العرب ما يزالون بالنسبة إلى العراق عربين: عرباً رحبوا بمجلس الحكم ونددوا بما تتعرض له قوات الاحتلال من هجمات، وعرباً نددوا بمجلس الحكم ورحبوا بتلك الهجمات. والغريب أن المرحبين بمجلس الحكم رأوا فيه خطوة في الاتجاه الصحيح لانهاء الاحتلال. وأن بعض المنددين يرون فيه الوسيلة لانجاز المهمة نفسها: اخراج القوات الأميركية. فهل نحن أمام حالة انقسام على الوسيلة واتفاق على الهدف؟ هنا نحصل على جوابين: الأول يقول ان الخلاف اعمق من ذلك وأن من قبلوا بالمجلس مذعنون لارادة المحتل ولا يمثلون ارادة الشعب العراقي، وأن الهجمات العسكرية هي التي تعلي من شأن هذه الارادة. والثاني أن من قبلوا عضوية المجلس أو أيدوه هم الذين يمثلون ما يريده الشعب في هذه المرحلة. وأن اعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية أقرب الطرق لمطالبة القوات الأميركية بالخروج من العراق، وأن الفعل "المقاوم" واحد من طرفين: أ- بقايا النظام من الذين يريدون فرض أنفسهم على المحتل في مشاريعه لبناء النظام الجديد، كي يتفاوض معهم ويعيد إليهم أهلية تمثيل ما تطال، على الأقل، مناطق عراقية بعينها. ب- منظمات ترفع لواء اطلاق النار على الأميركيين حيث وجدوا، داخل العراق وخارجه. وقد لقيت فرصتها في الفراغ الحاصل بعد انهيار النظام. ويضيف أصحاب الجواب الثاني: مثل هذه الأعمال قد تؤدي الى عكس ما هو مطلوب: اطالة امد الاحتلال من جهة، وفتح ابواب الصراع العراقي - العراقي التي أمكن حتى الآن اقفالها. وفي الجوابين يتمحور الخلاف حول أهلية تمثيل الشعب العراقي. وهنا نحن أمام جوابين جديدين: الأول، أن المقاومة تبدأ بها القلة وتتسع لتشمل الكثرة. وهذا يتحصل في موازاة تحقيقها الانجازات ونجاحها في اثبات نفسها في الميدان. وبالتالي، ليس مهماً أن نكون ذات لون طائفي محدد اذ من الطبيعي ان تنمو بدايةً في بيئة تشدها أواصر ووشائج تمنع اختراقها. وأصحاب هذا الجواب يستشهدون بالمقاومة في جنوبلبنان والمراحل التي مرت بها والبيئات التي رعتها. والواضح ان الخطاب المقاو م ما انفك يتمثل بتجربة لبنان، سواء في الطريقة التي اخرجت فيها القوات الاميركية عام 1983، او بكيفية فرض الانسحاب على القوات الاسرائيلية في العام 2000. أما الجواب الثاني فيؤكد ان العمليات التي ادت الى اخراج الاسرائيليين والاميركيين من لبنان كانت في مرحلة مختلفة دوليا ومحليا واسلاميا. وأن الدعم الخارجي الذي حظيت به تلك المقاومة في لبنان لا يمكن ان يحصل مثله للمقاومة في العراق، ليس فقط تبعاص للتغيرات الكبرى التي حصلت دوليا بين المرحلتين، بل لأن الأولوية مختلفة عند الشعب العراقي نفسه: فالعراقيون، رغم انهم لم يستقبلوا بالورود القوات الاميركية، يدركون ان خلاصهم من أسر النظام السابق وممارساته الفائقة في قسوتها، ما كان ليتم بوسيلة أخرى غير التدخل الخارجي. ثم ان القوى التي تشكل منها مجلس الحكم العراقي لها تاريخها السياسي الطويل، وهي معروفة في دول الجوار والخارج، وبعض رموزها كان يُستقبل على مستوى القيادات العليا في تلك الدول: فهناك القيادات التاريخية للوسطين الكردي والشيعي، كما هناك تمثيل لتيارات تاريخية فكرية لعبت دورها في العراق والمنطقة: من التيار الشيوعي الى الاسلامي والوطني والقومي، عدا الوجوه الليبرالية والمعتدلة كالباجهجي وبحر العلوم. ومثل هذه القوى غير مشكوك في سعيها لانهاء الاحتلال من دون إنكار انه حقق الفقرة الأهم في برنامجها ألا وهو: الخلاص من النظام، وهو يعدها بالمساعدة في انجاز الوجه الثاني للبرنامج، أي اقامة نظام تعددي في العراق يقوم على آلية الاقتراع الحر والمساواة بين ابناء المناطق والمذاهب والطوائف والاعراق. وهذه القوى على قناعة بان البرنامج في وجهيه ليس صدقة اميركية على الشعب العراقي، إذ النجاح في تحقيقه هو السبيل الوحيد لمصداقية الادارة الاميركية امام الرأي العام عندها، كما انه السبيل الاقصر لحفظ مصالح واشنطن في المنطقة دون اضطرارها الدائم إلى تجييش وبناء القواعد، وهو ما حصل مرتين خلال عقد ونيف. إذاً، عراقياً، من المفترض ان هناك اتفاقاً على الهدف: انهاء الاحتلال وبناء النظام التعددي. وان الخلاف على الوسيلة لا يمنع من اتاحة الفرصة لأدوات العمل السلمي. لأن المجتمع القادر أن يخوض موحداً كفاح المقاومة المسلحة سيكون اقدر على خوض المعركة السلمية. وهنا تبرز مجموعة من الخلافات اهمها: ان دعم مجلس الحكم عربياً ودولياً سيعطيه قدرة أكبر على المناورة في حواره مع الأميركيين، ويوسع هامش استقلاله كلما عمّق وحدته الداخلية وتوطدت علاقاته الخارجية. ثم ان الاعمال المسلحة تتم خارج أي برنامج سياسي لاعادة بناء العراق، وقد تطيل أمد الاحتلال فيما تبدو أقرب إلى الأعمال الفردية أو الصادرة عن مجموعات صغيرة يسهل عزلها من داخل البيئات التي تحتضنها. بيد ان ذلك لا يعني نجاعة الحل الأمني في التصدي لظاهرة العمليات، إذ لا بد من حل عراقي - عراقي يقوم على تعزيز الحوار بين حساسيات البلد المختلفة، خصوصا تلك التي تُحسب، صوابا او خطأ، على انها قريبة من النظام السابق. إنها بعض أسئلة العراق اليوم، وبعض إجاباته.