أعلنت واشنطن في الرابع من تموز يوليو الجاري عن نيتها تقديم ستة من "المحاربين المعادين" كما يحلو للإدارة الأميركية أن تسميهم من مئات المحتجزين في قاعدة غوانتانامو، إلى محكمة عسكرية في القاعدة نفسها. وإذ أظهرت التقارير الإخبارية المراحل الأولى من بناء مقر المحكمة العسكرية مع إعداد غرفة إعدام تابعة لهذا البناء، وكأن أحكام الإعدام مبرمة لا محالة كجزء من صفقة المحاكمة العسكرية، فإن هذه التقارير الإخبارية قلما تخبرنا عن أي ردود أفعال "حقوقية" تذكر من قبل المهتمين بحقوق الإنسان من القانونيين والمواطنين العاديين في أنحاء العالم. فعدا الضجة التي أثارتها في الشارع البريطاني ومجلس العموم أخبار الإعداد للمحاكمة العسكرية الأميركية وغرفة الإعدام للمعتقلين فإن القليل من الاحتجاج الحقوقي العالمي على مبدأ المحاكمة العسكرية في شأن أسرى غوانتانامو يجد طريقه إلى الأخبار. وإذا كانت الضجة المثارة في بريطانيا تكاد تقتصر على اعتبارات خاصة بذلك البلد، ومنها أن اثنين من أصل الستة المقدمين للمحاكمة العسكرية هم من المواطنين البريطانيين، معظّم بيغ من برمنغهام وفيروز عباسي من كرويدن. كما أن منها أن بريطانيا واحدة من دول الاتحاد الأوروبي التي لا تقر عقوبة الإعدام منذ عام 1965، فإن هناك اعتبارات إنسانية وحقوقية وقانونية أعم وأشمل لا تغفل عن بال المتابع العادي والمختص معاً في مسائل القانون والحقوق والاتفاقات والعلاقات الدولية مما يجب إثارته في موضوع الأسرى وفي موضوع المحاكمة العسكرية وأحكام الإعدام التي قد تترتب عليها. والسؤال هنا هو: إلى متى يجرى التعتيم على مسألة حقوقية على هذه الدرجة من الأهمية الإنسانية والقانونية في الوقت الذي أقامت أميركا الدنيا ولم تقعدها في مسألة أسرى حربها على العراق وفي الوقت الذي تطرح فيه مسألة حقوق الإنسان كواحدة من القضايا التي تجرى باسمها الحروب وتسيل في سبيلها الدماء عبر القارات الست من العالم؟ إن من مفارقات الموضوع الجارحة أن جزيرة غوانتانامو الطليقة بين برزخ من ماء وعشب تتحول إلى جحيم بشري مجهز بأعقد تقنيات العزلة، بينما تعجز القوى المنحازة للعدل في هذا العالم غير العادل عن فعل أي شيء سوى مراقبة المشهد بحيادية يحسدنا عليها الأموات. ومن الإغراق في هذه المفارقة أنه بينما المقطع الأخير من اسم الجزيرة يوحي لسامعه في اللغة العربية بأحد أشكال السكينة الإنسانية Tranquility and peace النوم، فإن مجهر الأضواء الكاشفة يسلط على عيون أولئك المقفصين في ذلك المكان البرزخي لكي لا يصحون ولا ينامون على مدى ما يقارب عامين من عمر أولئك الشباب الذين لا يعلم غير الله حقيقة التهم الموجهة إليهم في غياب أي دفاع يطلع يسمع العالم أصواتهم. فهل على أولئك الشباب المحاصرين بين قسوة الأسلاك الشائكة وشراسة اليأس أن يعيشوا في هذا الطور اللاإنساني بين شفا الموت وحافة الحياة ريثما تعد أميركا لهم غرف الإعدام والمحاكم العسكرية المغلقة التي تذكر في سريتها بمحاكم التفتيش فيما ينام عالم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان عن حقوقهم مرتين. مرة عندما ضيعهم وضيع حقوقهم باستخدامهم لخدمة مصالحه ثم ترك قضاياهم المصيرية معلقة وتركهم نهباً لمصير غامض كما فعلت أميركا حين سخرت الشباب المسلم لمواجهتها مع السوفيات في مرحلة الحرب الباردة وتركتهم بعدها نهباً لشهوات تسلق السلطة. ومرة عندما يغمض المجتمع الإسلامي والدولي عيونه اليوم عن وضع هؤلاء الشباب في جزيرة غوانتانامو مجردين من أبسط حقوق البشر معدين لمحاكمة عسكرية ليس لأي جهة حقوقية مدنية محايدة أي تمثيل فيها. فهل علينا مجتمعات ودول وقد شاركنا بشكل مباشر أو غير مباشر في الغفلة الأولى أن نشارك في السبات الثاني من رقاد الضمير إلى الرضى بالأحكام الأميركية العسكرية عليهم وبتطبيق عقوبة الإعدام في سرية عسكرية ليس من سبيل للتأكد من أسانيدها القضائية في الوقت الذي تدان بعض الأنظمة الاجتماعية لتطبيقها حدوداً شرعية من ضمنها عقوبة الإعدام. وإذا كانت حجة مجاراة أميركا في جورها على منطقتنا عادة ما تجرى باسم اختلال ميزان القوى العسكري لمصلحتها، أو ليس في الإمكان أن تثار هذه القضية ويتم تبنيها والدفاع عنها من منظور قانوني وحقوقي خصوصاً أنها واحدة من القضايا التي تقع في صلب منظومة حقوق الإنسان التي تتغنى بها أميركا نفسها. وفي مثل هذا المجال تحديداً فإن المساعي لا تقاس فقط بدرجة النجاح في إنجاز الهدف النهائي منها كتراجع أميركا عن الاعتماد على المحاكمة العسكرية واستبدالها بمحاكمة مدنية علنية في ضوء ضوابط قانونية ودفاعية محددة وواضحة ولكنها تقاس أيضاً بدرجة قدرتها على النضال المدني والقانوني لعقلنة وإحراج الاعتداد الأميركي بالاعتماد على منطق القوة العسكرية وحده. إن تجنب أميركا للمواجهة القانونية والحقوقية في شأن معتقلي غوانتانامو مثلما تجنبت عرض قرار حربها على العراق للتصويت داخل الأممالمتحدة في آذار مارس الماضي هو بسبب معرفتها عدم قدرتها على مواجهة منطق القانون والحقوق للدفاع عن موقفها غير العادل من قضية أسرى غوانتانامو كما كان الأمر بالنسبة لقرار الحرب على العراق. وفي هذا فإن قليلين ممن لا يزال سراً عليهم، لماذا اختارت أميركا مركز تكرير السكر الكوبي مطل قاعدة من قواعد بحريتها العسكرية من عام 1903م لأن تكون مقبرة الأحياء الذين شحنتهم جواً من مطار قندهار إلى معسكر أشعة إكس ومعسكر دلتا في أبشع صور الترحيل القسري التي عرفها التاريخ الإنساني. فالحكومة الأميركية ولئلا تقع تحت طائلة أي مساءلة دستورية في إطلاق يدها حيال انتهاك الحقوق القانونية لهؤلاء المعتقلين تعتمد على ما يسمى في الفقه القانوني بالخروج من المنطقة القانونيةjurisdiction territorial. وقد عملت الحكومة الأميركية في الخروج على منطقة ومنطق القانون معاً في ثلاثة اتجاهات يكمل كل منها الآخر في محاولة التحلل من أي مساءلة دستورية لها في حق هؤلاء المعتقلين وفقاً للدستور الأميركي. وكذلك في محاولة التملص من أي التزامات حقوقية تجاههم وفقاً للقوانين الدولية في هذا الشأن. - الاتجاه الأول، إقامة معسكرات الأسر على الجزء المقتطع من الأرض الكوبية وبذلك فإن أميركا المدنية لا يعود في إمكانها أن تحاكم أميركا العسكرية في أي إجراءات غير دستورية تتخذ ضد هؤلاء الشباب، وبغض النظر عن درجة تورطهم من عدمه في "أعمال إرهابية"، وذلك أن الأمر برمته من لحظة الاعتقال إلى لحظة الحكم النهائي يتم خارج الأراضي الأميركية أي خارج النظام الدستوري للبلاد. ولذا فبينما يكون المتهم بريئاً حتى تثبت إدانته وفقاً للدستور الأميركي، حيث إنه وفقاً للأحكام الدستورية لا يمكن الشروع في عملية الاعتقال دون توجيه تهمة محددة وبينما يحق للمتهم ألا يتفوه بكلمة واحدة إلا بحضور محامٍ. كما أنه لا يمكن أن يصدر في حقه أي حكم أياً كانت درجته إلا من خلال محاكمة علنية بضمانات قانونية وقضائية محد دة، فإن الوضع في غوانتانامو يصبح خاضعاً للأحكام العسكرية وحدها وليس لأي أحكام قضائية. وبهذا يتم استبعاد التشريعات المدنية والضوابط القانونية من التعامل مع القضية لا كقضية أسرى ولا كقضية متهمين بحجة أن عملية الاعتقال لم تتم على الأرض الأميركية وباعتبار أن معسكر الاعتقال مقام خارج أميركا ولا يتبع لدستورها. ومعنى هذا أن تفعل سلطة أميركا ما تشاء بالمعتقلين من محو الكرامة إلى التصفية الجسدية دون أن تحسب حساباً لأي جهة رقابية لا من القوى المدنية ولا من أجهزة التشريع أو القضاء. - الاتجاه الثاني، هو الذي تنكر به أميركا على المعتقلين هويتهم كأسرى حرب وتخلع عليهم مقابل ذلك ما تسميه "هوية الإرهاب". باختيار هذا الخط تهدف مرة أخرى إلى الخروج على القانون. فهنالك قوانين تنظم التعامل مع الأسرى بين الطرفين المتحاربين. فالسلطات الأميركية حين تطلق على المعتقلين مسمى "مقاتلين غير قانونيين" فإنما تفعل ذلك لتحجب عنهم أي صفة اعتبارية كمواطنين وكبشر مما يحرمهم من أي تعاطف شعبي أو رسمي على مستوى البلدان التي ينتمون إليها وعلى مستوى المجتمع الدولي. كما أنها بذلك تختلق الحجة القانونية لحرمانهم من الحقوق التي تكفلها معاهدة جنيف لأسرى الحرب. - الاتجاه الثالث، يرتبط بالسؤال القانوني لمسألة الحرب الأميركية على الإرهاب. فحتى الآن لم تقدم أميركا دليلاً قانونياً واحداً معتمداً يؤكد مشروعية شن هذه الحرب على المناطق التي تتجه أو اتجهت إليها حراب الاتهام الأميركية وليس أصابعه وحسب. كما أن أميركا نجحت إلى هذه اللحظة في تجنب إتاحة صوغ تهمة الإرهاب صيغة قانونية محددة تمكن من وضعها موضع المساءلة والاختبار على محك القضاء. وهذا الاتجاه الأميركي الرسمي هو الذي يسمح لها بعدم التعامل القانوني مع قضية معتقلي غوانتانامو لا كأسرى حرب ولا كمتهمين في قضية سياسية أو جنائية محددة. إذ فقط بموجب توجيه تهمة محددة يمكن أن يكون الاعتقال والإيقاف مشروعاً بشرط ألا يكون ذلك إلى أجل غير مسمى وبشرط ألا يكون بهدف إجراء استجواب سري تجسسي كما في حالة معتقلي غوانتانامو بل من أجل إقامة محاكمة علنية عادلة. يحاكم فيها المتهمون وفق ضمانات حقوقية مكفولة. فيطلق سراحهم إن ثبتت براءتهم أو ينالون العقاب الذي يماثل حجم التهمة في حال ثبوتها. إن تجنب المحك القانوني وتجنب الاحتكام إلى القضاء هو ما سمح ويسمح لأميركا بأن تحجم المطالبات وبخاصة المناشدات الرسمية "الودية" من قبل بعض البلدان المعنية للنظر في أحوال رعاياهم من المعتقلين وذلك من طريق تلويح الإدارة الأميركية لهؤلاء بتهمة عدم التعاون معها أو عدم الجدية في محاربة الإرهاب. ولا نحتاج إلى كبير جهد لرصد ذلك التشابه السيامي المتطابق بين تعامل أميركا اللاقانوني مع معتقلي غوانتانامو وتعامل دولة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني مع المعتقلين الفلسطينيين "المعمرين" في السجون الإسرائيلية. على أننا نستطيع أن نلمس الفارق في مدى فاعلية الانتقادات القانونية والمطالبة الحقوقية بشأن معتقلي غوانتانامو على الأقل لإحراج أميركا إعلامياً وقانونياً مقارنة بالمناشدات "الودية" التي لم تجد نفعاً من خلال موقف التشكيك الشعبي البريطاني في مصداقية الموقف القانوني الأميركي من قضية المعتقلين بناء على الطلب الذي تقدمت به إلى المحكمة مواطنة بريطانية هي أم أحد المعتقلين في غوانتانامو قبل ستة أشهر. كذلك مقارنة بضجة اليوم في الصحافة البريطانية من مسألة إقامة المحاكم العسكرية وغرف الإعدام بجانبها. فهي وإن لم تمنع أميركا من المضي فيها فإنها تنزع عن عملها هذا أي غطاء شرعي. وهذا يطرح علينا جدياً مسؤولية الالتفات إلى الجانب القانوني في قضية معتقلي أميركا من شباب المسلمين في غوانتانامو، وكذلك يطرح علينا بإلحاح مسألة الالتفاف المدني عليها وتفعيل الجانب الأهلي في خدمتها والدفاع القانوني عنها باعتبارها قضية عادلة للدفاع عن حقوق الإنسان بما فيها حق المتهم في محاكمة منصفة وفي معاملة تليق بالكرامة الإنسانية بغض النظر عن اللون والمعتقد والنوع والهوية الوطنية. أليس الاستخفاف بحقوق الإنسان الاعتقال والعقاب لأسباب سياسية ملتبسة وغامضة هو ما يثير الحنق على السلطة الإيرانية اليوم في التصفية الجسدية التي تعرضت له الصحافية زهرة كاظمي. لقد تناقلت صفحات الإنترنت قول رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي في بداية انتشار الصور الوحشية عن حال المعتقلين يجب أن يعلم منتقدو وضع المعتقلين أن هؤلاء الخارجين على القانون لم يحضروا ليكونوا في ناد. وقد قال ذلك بالطبع من دون أن يشير إلى طريقة استقبالهم الباذخة بالتيارات الصاعقة لشل رموشهم عن الحركة. ومن دون إشارة إلى احتجازهم في زنازين انفرادية تلتصق بجلودهم، مقنعي الوجوه، مسدودي السمع، مكممي الأفواه. أما بعد تفاقم الانتقادات فقد بدأ بث صور جديدة ليس لهم، فلا يزال ممنوع على الصحافة مجرد الاقتراب من الجدران المكهربة لزنازينهم، ولكن بدأ بث صور جديدة عن "المعاملة الأميركية الكريمة" للمعتقلين. ومن هذه الصور ما يقول إنه توزع "حلاوة بقلاوة" مستوردة من الشرق الأوسط على المعتقلين في الأعياد الإسلامية كعيد الفطر. إلا أن مثل هذا الخبر لا يرد الاعتبار لصورة أميركا في التعامل مع المعتقلين ولو قدمت لهم لحم جزور. إن ما يريده العالم الإسلامي بل والعالم أجمع بجميع قواه المحبة للسلام والعدل من أميركا في هذا الموقف هو التعامل مع المعتقلين على أساس دستوري وقانوني في ساحة قضاء علني نزيه وليس في محاكم عسكرية مغلقة وغرف إعدام مظلمة. وهذا المطلب ينطبق على الأسرى العراقيين الذين تقدر أعدادهم بما يزيد على عشرة آلاف أسير لدى جيش الاحتلال الأميركي في العراق ممن تجرى التعمية على أوضاعهم وتجاهلها منذ سقوط بغداد في خضم الفوضى التي تعم البلاد بعد أن كانت بعض القنوات الفضائية قد عرضت لقطات مروعة من الأساليب اللاإنسانية في طريقة اعتقالهم والتعامل معهم. وفي هذا السياق فإننا نرى أنه يمكن للعديد من الأصوات في التجمعات المدنية والأهلية وخاصة أصوات المثقفين والحقوقيين أن تكون أكثر فاعلية من الصوت الرسمي في الدفاع عن هذه القضية الحقوقية ونحوها. ونجد على سبيل المثال لا الحصر في موقف منظمة العفو الدولية الرافض للتسليم بالتعسف "العسكري" الأميركي في التعامل مع معتقلي غوانتانامو وكذلك في الموقف الذي تبناه عدد من الأميركيين من محامي الدفاع عن حقوق الإنسان في الولاياتالمتحدة الذي قام بتحدي وتفنيد معظم الإجراءات التي اتخذتها السلطات لسد الذرائع القانونية في وجه منتقديها، وبرفع دعوى قضائية أمام محكمة فيديرالية أميركية تطالب السلطات بتوجيه تهم محددة للمحتجزين في سجن قاعدة غوانتانامو في كوبا ومحاكمتهم محاكمة مدنية، أو الإفراج عنهم، مبادرات يجب ألا يقتصر الأمر عليها وحدها. وفي هذا فإنني باسم ما لا يحصى من النساء والكتّاب في العالم أجمع "أُثَنِّي" على هذه المطالب بفتح الثاء لا بتسكينها وأتمنى أن نجتهد في إيجاد سبل قانونية وسلمية لوضع حد لمعاناة الأبرياء في غوانتانامو وفي كل مكان على هذه الأرض. فإذا كان لا بد من العولمة فلنجرب عولمة العدل والقوانين والحقوق التي يمكن أن تساعد على إحقاقه. * كاتبة وأكاديمية سعودية.