شكل موضوع "العولمة الاقتصادية وموقع سورية فيها" عنواناً لعدد من المحاضرات عقدت أخيراً وشارك فيها خبراء وأكاديميون سوريون، وتناولت البحث عن صيغة ل "تكيف" الاقتصادي السوري مع المتغيرات الدولية وتقويم الخطوات التي اتخذتها الحكومة في الأعوام الأخيرة باتجاه الانفتاح. وطالب عدد من الخبراء بوجوب "التخطيط انطلاقاً من رؤية المستقبل أكثر من الحاضر، ذلك ان العودة من المستقبل البعيد الى الحاضر من شأنها ان تلقي أضواء على مهمات الحاضر تختلف من المنظور الحالي"، وأشار خبراء الى أن مشاكل الاقتصاد السوري ليست مشاكل مرتبطة بماضيه وتجربته الراهنة لكنها مشاكل أبعد مدى من الماضي والحاضر، وهي تتعلق بالنظر الى مستقبل الاقتصاد ومدى التحديات التي تواجهه. وقال أحد الخبراء: "ان انتقال سورية من نظام الانتاج الوطني المحمي من قبل الدولة الى نظام السوق الذي يكون الانتاج فيه من دون أي سند سوى قدراته الخاصة، يعني مواجهة منافسة ضارية في كل أنواع المنتجات، في وقت سيكون المنتج المحلي عاجزاً، الى حد كبير، عن خوض هذه المنافسة لأسباب كثيرة منها ان البضائع الأجنبية ستكون أكثر جودة وأرخص ثمناً مما يقدمه المنتج المحلي، بسبب ما تتمتع به الدول المنتجة من خبرات وطاقات علمية وصناعية وقدرة على الابتكار والتطور باستمرار وتسارع مذهلين ما يعني كساد الانتاج الوطني". وبدأت أخيراً مفاوضات لتوقيع اتفاق شراكة مع أوروبا ستؤدي الى ازالة الحواجز الجمركية. ويعتبر بعض الخبراء ان سورية محظوظة حتى الآن لأنه لم تفرض عليها حلول من الخارج، غير أنهم يجمعون على ضرورة معالجة المشاكل الاقتصادية الراهنة بسرعة لتجنيب سورية تدخل أطراف خارجية في صياغة برامج الاصلاحات الاقتصادية والفنية فيها. وقال الخبير الاقتصادي عصام الزعيم: "ان احدى المشاكل التي تعاني منها سورية هي النظرة الى العولمة على أنها خيار بين أمرين، اما الاستمرار على ما نحن عليه أو الأخذ بوصفة البنك الدولي، لكن هذا ليس صحيحاً لأن لسورية خيارات كثيرة وعليها المفاضلة بينها بشكل يوازن بين الاندماج والاستقلال الذاتي". وأضاف: "على رغم كون سورية محظوظة بالموارد الطبيعية إلا أن البنية الصناعية تبقى محدودة الموارد". وتنتج سورية يومياً نحو 650 ألف برميل نفط تصدر منها 350 ألفاً، اضافة الى انتاج 12 مليون متر مكعب من الغاز. ولا تملك سورية غير النفط والغاز موارد طبيعية مهمة بالمعنى الاستراتيجي. وقال الزعيم: "ان البنية الصناعية السورية لا تسمح ببيئة متكاملة لأن الاقتصاد السوري ضيق من حيث القاعدة وضيق من حيث الموارد كما ان الصناعة التحويلية تراجعت أخيراً". وتتربع صادرات النفط الخام قمة الصادرات السورية وتشكل أكثر من 50 في المئة من مجمل الصادرات وبلغت قيمته 18.5 بليون ليرة سورية الدولار يساوي خمسين ليرة وصدرت من القطن الخام ما قيمته 2.1 بليون ليرة ومن القمح 1.1 بليون ليرة ويمكن استيراد نحو 400 مادة وسلعة بدءاً من الآلات ومروراً باطارات السيارات والأدوية. ودعا الخبراء الى ضرورة درس الواقع الاقتصادي والصناعي ومعرفة التخصص الأمثل للاقتصاد السوري والصناعات التي يجب تطويرها. وقال الزعيم: "ان صناعة النسيج واجهت بعد الانفتاح منافسة شديدة من منافسين كانوا ينتظرون بكفاءة عالية في وقت كانت الصناعة السورية تركز على الأسواق الحبيسة التي لا تواجه منافسة حقيقية". ودعا الى دراسة البيئة الاقتصادية المنافسة اولا والبيئة الاقتصادية العربية والنظر الى الصناعات الأخرى. وأشار أحد الصناعيين الى أن سورية بدأت بانتاج الخيط التركيبي لكن السؤال: هل جرى تقويم دقيق للأسواق الدولية عندما انخرطت سورية بشدة في الانتاج المعتمد على الألياف التركيبية؟ واعتبر الخبراء الاقتصاديون ان سقوط الدول الاشتراكية التي كان يتم التصدير اليها وفقاً لاتفاقات ذات طابع سياسي وما يسمى بميزان المدفوعات "كشف مدى تخلف صناعتنا حيث اعتمدت سورية في نموها الاقتصادي والصناعي على التدفق المالي والتقني من الدول الاشتراكية ما أدى الى ضعف القدرة التنافسية لمنتجاتنا". وأشار صناعي الى انه قرأ في صحف أوروبية عبارة مطبوعة بالأحرف الكبيرة: "احذروا الانتاج السوري". وقال: "ان حماية الصناعة الوطنية تفرض صناعة رديئة اضافة الى أن عدداً لا بأس به من الصفقات التجارية التي صدر بموجبها بعض الصناعيين والمنتجين السوريين عموماً انتاجهم من أقمشة أو ملابس جاهزة أو منتجات زراعية كانت مخالفة لشروط الصفقة، وحين اكتشف المستوردون الأجانب ان البضاعة تحتوي على كميات كبيرة من السلع الفاسدة أعادوها الى صاحبها ثم قطعوا علاقتهم بالبلد كله". ويذكر ان الحكومة تفرض قانون حماية الصناعة الوطنية وتمنع استيراد المواد التي ينتج مثلها السوريون. في الاطار ذاته أكد الزعيم على أهمية دور الدولة في توجيه الاقتصاد في قطاعاته العام والخاص والمشترك "وبين المجتمع المدني وأصحاب رؤوس الأموال وبين الاداريين خصوصاً في هذه المرحلة التي تتصف بالتنافس المتزايد". وبعدما قال ان الدولة غير معادية للأداء الاقتصادي وشرط الملكية ليس حتمياً من أجل حسن الادارة الاقتصادية، وأكبر دليل على ذلك ان من يدير الشركات المتعددة الجنسية هم موظفون فيها وليس مالكوها، كما ان الدولة هي التي حققت النجاحات للتجارب الآسيوية في اليابان والمجموعة المعروفة ب "النمور الآسيوية"، قال: "ان الاقتصاد السوري يتطلب مزيداً من التخطيط القصير والطويل الأجل بهدف الحد من اضرار آلية السوق والحد من البطالة والركود الاقتصادي والاستثمار والمتابعة الدقيقة لأسواق السلع والمواد التي تهم اقتصادنا". وأشار أحد الخبراء الى ان الثقة بقرارات الدولة تشجع رؤوس الأموال على الاستثمار والعكس صحيح. وقال: "يصدر قرار اليوم ثم يُعدل بعد فترة، من يحمي رأس المال بهذه الحالة وتلغى الضريبة ثم بعد شهرين أو ثلاثة تغير الدولة رأيها وتصدر قوانين رجعية، اننا نحتاج الى الثقة ولا يجذب رأس المال الا الثقة التي تكتسب عن طريق التجربة والوقت، وليس كما حدث للقانون رقم عشرة عام 1991 الذي عُدل أكثر من مرة بأثر رجعي اضافة الى عدم الوضوح في الكثير من فقراته". وقال الزعيم: "ان صدور القانون رقم 10 جذب استثمارات مهمة لكنها لم تحقق تحولاً صناعياً وتقنياً مرضياً وهذا لا يتعلق بضعف وعي الصناعيين أو سوء نيتهم، لكنه يتعلق بالدرجة الأولى بعدم وجود سياسات وأنظمة من أجل تحفيز المستثمرين". وأضاف آخر: "عندما يزداد حشد الاستثمار مثلاً في صناعة محارم الورق يجب أن يتغير القانون من أجل ردع مستثمرين جدد، وعندما تقل الاستثمارات في قطاع معين من القطاعات يجب منح مزايا اضافية للاستثمار بهذه القطاعات". وذكر "ان الخطأ يكمن في طريقة وضع القرار ذلك لأنه من الضروري قبل سن القانون تبني استراتيجية استثمارية وصناعية ومن ثم عندما نبني استراتيجية نحدد الأهداف والسياسات لبلوغها، ومن ثم تأتي القوانين بصورة مرنة ومتنوعة في تناولها للاستثمار في القطاعات المختلفة". وأشار الزعيم الى أن الواقع الجديد يفرض تحديات جديدة منها تفاقم البطالة وتفاوت التطور الاقليمي "لذلك لا بد من تدخل الدولة لتصحيح هذه الآلية اضافة الى دور الدولة في حماية البيئة، ذلك ان حصيلة التطور الصناعي مثلاً في منطقة حمص وسط البلاد أدى الى تلوث البيئة الى حدود الكارثة الوطنية بسبب تركيز الصناعات في منطقة صغيرة وهذه مسألة ستزداد خطورة في المستقبل"، وحض على ضرورة اقامة مراكز البحوث والتأهيل المهني ورفع مستوى التعليم وتحديث محتوى البرامج التعليمية لايجاد فرص العمل وهي من مهام الدولة ولا يستطيع القطاع الخاص القيام بها. وأجمع اكاديميون على ضرورة التركيز على المستوى التقني للصناعة ليس فقط للتعامل مع ظاهرة العولمة بل أيضاً من أجل الشراكات التي نسعى اليها ومنها الشراكة الأوروبية بطبيعة الحال، فسورية لم تدخل بعد المستوى العلمي والتقني الذي يؤهلها لشراكة أو عولمة لا تأتي بآثار شديدة السوء على حياتنا الاقتصادية والاجتماعية. ودعا الزعيم الى "تطهير أجهزة الإدارة من الجهلة تمهيداً لتطوير أساليب الإدارة حسب مقتضيات اقتصاد السوق وتوفير المزيد من ظروف الحركة والعمل لمواجهة غزو العولمة المقبل ومضاعفاته الخطرة في جميع مرافق الحياة السياسية والاجتماعية الثقافية عموماً، خصوصاً في سياق الصراع العربي - الاسرائيلي القائم حتى الآن".