في أوائل أيار مايو الماضي، نبهت التفجيرات الانتحارية في الرياض، ثم الدار البيضاء، العرب ان الارهاب الاصولي ارتد عليهم بعد ان حوصر في الخارج. هذه التفجيرات تركت المجتمعات والحكومات والكتّاب في ذهول وحيرة، تذكرنا بما اصاب اميركا إثر انفجارات 11 ايلول سبتمبر، مع الفارق بين الارادتين، اذ تحولت الحيرة عبر الاطلسي في غضون ايام قليلة الى عزم وتخطيط ثم البدء بالتنفيذ، بينما سيتواصل الجدل داخل العقل العربي لفترة، قد تطول الى ان تأتي الضربة المقبلة! الكل عرف المسؤولين، لكن لا احد يريد التعمق في اسباب فشل العرب في اجتثاث ظاهرة الارهاب. في نقاش أداره الاذاعي المعروف حسن أبو العلا من القسم العربي في اذاعة لندن 22/5/2003 تحدثت ست شخصيات عربية مهمة، كتّاباً ورؤساء تحرير ومسؤولين ومتخصصين، عن الارهاب الاصولي وسبل مواجهته، اتفقوا في النهاية على ان دحر هذا الارهاب بوقت سريع امر في غاية الصعوبة، وعزا جهاد الخازن، اول المتحدثين، هذه الصعوبة الى اختلاف الارهاب الاصولي عن الارهاب العلماني: "هنا تواجه شخصاً يأتي ليفجر نفسه ويفجرك لأنه يريد الذهاب الى الجنة". هذا الكلام صحيح الى حد كبير، يضاف اليه، ان "الحياة" تلقت 17 رسالة تهديد من الظواهري عام 1997 لأنها كانت ترفض نشر بياناته، مع ذلك التزمت الجريدة موقفها على رغم انفجار احد الطرود في مكتب الاستعلامات، في لندن. هذا الكلام ايضاً للاستاذ الخازن وبتوسيع مني. إذاً في ضوء جفاء حاد بين عقليتين، الارهاب والمسؤولية الواعية، ينغلق الحوار دائماً. فإذا كان العرب جادين في رغبتهم للتخلص من النشاط الاصولي، عليهم ان يغلقوا ابواب "الوعد بالجنة" في وجه الاصوليين. لا أمزح، ولا اسخر من احد، وقد سمعت وشاهدت وقرأت آلاف الاصوات تعبر عن نقمتها وقرفها من التفجيرات التي حدثت في الرياضوالدار البيضاء، بيدَ ان تلك الاصوات جاءت كردود افعال يمحو الزمن القصير اثرها الى ان تفرقع المتفجرات من جديد، وهي لا تختلف بحال عن ردود افعال الحكومات العربية، التي ضيعت بعد انفجارات 11 ايلول فرصة عظيمة لتطويق الارهاب الاصولي وكسر شوكته. الآن على العرب، وقد انقلب نشاط الاصوليين عليهم، ان يغلقوا ابواب "الوعد بالجنة"، اذ لا سبيل آخر امامهم، والحكومات العربية وحدها تستطيع هذا، لأن ملاحقة بعض الناشطين ومحاكمتهم قد يدمر بعض الخلايا، لكنه لا يحل المشكلة. كيف يمكن الحل، من غير اضافة المزيد من التعميم الى ارشيف الثقافة العربية الزاخرة بالتعمية والعموميات؟ إن مجرد الحديث عن الثقافة العربية السائدة يثير القرف بالقوة نفسها التي يثيرها الكلام على الارهاب، بيدَ ان العازف الاكبر، الآن، على الناي الذي يستعمله الاصوليون لاغراء المراهقين والشبّان بركوب قطاراتهم السريعة الى الجنة هو الاعلام العربي، متمثلاً في 140 فضائية، وآلاف الصحف، الكبيرة والصغيرة. ومنذ بدأ هذا الكم الغزير من الاعلام بالتسابق على نشر بيانات الاصوليين وأحاديثهم المباشرة، لم يعد الظواهري في حاجة الى تهديد صحف تلتزم موقفاً اخلاقياً من هوسه بالقتل، لأنه يجد صحفاً قليلة كهذه غارقة بين فيض من الشاشات تعكس بلا مواربة تبشيره الاصولي، سواء في طريقة صوغها للأخبار أم في تحليلها للوضع العام في المنطقة العربية، اي الميدان الذي يشكل المصدر الاول للمراهقين الذين تلوح لهم الجنة التي وعدهم بها قياديون ارهابيون، افضل بكثير من العناء التي يتطلبه العيش في مجتمعات غارقة في البطالة، إضافة الى عدد كبير من الواهمين بأن الامبراطورية الاسلامية العالمية ستقوم قريباً نتيجة تفجيرات يعد لها الظواهري من الكهوف بمعدل تفجير او تفجيرين في كل اربع سنين! هنا نبدأ بالاشارة الى القوت اليومي الذي يعرضه الاعلام العربي على الذهن المكدود للمواطن، هذا القوت الذي يكتب بسرعة، ويكرر عدداً محدوداً من الافكار، تتقافز بين الاعمدة اليومية ومربعات التحليل، تتولى الفضائيات اعادة قراءتها وشرحها في ندوات مفتوحة يمكن لأي مستوى من المشاهدين المشاركة فيها عبر الهاتف. وتقوم الأفكار المذكورة، التي يعبر من خلالها الاعلامي عن ذاته، على ان الارهاب الاصولي جاء كرد فعل على المشكلات البطالة وغياب الديموقراطية وموقف اميركا المنحاز لاسرائيل، لكن الاعلاميين لا يلاحظون على الاطلاق ان الفكر الارهابي يحمل الكراهية الشديدة للديموقراطية، ولم يقدم في دعايته ومنهجه السياسي حلولاً اقتصادية واضحة، وفي تجربتين لامعتين استمد منهما الاصوليون العرب الدعم والتدريب ايران وأفغانستان عطّل الحكام هناك المدارس والمؤسسات الصناعية البسيطة، او كلفوا رجال الدين الاشراف عليها، الى ان اصبح حمل السلاح المهنة الوحيدة التي يتزاحم عليها ملايين العاطلين من العمل، اما المشكلة الفلسطينية، فلم تحظ لدى الاصوليين بالمرتبة التي خصصوها لفكرة قيام الدولة الاسلامية العالمية، سلاحهم الدعائي الأقوى للعب برؤوس المراهقين! هذا الربط المداور بين الاصولية والمشكلات المدنية يوحي للمراهقين اثناء سماعهم الاذاعة والفضائيات في بيوتهم، ان الحركات الارهابية تعمل للاصلاح الاجتماعي ولرفع شأن الامة، فيتهيأون نفسياً للانخراط فيها حينما تتصيدهم الجماعات الاسلامية المتطرفة، لتباشر معهم عملية تلقين في اجواء شديدة الكتمان، تمنعهم خلالها من الاختلاط بأقرانهم خوفاً من وصول افكار مغايرة او ساخرة قد تهز عقولهم الخام. وقد ذكر اهل المراهقة المغربية 19 سنة التي شاركت في تفجيرات الدار البيضاء انها اخبرتهم عن ذهابها للجامعة حينما توجهت الى المنظمين ليزنروها بالمتفجرات، بينما توصلت المعلومات الاستخبارية الى ان محمد عطا عاش فترة طويلة قبل تفجير الطائرات 11 ايلول في عزلة، لا يختلط بغير المشاركين في العملية. والاسلوب هذا يطبق حتى اليوم مع مراهقي "حماس" و"حزب الله" و"الجهاد" و"القاعدة"، وفي جميع العمليات الانتحارية لا يعرف ذوو المراهقين عن انخراط ابنائهم في الحركات الاصولية الى ان يذاع اسم المنتحر وصورته فيجهشون بالبكاء غير مصدقين، وفي غمرة المفاجأة وحرارة الصدمة يدلون بأقوال تبارك موته على رغم شناعته وهم محاطون بتهليل وتكبير اعضاء يرسلهم التنظيم لهذا الغرض، ثم يمنعونهم من الاتصال بالصحافيين والمراسلين، بعد ان يطمئنونهم الى ان الحركة ستغطي تكاليف الدفن، ويهمسون ايضاً عن مساعدة مالية في وقت لاحق. وإذ ينشغل اعلام الثقافة العربية في جدلهم المعتاد، القائم على التنظير ولوك العموميات، يهملون كلياً اسلوب الاختطاف العقلي الذي يلجأ اليه الاصوليون مع المراهقين، والارهاب ضد الاهل لتجنب سقطة اللسان التي قد تفضح الجانب اللاقانوني واللاإنساني في عملهم المنظم، لأن الحركات الاصولية تلجأ الى التغرير بالقاصرين وعزلهم وتدريبهم الى ان يبلغوا سن الرشد، وأحياناً قبل ذلك، لترسلهم في العمليات الانتحارية. هؤلاء الصبيان لا يمكن لعقلهم الصغير، المخدر، تقدير جسامة ما ينفذون. ولأن مقولة الشهادة تقوم على خداع المراهقين والشبّان ممن يعانون حالات نفسية مضطربة، لم أشهد يوماً قائداً أصولياً واحداً، حتى من الدرجة الثالثة، شارك في عملية انتحارية بنفسه ليقدم برهاناً على إيمانه بدعواه، لا في فلسطين، ولا في لبنان ولا في بقية العالم! بل إن هؤلاء القادة محاطون دائماً بالحماية، وعندما يحسّون نُذر المطاردة يلجأون الى العيش في اماكن تصعب معرفتها، يتبعهم حرسهم وكل متطلبات الحياة التي تعودوا عليها. وشهد العرب فرار بن لادن وبقية قياداته الى المناطق الوعرة حالما دخل جنود الحلفاء افغانستان، فترك وراءه انصاره يواجهون القوة الأميركية ثم يسلمون بعد ان يتساقط عدد قليل منهم! فضيّع ابرز دعاة "الجهاد" هكذا فرصة ثمينة للذهاب الى الجنة، لسبب واحد انهم غير مقتنعين تماماً من وصولهم إليها. هذا السلوك المخزي ايضاً لم يدفع الكتّاب والصحافيين العرب الى ملاحقة ظاهرة الأصولية عبر خطة مكثفة، طويلة النفس، لتسفيه دعاوى القادة الأصوليين امام الناس، ومحاصرة نشاطهم بالكشف، وبإلحاح يومي عن لا قانونية ولا انسانية العمليات الانتحارية منذ بداياتها الأولى، وأينما كانت المواقع التي تعمل فيها، لأن الإرهابي يبدأ بخصمك، ثم ينقلب عليك، وهذا ما يحصل الآن. أعرف ان افتقار المجتمعات العربية الى قيم عصرية، تلتزم مفهوماً واحداً للقتل والموت، هو الذي يجعل الأفكار تختلط ببعضها بعضاً، ما يؤدي الى التقاء الأصولي والمثقف في الرأي لدى التطرق لكل المشكلات والمظاهر التي تعانيها المجتمعات العربية، وهذا امر مخيف! حقاً مخيف عندما ينتشر في منطقة بهذا الاتساع! لأنه يحدث لدى النقاش حول الديموقراطية والطغيان، حول التخلف والتحضر، اليمين واليسار، الرجعي والتقدمي، المتسامح والمتعصب، النزيه والمتلاعب! وأخيراً يندهش المثقفون، من الصحافي الصغير الى المحلل الكبير، حينما يلاحظون خوف الأوروبي او الأميركي من المسلم، او اعتباره كل العرب ارهابيين، من دون ان يلاحظ هؤلاء المثقفون ان من يمثّل العرب الان ويعكس صورتهم في العالم هو الحركات الأصولية وأخبارها، بكل ما يثيره نشاطهم الانتحاري من اشمئزاز واستفزاز لمشاعر الغربيين، تلك المشاعر التي استقرت على مفاهيم وقيم تميّز بين قتل المذنب وقتل البريء، قتل الطفل وقتل الناضج، ولا تسمح أو تبرر لأي قضية، مهما كان سموها، الخلط بين مبادئ الأخلاق والأهداف السياسية. بينما يستطيع الكاتب العربي بمجرد استنكار القتل في كلمتين، الإطناب من ثمّ في شرح وتبرير اسبابه: العمليات الانتحارية بشعة، إلا ان الدوافع إليها كثيرة! وصدام حسين حفار قبور من الدرجة الأولى، لكنه يدافع عن قضايانا القومية! وياسر عرفات يدير سلطة فاسدة، بيد انه منتخب شرعياً! الى آخر مناقشات التيه والتضليل التي رسخت في العقل الباطن لغالبية الناس ميلاً الى الابتهاج بالمجازر حينما يكون بين الضحايا عدو واحد. في حال كهذه، ومن دون ايجاد ضوابط اخلاقية، ومعايير واضحة وملزمة للإعلام في صوغه للخبر، وتحريره للمواد المكتوبة، واختياره للموضوع، لن تستطيع الحكومات العربية اجتثاث النشاط الأصولي، وهذا ما عنيته بإغلاق ابواب الوعد بالجنة في وجه المنظمات الإرهابية. * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.