقسوة أفعال القتل والاغتصاب والإرهاب التي حصلت في ظل حكم "البعث" العراقي. في العقود الأخيرة، لم يبق في الامكان كتابة عمل ابداعي عراقي، من دون ذكر الأنساغ المغذية لمجتمعه، ومنها الحرب والقمع السلطوي والتشرد الذي شمل شرائح واسعة من الناس. وتمظهرت تلك الانساغ في الأعمال الروائية، كونها تمتلك القدرة على استيعاب تحولات جرت، وظلت جارية حتى سقوط النظام. الحديث عن قصص حب، او اشكالات روحية، او عبثية يومية خارج افق الحروب والخوف والتسلط، ضرب من الخيال والفانتازيا والتغريب، وهي لم يعد لها جذور في الواقع، على رغم ان بعض كتاب الرواية، حاولوا تحت ظل الرقابة القاتلة، الرجوع الى التاريخ البعيد، هرباً من تلك الانساغ التي تتطلب الانحياز الى وجهة نظر واضحة، فكان ان اسقط ما يجري في الحاضر على ما سبق. ومن الروايات المميزة التي كتبت عن المرحلة الأخيرة، رواية "حافة القيامة" للكاتب العراقي زهير الجزائري، التي عالج فيها ملابسات استيلاء الحزب على السلطة في عهد احمد حسن البكر، ورفيقه الذي سرعان ما ازاحه عن كرسيه وجلس مكانه، المعروف للجميع صدام حسين. عرف في رواية "حافة القيامة" باسم "وهاب"، وفيها مهد الطريق لنفسه كي يجلس على سدة الرئاسة. اما في روايته الجديدة المكملة ل"حافة القيامة" "الخائف والمخيف"، الصادرة حديثاً عن دار المدى للثقافة والنشر دمشق 2003، فيتابع زهير الجزائري تفاصيل الاحتفاظ بكرسي الحكم، وسط عواصف المؤامرات والخيانات والحروب والقتل وشراء الذمم، وتدجين المثقفين كي يكتبوا تاريخ الحاكم بتزوير فج ومرعب للصورة الشاملة. كانت حقبة ماضية، حقبة ما قبل سقوط الرئيس. المكان الروائي يدور في بغداد اولاً، ثم مدن العراق ثانياً، خصوصاً جبهات الحرب التي اشتعلت مع ايران، وهي التي جلبت اعظم الكوارث. اعتمد الكاتب على صنع البؤر الفاعلة داخل الهيكل الروائي، لرسم لوحة بانورامية للطريقة التي احتفظ بها الرئيس وهاب بكرسي حكمه. كانت البؤر هي جبهات القتال، المشتعلة من البصرة جنوباً حتى السليمانية شمالاً، وما كان فيها من دماء وجثث وإبادات وانهيارات روحية وسحق لروح الانسان، الذي صنعت منه الحرب نسخة واحدة، أرادها القائد وهاب، وقد تساوى في معمعانها الشاعر الرقيق والمهرج والمهندس والفلاح والعامل. وفي الوقت نفسه حوّل المجتمع بكل امكاناته الى وقود رخيص لادامة روح الموت والعذاب والتشويه. ثم مبنى الاستخبارات، وكانت تجري فيه احداث لا تصدق. اغتصاب نساء امام ازواجهن، تذويب معارضين في احواض الأسيد، تقطيع جثث ونثرها في الأنهار والصحارى، حفر أنفاق للهروب، في طقوس كان الرئيس وهاب يمارسها مع قادة الاستخبارات الموثوقين مثل يعقوب ومجيد وسواهما. بؤرة الحزب الديني الذي قاد اكبر حملة تفجيرات واغتيالات لاسقاط النظام، مستنداً الى رموزه الدينية وبعده التاريخي في المقاومة ضد ظلم الحكام، الحزب الديني ذاك يوحي بأنه "حزب الدعوة" الذي عانى بطش السلطة في بداية الثمانينات معاناة رهيبة، وخلالها احتجزت عائلات المنتسبين أو هجرت الى ايران أو أبيدوا في دهاليز الاستخبارات. في ذلك الجو الكابوسي تأتي بؤرة الفساد الأخلاقي، عبر استغلال دور الدعارة، وعلاقات النساء بالضباط الكبار والتجار والمعارضين. من هذه المباءة صار الرئيس وهاب، وعناصر استخباراته، يصلون الى ادق الحوارات التي تجري بين الضباط الكبار اثناء حفلات الخمر، والى فلتات اللسان بعد السكر، فيرى الرئيس ما يدور في الرؤوس المحيطة به، ضمن نظام ايقاع محكم من الحماية وبسط النفوذ. اما الوسط المثقف، فمسرح دسم لادامة قوائم السلطة. تجلياته في الرواية الكاتب وليد وسليم وياسمين والشاعر قاسم فنجان، اذ كانوا معارضين للحكم مثل قاسم فنجان، او متواشجين معه مثل وليد الذي كتب للرئيس رواية سيرته، منذ الولادة في الصحراء حتى جلوسه على الكرسي، مع شبيهه مجيد. ومن خلال انتقالاته السردية بين تلك البؤر، اعتمد الجزائري نسج خيوط بعيدة تربط الأحداث وترسم علاقات خفية بينها، على رغم ان الوهلة الأولى توحي بعدم ترابط تلك البؤر او تواشجها. رواية عراقية بامتياز، تتطلب من القارئ معرفة أولية بوضع العراق في الثلاثين سنة الأخيرة، كي يفهم بعض الظواهر التي جاءت في تضاعيف الأحداث مثل ظاهرة ابو طبر، وهو مجرم صنعته سلطة البعث في السبعينات لكي تلقي الرعب في ارواح المواطنين وتجعلهم يطلبون مخلّصاً، او ظاهرة حزب الدعوة الذي شكل في بداية الثمانينات كابوساً حقيقياً للنظام، من نتائجه الكارثية تهجير مئات الآلاف من العراقيين الى ايران بحجة اصولهم الايرانية. ومع وجود ذلك الكم الهائل من الأحداث في الرواية، وتقلبها بين السياسة والحرب والثقافة والدين، أخطأ الكاتب حين اسقط بعض المفاهيم الجديدة على الأحداث، فالأفغان مثلا ظاهرة لم تنبثق الا في نهاية الثمانينات. تفاصيل آليات الحكم، والرعب الذي اشاعه منذ مجيئه الى السلطة، دلالات واسعة، خصوصاً أن الكاتب يرتكز في بعض مشاهده على مفاصل تاريخية موثقة، كالحنطة المسمومة التي وزعها النظام على الفلاحين، وحربه ضد الأكراد، وتفجيرات الجامعة المستنصرية التي قادت الى اندلاع الحرب مع ايران، وتصليت السيف على حزب الدعوة. تلك البؤر الفاعلة اجتماعياً، صنعتها وعاشت في دوامتها مئات الشخصيات: سلطويون ومعارضون، هامشيون ومهمون... من امثال يعقوب رئيس جهاز الأمن، ومجيد ابن عم الرئيس وشبيهه لاحقاً، والرئيس وهاب، العارف بكل صغيرة وكبيرة، عبر عيونه وجواسيسه وأصدقائه ووكلاء نعمته. صبيحة سمسارة الأجساد، ووليد الكاتب الذي يشك في ان الرواية كلها من صنع يديه، بالتعاون مع رجل الاستخبارات القوي يعقوب. بدا وليد مزوّراً عبقرياً للتاريخ، انه نموذج المثقف النفعي الذي يتهاوى، عبر حفنة من المال، بين مخالب الرئيس او زبانيته. وهو ذاته من حوّل القائد وهاب في النهاية بطلاً حقيقياً يحبه الجميع ويمجدون اسمه في الأعراس والمآتم، في الجبهات وحقول القمح، في الجبال والسهول. لكنه بطل على الورق فقط، صنعته ثقافة مشتراة، وفاقدة لضميرها الانساني. على أن التواشج الخفي الشاحب، بين تلك البؤر المعبرة فنياً وواقعياً، على رغم أهميته أفقد الرواية التماسك، وزخم التتابع السردي وحضور الشخصيات، والتطور الطبيعي، جاءت بعض الشخصيات كما لو انها فصّلت وهندست لكي تلائم احداثاً رسمها الكاتب مسبقاً. فالقفز من بؤرة الى اخرى، وما يحيطها من ظلال وملامح، أوهن الشخصيات وأضعف تماسك حضورها. وهذا ما لوحظ في شخصية يعقوب مدير الأمن، ومجيد ابن عم الرئيس، والمعارض المتدين الغفاري، وقائد الجيش اللواء العباسي. البعد الاجتماعي أو الجذور الحياتية لتلك الشخصيات لم تكن واضحة. حضورها المكاني او المديني غائم وعائم. يسقطون فجأة على أرض الحدث ويغيبون فجأة في خضم قصص جديدة لم يصنعوها. وظل هناك نبض مفقود في الرواية لا يدرك للوهلة الأولى، استطاع ذكاء الكاتب وتدفق لغته واختمارها القصصي وسعة اطلاعه، التغطية عليه او تفاديه ببراعة. وربما يكون النبض هو الحياة اليومية البغدادية، او ذبذبات المكان، وقد حضر في حال عمومية مع مسحة غائمة من التفاصيل، ما جعل الكاتب يركز على الأحداث الكبيرة وحركة الشخصيات. ليس هناك بطل محوري في الرواية. الكل ابطال وهامشيون في الوقت ذاته. هناك هاجس واحد في تلك الرواية هو تعقب وهاب، الغامض والمرعب، والفظ الذي قرر الاحتفاظ بالكرسي حتى لو تطلب الأمر منه تحويل البلد الى مقبرة، وهو ما حصل لاحقاً، ولكن خارج سياق النص الروائي. ابتعد زهير مسافة عن شخوصه، راسماً اياهم بصورة محايدة، حتى لو كانوا مختلفين عن رؤيته للحياة. وظل البعد الانساني حاضراً لدى الجميع، من باب تناقضات الأفراد كبشر يمتلكون احاسيس صافية في لحظات الصحو، ولو هم مارسوا احط المهن والأدوار. يظل بؤس شروطهم الحياتية نحّاتاً لهم ككائنات حيوانية تتلذذ بالقتل والتعذيب. ابرز مثال على ذلك مدير الاستخبارات يعقوب، والرئيس وهاب والشبيه مجيد وحتى ياسمين، الرقيقة المثقفة التي ضاعت وسط بؤرة سلطوية منحطة، وكانت في لحظات صحوها تحن الى ايام البراءة، مُدينة الواقع بمنطق تبريري. كانت الأحداث المتتالية او المتوازية، ضمن بؤر متعددة، حجبت اي بداية او نهاية واضحة للرواية، اذ افتتحت الرواية بصرخة وانتهت برؤية ثقافية منحولة كتبها وليد عن شخصية الرئيس وعلاقة الشعب به. الشخصيات والأحداث وقصائد الشعر، تهطل من دون سبب أو تتابع، تدور على نفسها او تلتف او تتوازى لرسم الآليات الحقيقية التي جعلت من الرئيس وهاب جزءاً من كرسي عتيد، تمسّك به حتى نهاية الشوط. ظلت هناك منارات يستهدي بها الكاتب، كعلاقة المثقف بالسلطة ومأساة الحرب والعنف الأسود وانهيار القيم الاجتماعية وانحدار بلد كامل الى هاوية لا قرار لها، بعد ان اصبح الموت قانوناً يخضع له الجميع. وكانت تلك، مرتكزات الرواية الحقيقية، ولكن المنبثقة من خارج النص.