لا حديث للأوساط الاقتصادية في البلاد إلا تغيير الحكومة، يتزامن ذلك مع مرور ثلاث سنوات على تدشين مرحلة جديدة في العلاقات بين الحكومة ومنظمات الاعمال. والبعض يعزو ضرورة التغيير إلى سياسة عشوائية في قرارات عدة والبعض الآخر الى مطالبة الدكتور عاطف عبيد بإعفائه من المنصب لأسباب صحية، وان كانت الأخيرة أقرب إلى المنطق من الأولى، فالتركة كما يراها "اتحاد الغرف التجارية" ثقيلة والموارد محدودة وبالتالي تتحرك الحكومة في اطار واقعي لا يمكنه بالقطع تلبية كل متطلبات المرحلة، وهناك تداعيات جراء ظروف طارئة منذ عام 1997 وقت أزمة جنوب شرقي آسيا حتى غزو العراق في نيسان ابريل الماضي مروراً بحادث ضرب السياحة في الاقصر عام 1998 وأحداث ايلول سبتمبر 2001، وبالتالي فمسؤولية الحكومة عن ذلك خارجة عن الاطار وهي تسعى إلى تحقيق ما وعدت به، لكن الظروف الدولية غير مواتية. أما "جمعية رجال الاعمال" فترى أن مسؤولية الحكومة كاملة عما جرى ويجري، ولا بد من تغيير الفكر والمنهج وليس فقط تغيير الأشخاص، في الوقت الذي طالب رئيس الوزراء الأسبق عضو "اتحاد الصناعات" الدكتور عزيز صدقي بضرورة تغيير السياسة الاقتصادية الحالية مؤكداً أن بقاء الحال كما هي سيدمر الصناعة، والعبرة ليست بتغيير الحكومة فقط بل بتغيير السياسات. في حزيران يونيو العام 2000 دشَّن رئيس الوزراء الدكتور عاطف عبيد مرحلة مهمة في علاقة الحكومة بمنظمات الاعمال في توجه مغاير تماماً عن سلفه الدكتور كمال الجنزوري الذي ترك منصبه في تشرين الاول اكتوبر 1999. والتقى عبيد غالبية المنظمات، في سابقة لم تحدث من قبل ،إذ لم يلتق أي رئيس وزراء مصري وفداً يمثل جمعيات رجال الاعمال بهذه الصورة. وعرضت منظمات الاعمال، وعددها 13 منظمة، مطالبها ورأت ان عدم تحقيقها سيخلق صداماً حقيقياً مع الحكومة على اعتبار أن القطاع الخاص يحمل على عاتقه عبء التنمية الاقتصادية والاجتماعية، واصبح في يده ما يقرب من 75 في المئة من اجمالي الناتج المحلي ومن ثم فالاستجابة لمطالبه ضرورة قومية. وتفاعلت المنظمات المعنية وبعض الجمعيات الاقتصادية الاخرى وتم ارسال مذكرات عاجلة لتنفذها الحكومة، لكن لا جدوى. وتراوحت المطالب ما بين عادية ومتشددة، وإن كانت هناك خيوط عامة تجمع بين تلك المذكرات وأبرزها: - مشاركة القطاع الخاص للحكومة في درس القرارات والقوانين الاقتصادية والوقوف على جدواها وآثارها الجانبية قبل صدورها، مع الأخذ في الاعتبار ألا تمس هذه القرارات والقوانين الجديدة الاوضاع القائمة حتى لا يضار منها السواد الاعظم في قطاع الانتاج والخدمات. - تبني برنامج اصلاح اداري فاعل يشعر به رجال الاعمال والمواطن العادي. - ترسيخ الثقة بين الجهاز المصرفي والمتعاملين معه من مستثمرين ومصدرين ومستوردين، والحد من الاجراءات الرقابية والبوليسية تجاه العاملين في المصارف، والتي تسببت في نقص السيولة في الاسواق. - المضي قدماً في برنامج التخصيص بمعدلات تتماشى مع نمو القطاع الخاص، بما في ذلك تخصيص المصارف، وشركات التأمين المملوكة للدولة والحصص التي تقرر طرحها من اسهم شركات توزيع الكهرباء والاتصالات. - تكثيف الجهود للوقوف على أسباب حالة الكساد التي تشهدها الاسواق حالياً، ويعانيها المنتجون وجميع المتعاملين مع الاسواق المحلية، وايجاد حلول عاجلة لتنشيط تلك الاسواق. - العمل على وجود استقرار تشريعي، واصلاح قضائي يمكن من خلاله الفصل في المنازعات وتنفيذ الاحكام خصوصاً الصادرة تجاه اجهزة الدولة. وفي مجال تنمية الصادرات عموماً طالبت المنظمات باجراءات عاجلة كثيرة أهمها: - اعفاء جميع أنشطة تصدير السلع والخدمات، والانشطة المساعدة بالكامل من الضرائب على العائد من هذه الانشطة بحيث تكون الضريبة مرتبطة برقم التصدير النهائي والثابت في المنافذ الجمركية والمدون في موازنة الشركة المصدّرة وكشوفاتها، علماً أن هناك قراراً أصدرته الحكومة السابقة في شأن الاعفاءات لكن لم ينفذ. - خفض الرسوم الجمركية على سيارات النقل الثقيل، لبناء اسطول بري مصري متعدد الاغراض يكون بديلاً للشاحنات التي يستأجرها المصدرون. - التطبيق الكامل لنظام الرد الفوري وتطبيق نظم الاسترداد المختلفة للجمارك والضرائب والرسوم على المدخلات الزراعية في السلع المصدر منها اسوة بالمنتجات الصناعية، ولما رأت غالبية المنظمات أن ما تحقق في السنوات الثلاث غير كاف ولم يؤثر في السوق بالايجاب طالبت بعملية تغيير شاملة. - ضرورة اصدار قوانين: الشركات الموحدة والمنافسة وعدم الاحتكار والغش التجاري واتحاد الشاغلين والرهن العقاري. - حسم الجدل في شأن المشاريع الكبرى وهل سيتم الاستمرار فيها أم سيلغى بعضها. وتطالب المنظمات ان تقلل الحكومة من مشاركتها في تمويل هذه المشاريع للحد من دخول المال العام في المخاطرة، وضرورة حساب التحليلات الاقتصادية ومعايير الكلفة والعائد الاستثماري لكل مشروع. غير أن ما حدث أصاب منظمات الاعمال بخيبة امل فما تحقق من الوعود لا تتجاوز نسبته 30 في المئة فقط، والباقي ما زال حبراً على ورق، ولا يعلم أحد متى سيتم الوفاء به. والمتابع بدقة لحركة الاقتصاد المصري، يجد ان التطور الوحيد الذي يجري على قدم وساق يخص قطاع التكنولوجيا، أما بقية القطاعات فهي "محلك سر". اما معالجة الحكومة لحالات الكساد فما زالت المشكلة قائمة وهناك تحذير من هذه المشكلة بعد الاسراف في الانفاق على مشاريع كبرى لم تثبت جدواها، وضغوط استيرادية بلغت نحو 17 بليون دولار، وعائد هزيل من الصادرات لم يزد على خمسة بلايين دولار بما فيها الصادرات النفطية التي تمثل نحو 35 إلى 40 في المئة من هيكل الصادرات عموماً، ومن ثم هناك إلحاح مستمر باقرار الكثير من القوانين التي من شأنها ضبط السوق وحماية المستهلك والمنتج معاً كل في قطاعه، وأيضاً هناك مطالبة شديدة بتخصيص شركات التأمين والمصارف، على رغم ان عملية التخصيص لم تنل استحساناً لبطء التنفيذ وعدم الثقة في إقدام الحكومة بقوة على إدراج فكرة نسبة معقولة للتخصيص من شركتي الكهرباء والاتصالات في سياسة الحكومة وليس فقط تغيير الاشخاص الذين اعتبروها خاصة بالقيادة السياسية. تغيير الفكر في هذا الإطار يطالب الرئيس الشرفي لجمعية رجال الاعمال سعيد الطويل بتغيير الفكر والمنهج. وقال: "جمعية رجال الاعمال ليست ضد شخص بعينه انما هي ضد سياسات عشوائية يتم تطبيقها". وابدى قلقه على المستقبل الاقتصادي للبلاد، وأضاف: "نحن مررنا كرجال اعمال بلحظات عصيبة جداً خلال السنوات الماضية لكن ما نمر به حالياً يزيد المخاوف لدينا من أن علاج وضع البلاد الاقتصادي قد يمتد سنوات، ما قد يفضي الى حال احتقان اقتصادية نادرة الحدوث". ورأى أن "هناك شعوراً عاماً بأن البذخ بلغ أشده وأن الاسراف بات ترفيهاً لا يمكن للحكومة الاستغناء عنه، على رغم ما نعانيه من وعكة اقتصادية شديدة، وانتهى بنا الوضع أننا بتنا دولة تنفق بما لا يتفق مع وضعها الاقتصادي، وتلك كارثة لا بد من الوقوف امامها لحسمها". وأكد أنه "إذا كانت توجيهات الحكومة تقضي بالحد من الاسراف فالفضل يرجع الى الرئيس مبارك، لأنه هو الذي انتقد بشدة هذا البذخ، وأصدر تعليمات مشددة للحكومة بضرورة مراعاة التدبير في كل شيء، وللأسف أن الجميع لا يتحرك إلا بعد تدخل الرئيس مبارك، فرئيس الدولة له مهامه المنوط بها، ولا ينبغي شغله بأشياء قد تقوم بها الحكومة". ويصف الطويل روشتة الخروج من الازمة بضرورة وصف الدواء الصحيح للمرض القائم فمثلاً "عدد موظفي الدولة كان سابقا أربعة ملايين، وأصبحوا الآن سبعة ملايين وسيقفزون الى عشرة ملايين ثم 20 مليونا قريباً جداً، هذا العدد يأخذ ثلث موازنة الدولة، وغالبية هؤلاء لا يستفيد منهم البلد بشيء، فهم عبء اضافي على اعباء اخرى". وتساءل: "لمَ لا نوظفهم لنستفيد منهم؟". وأَضاف: "هذا يتطلب تعديلاً شاملاً في الفكر الاقتصادي المصري، علماً أن لدينا عشوائية في السياسة، ادت الى الفشل في ادارة الاقتصاد، ما يحتم اعادة النظر في كيفية خلق سوق وحمايتها وتطويرها، وإلا فالمقابل سيئ جداً". ويقول الطويل الذي تمتد خبرته 50 عاما في السوق إن هناك ركوداً يأتي في كل فترة وينتهي، "لكن ما تمر به مصر ازمة حقيقية في حاجة الى ما يبررها وللاسف كنا نتوقع ذلك ولم يستمع الينا احد منذ 20 عاماً، واعتقد ان الاسباب الحقيقية للركود تتلخص في عشوائية القرارات التي تتخذها الحكومة الخاصة بالاستيراد والتصدير والجمارك وعدم التنسيق بين المشاريع العملاقة التي تكلفت ملايين الدولارات، لكن الاهم الشفافية من جهة الحكومة تجاه القطاع الخاص". تأييد الحكومة من جهته يؤكد رئيس "اتحاد الغرف التجارية" خالد ابو اسماعيل معارضته تغيير الحكومة، فالتركة ثقيلة والظروف التي واجهت كل الوزارات طارئة ومتتابعة في آن سواء في الداخل والخارج، "وبالتالي لا ينبغي القول إن هناك تقصيراً وان كنت اعتقد ان الحكومة بدأت تتلمس طريقها لازدهار الاوضاع". وقال ان رفع مستوى المعيشة في حاجة الى طول بال وليس عصا سحرية، "لأننا دولة مؤسسات وخططنا كأجهزة موضوعة، وباعتباري أعايش يومياً أركان الحكومة فإنني أعلم كم تكون المعاناة، ومقدار الجهد الذي يُبذل، كما هي حال رئيس الوزراء الذي يعمل 18 ساعة يومياً من دون ملل". وعن التفاؤل المُفرط لرئيس الوزراء في حل المشاكل قال: "الحكومة تطرح رؤية للتنفيذ في اطار خطط واحيانا تتعثر خطة او اثنتان او ثلاث من 20 او 30 خطة، بالتالي ننظر الى ما تعطَّل ونُبعد النظر عما انجز، المفروض ان ننظر الى الجهتين في آن". وتساءل ابو اسماعيل: "هل تعلم أن الحكومة الحالية واجهت في بداية توليها أربعة ملايين عاطل باتوا اليوم اقل عدداً على رغم الكساد في الاستثمارات وتباطؤ في الاسواق وزيادة رهيبة في عدد السكان؟ ما يعني ان القضاء على البطالة القائمة في البلاد في حاجة الى عشرة اضعاف الموارد القائمة، وبالتالي كفانا جلداً للذات، ولا ننسَ أن هناك اكثر من 60 بليون جنيه أنفقت على البنية التحتية في 20 عاما وفق خطط مدروسة وليست عشوائية". وعن السلبيات التي يراها في الحكومة الحالية أكد أنها "في طريقها للحل نهائياً إذ منذ شهور عدة لم يكن هناك التناغم الكامل الحاصل حالياً بين الوزارات وبالتالي بين القرارات التي تصدر عنها، واجزم ان الدكتور عاطف عبيد نجح في انشاء جسر لربط الجزر الوزارية المنعزلة". الصناعة من جهته قال رئيس الوزراء الاسبق وأحد الصناع البارزين عزيز صدقي انه لا يعنيه تغيير الحكومات، بل تغيير السياسات الاقتصادية القائمة. وأكد أن الاستثمار والصناعة في مصر يواجهان مشاكل عدة أبرزها الاستيراد العشوائي. واتهم السياسة الاقتصادية للحكومة بالسير في عكس الاتجاه، موضحاً أن عجز الميزان التجاري يصل إلى 40 بليون جنيه سنوياً. وطالب بضبط موازنة الاستيراد بأي طريقة. وأضاف أننا ندفع أجور العمالة الأجنبية في الخارج عندما نشتري المنتجات الأجنبية، وهناك عدم عدالة في تطبيق قوانين المنافسة على دول ما زالت في طور النمو. وأكد أن التخطيط لا يضيف لمناخ الاستثمار أي جديد، وأن المشكلة ليست في كون الشركات قطاعاً عاماً أو خاصاً وإنما في وجود عوائق ومشاكل تواجه الاستثمار. وأشار إلى أن القطاع العام قام بتوفير حاجات مصر من السلع المختلفة خلال حرب تشرين الأول أكتوبر 1973 من دون استيراد أي سلع من الخارج. وأضاف أنه تم وقتها إعداد مخزون سلعي يكفي مصر لمدة أربعة أشهر اعتماداً على الانتاج المحلي فقط. وانتقد الاستعانة بخبير تونسي لتحديث الصناعة المصرية، وقال: جميع الدول العربية يعتمد في صناعته بشكل أساسي على الخبرات المصرية. وتساءل: "كيف تستورد مصر الفول المدمس من الخارج؟ ولماذا لا تضع الحكومة ضوابط حقيقية لتنظيم عملية الاستيراد؟". وأوضح أن الحكومة تسببت بكثير من العوائق والمشاكل الخاصة بالاستثمار. وضرب المثل بقانون ضريبة المبيعات والمراحل المختلفة منها. وقال إنه الآن رئيس إحدى شركات القطاع الخاص ويعاني معاناة كبيرة كمستثمر من المشاكل والروتين الحكومي. وطالب صدقي الجهات الحكومية بعدم منح مستثمرين تراخيص للعمل في قطاعات تزيد طاقاتها على الحاجات المحلية، مؤكداً أن أزمة الاستثمار العشوائي هي احدى أخطر المشاكل التي نعاني منها حالياً.