كما يوحي عنوان رواية زهير الجزائري الثالثة "حافة القيامة" الصادرة عن دار المدى دمشق، لا بد أن نجد لقيامة وشيكة من تبرير يضع الحالة الروائية في استنفاراتها القصوى. وان عرفنا أن هذه الرواية تخوض في موضوع من أكثر المواضيع تعقيداً في العراق الراهن، وهو موضوع السلطة، فسيكون بمقدورنا أن نتخيل عن أية قيامة يتحدث الجزائري في روايته. وفي الظن أنها الرواية العراقية الأولى التي تقارب هذا الموضوع، فالعراقيون يكتبون في الغالب عن ضحايا سلطتهم، ولكنهم يرغبون عن تصوير تلك الكتلة الصماء التي تتصرف كالقدر الغاشم متحصنة بشرطتها السرية وحواجزها وقصورها وامتيازاتها التي ملكتها بضربة حظ رفعت ممثليها من الحضيض الى القمة. ولعل سيرة صدام حسين التي كتبها مجموعة من أدباء البعث كروايات، بعد أن حضروا جلسات الاستماع اليه، يمكن أن تؤخذ كنموذج لتوظيف الإعلام في خدمة الدكتاتورية، ولكن هل بمقدورنا أن نقول أن ما يكتب عن هذه السلطة في الضفة الأخرى أي من قبل خصومها، لا يمكن أن يؤخذ بالاعتبارات الإعلامية ذاتها؟. حاول زهير الجزائري تجنب هذا الأمر بأن جعل شخصياته تدخل ضمن ممكنات المساءلة السايكولوجية من زوايا مختلفة، أو كنماذج تشكلت بصيغة أدبية حيث ترتفع عن الواقع قليلاً بصورتها الإشارية الموحية، وان بقيت تخضع الى المنطق العقلي من دون رتوش تغريبية. شخصيات هذه الرواية خليط من دكتاتوري العالم العربي وان أشار بأصبعه الى النموذج العراقي، غير أنها مرصودة مثل جرذان المختبرات، منذ تهجيها حروف الفضاضة والقسوة الأولى، وصولاً الى لحظات ضعفها وخوفها ثم تجاوز هذا الخوف بالتورط بمزيد من القسوة. لا نستطيع أن نستبعد عند قراءتنا هذه الرواية، تأثيرات أعمال كتاب أميركا اللاتينية حول نماذج السلطة التوليتارية، غير أن الاختلاف يظهر في الحدود الفاصلة بين الفانتازيا والواقع، تلك الإشكالية الحساسة التي تشخص بعض ما لهذا العمل وما عليه من حسنات واشكاليات. في معرفة الحالة وفي التفكير بها "حافة القيامة" عمل مشغول بأناة على مستوى البنية السايكولوجية مع محاولة التماس مع التشخيص السوسيولوجي، غير أن المجتمع في هذه الرواية يكاد يغدو عديم الملامح ولا يظهر إلا بإشارات نظرية تمنحه يقينية التصور، أكثر مما تنفخ فيه الحياة على عادة الرواية الواقعية، أو تتنافذ بشفافية مع مكوناته في حال الرواية التغريبية. وفي الظن أن الإيمان بنوع الجمهور المتلقي والمشارك في معرفة التفاصيل، عفا المؤلف عن الاستفاضة في تفصيلات تحتاجها الرواية في الحالتين لكي تستكمل عدتها. المعاينة السايكولوجية في هذه الرواية يقف مقابلها أو يستكملها النسق اللغوي، فما من عبارة جاءت عفو الخاطر بل أن الكاتب شديد الاهتمام بالكفاءة اللغوية. ومن رحم اللغة ينبثق الهاجس السايكولوجي: كيف تفكر الشخصية، وكيف تتصرف وكيف يتصارع الشر والخير داخلها؟. ان محاولة الكاتب تفهم الشخصية في سيرورة تشكلها، طبع عمله بوسواس اقتناص المشاعر، فعلى رغم محدودية المساحة التي تتحرك من خلالها الشخصيات كنماذج نمطية، غير أن زخم المشاعر المتناقضة التي تكتظ بها تلك الشخصيات جعلت بينها خط تشابه يكاد يكون مصدره وعي متقارب في مرجعياته، وسيكون في النهاية وعي المؤلف أو طريقة تخيله التي يسقطها بشكل متساوي على الجميع. ان ما أراد أن يمنحه من فرصة للشخصية في تبيان رحابة وتعدد نوازعها النفسية أضاف الى تلك النماذج نمطية على نمطيتها الأولى. أن الشخصية المكبلة بنموذجها هي في الأصل أسيرة عاداتها، غير قادرة على أن تستجيب الى المواقف المباغتة واتيان ما لا يمكن التنبؤ به كما يلاحظ الروائي البريطاني ادورد فورستر، والأكيد أن زهير الجزائري حاول الخروج عن التصور المتداول لتلك النماذج: الدكتاتور ووريثه ورجل الأمن والمرأة الطيبة والأخرى الشريرة والمواطن المظلوم، بأن جعلهم على إدراك بعطوبهم ونقاط ضعفهم، وهم في كل لحظات المجابهة يدخلون في سجال مع الذات. على هذا لا يمكن أن نتخيل هذا العمل إلا ضمن إطار التطبيق العملي لتصور سايكولوجي عن طبيعة السلطة انشغل به المؤلف وحاول تمثله على هيئة رواية، فبدا في جانب منه وكأنه تعويض عن افتقار الكثير من الأعمال الروائية العراقية الى دراسة الشخصية في بعدها السايكولوجي والاجتماعي. غير أن تلك الجدية غطت على ما يمكن أن نسميه الطلاقة في العمل الروائي، قدرة القص على أن يتجول في رحاب أزمنة وأمكنة يمكن أن نتخيلها في احتمالين: واقعي أو تغريبي، في حين بدت الأمكنة والأزمنة محصورة في إطار مسرح معد لحركة ممثلين مختزلة، بحيث تختصر المسافة الزمنية والمكانية بين نماذج تتحاور أو تتراسل حول شأن محدد فقط هو شأن السلطة. فما هي الصلة بين جمانة خطيبة المعارض، السجين الفقير المثالي التصرفات، وبين الدكتاتور الذي يتزوجها؟. وكيف لنا أن ننظر الى مكان لقاءها بالدكتاتور الذي يتحدد بغرفة داخل القصر الجمهوري، غرفة معزولة، تتلقى فيها منه القرارات الخطيرة لتطبعها على الآلة الكاتبة. هل نستطيع أن نعتبر هذا المكان مكاناً واقعياً؟ ان توفرت لدينا هذه القناعة علينا أن نجد له في أذهاننا ديكورات وأزمنة مكملة لطبيعة حياة رئيس يحكم بلداً، أما إذا حسبناه وشخصياته مجرد حالة تغريبية فعلينا أن ننزع عنه رتوش واقعيته بحذف كل الزوائد التي تحف بشخصية المرأة بما فيها عائلتها وماضي علاقة الحب التي تربطها برجل محدد الملامح يكاد يقول أنني أمثل أبناء الشعب المظلومين وزوجتي التي سرقت مني هي الناس والجماهير. حسم غارسيا ماركيز الأمر مع الشخصية النمطية في "خريف البطريارك" على سبيل المثال، بعد أن فك أقماطها وجعلها طليقة مرحة تتجول بين حدود الواقع والفانتازيا. فهي غير مطالبة بتقديم كشف بامتداداتها الاجتماعية إلا على هيئة إشارات هازلة ولكنها شديدة الوقع في انعكاس قيمتها المعرفية والفنية. في حين تبقى الشخصية الواقعية مطالبة بتحديد تضاريس البيئة والانتسابات وملامح الناس الاجتماعية. الفكر الانقلابي الشاغل الأول لرواية الجزائري، وهو الذي يحدد طبيعة الحبكة ويجعل منها حبكة بالمعنى المفترض، فالسلطة في هذه الراوية لا تعني الكل الناجز المعطى من تضاريسها، بل هي قبل كل شيء تعني الاستمرار في الإمساك بفكرة المؤامرة والمؤامرة المضادة لكي تضمن استمرارها. لذا يصبح الشكل المغلق في القص أي الدائري الذي يبدأ وينهي السرد في النقطة ذاتها، أهم مميزات هذه الرواية. أن فكرة انتظار الانقلاب - النبؤة هي التي تبدأ بها الرواية وتنتهي، فترتبط حبكتها الأساسية بحكبات صغيرة تتبدى في مغامرات الأبطال: مؤامرة استلام السلطة، مؤامرة وصول الشخصية الثانية "وهاب" الى مركز نائب الرئيس، مؤامرة قتل رجل الدين، شق المعارضة، مقتل الراقصة، تلك الأفعال الروائية التي تشكل مواطن الإثارة في الرواية تبقى في كل الأحوال غير قادرة على جذب انتباه القارىء، مثلما تجذبه العلاقة المباشرة التي يبنيها معه الراوي، من دون وساطة الرموز والتوريات. فعنصر الخطاب الروائي المهيمن يدفعنا الى التقليل من أهمية الحكاية الرئيسية أو حكايات الشخصيات، ويشاغلنا بتصورات القاص الفكرية عن الحالة ككل، فالذي بينه وبين القارىء عمليات تراسل وأبلاغ واضحة. فالرواية بمنطقها العقلي لا الروائي، تعبر عن هموم مشتركة تأخذ قارئها بجماع قلبه وهو الملسوع بظلم السلطات الشمولية. ان غياب الدراسات التي توصف وتحلل طبيعة الحكم الاستبدادي والشخصية الاستبدادية، تجعل من هذه الرواية عملاً له أهميته وجهده الواضح الذي يؤهله كنموذج يصلح لدراسة المحاولات الروائية العراقية في نازعها السايكولوجي والاجتماعي. ويبقى في كل الأحوال خطوة متقدمة في تجارب زهير الجزائري الروائية.