يبدو أن الإسلاميين المعتدلين لا يشعرون بأي قلق من الصورة البشعة للحركات المتطرقة التي تزداد انتشاراً في كل يوم بسبب ما يقوله ويفعله قادة شبكة "القاعدة" وأتباعهم في بلاد عدة في العالمين العربي والإسلامي! قادة شبكة "القاعدة وأتباعهم لا يفعلون إلا القتل ولا يتكلمون إلا تحريضاً على مزيد من سفك الدماء. والمهم أنهم قدموا، ويقدمون، أنفسهم باعتبارهم حركة إسلامية أصولية تختلف مع غيرها من الحركات التي ترفع لواء "الإسلام السياسي"، ولكنها تظل في النهاية امتداداً لها. وفي الوقت الذي تتجه "القاعدة" الى اعتماد الاغتيال أسلوباً رئيساً لها، إضافة إلى عمليات التفجير الانتحارية، تتوالى "فتاوى" قادتها تحريضاً على القتل المنفلت من أي قواعد أو معايير أو أحكام شرعية. وبعد أن كانوا اتجهوا الى التركيز على مواجهة من يسمونه "العدو البعيد" أو "الصليبيين واليهود"، عاد منظرهم الأول أيمن الظواهري أخيراً الى التحريض على "جهاد المرتدين الحاكمين لبلاد الإسلام" وكل من يعتبرونه موالياً للكفار، وذلك في كتابه الأخير الذي وضع على شبكة "الانترنت" في عنوان "الولاء والبراء". ذهب الظواهري الى أنه من أعظم صور الجهاد العيني في هذا الزمان جهاد الحكام المرتدين الحاكمين بغير شريعة الإسلام الموالين لليهود والنصارى. وهذا الأمر مما اتفق عليه العلماء واستفاضت فيه أقوالهم التي أورد بعضها منتزعاً من سياقه في كثير من الأحيان كما يفعل كثير من أنصار الإسلام السياسي. ولم تمض أيام على نشر هذا الكتاب الكترونيا، حتى ظهر على "الانترنت" أيضاً العدد الرقم 60 من نشرة "المجاهدون" وقد افتتحه الظواهري بكلمة أشد تحريضاً على القتل، حتى يخيل لقارئها أن الفريضة الأولى في الإسلام هي قتل غير المسلمين، على رغم أنه أكثر الأديان احتراماً للتعدد الديني والحضاري والثقافي وعلى كل صعيد. وحتى اللغة التي استخدمها الظواهري تسيء، لفرط بشاعتها، الى كل مسلم. لكنها تلحق ضرراً أكثر فداحة بالحركات الإسلامية المعتدلة التي عجزت عن اتخاذ خطوة جادة باتجاه القطيعة المعرفية مع شبكة "القاعدة" والحركات الإسلامية القطرية التي تنضوي تحت لوائها. فهو يقول مثلاً: "اذبح كما يذبحون. واقتل كما يقتلون. فإنهم لا يعرفون غير لغة القوة والبطش". وهذا موقف لا يمت بصلة الى الإسلام الذي يضع ضوابط شرعية لا يجيز للمسلم انتهاكها حتى في مجال الرد على أعدائه. وبغض النظر عما إذا كانت افتتاحية الظواهري هذه مكتوبة حديثاً أو تعود الى فترة سابقة، فإن وضعها في صدر العدد 60 من نشرة "المجاهدون" كان مقصوداً. بل إن اختيار هذه الافتتاحية بصفة خاصة لا يخلو من مغزى، وهو أن "القاعدة" والحركات الإسلامية المرتبطة بها لم يبق لديها ما تقدمه إلا التحريض على القتل العشوائي، ويشمل هذا التحريض قتل مسلمين وغير مسلمين. ولا معيار في ذلك إلا توافر الامكانات اللازمة لممارسة عمليات اغتيال من نوع تلك التي راح ضحيتها أخيراً السياسي اليمني الديموقراطي جار الله عمر على رغم أنه كان أحد أبرز المدافعين عن حق الحركات الإسلامية في المشاركة في الحياة السياسية. فإذا كان في امكان أتباع "القاعدة" اغتيال أميركيين في الأردن والكويت مثلاً، فليفعلوا من دون أدنى تمييز بين جنود وأطباء. وإذا لم يكن في امكانهم الوصول الى أميركيين في بلد آخر، فليضعوا سياسيين ومثقفين يمنيين بارزين في "قائمة الموت". هذا كله، وحركات الإسلام السياسي المعتدلة تتجاهل الأمر كأنه لا يعنيها. فإذا سئل أحد قادتها أو ممثليها عن رأيه، كرر عبارات تقال عادة حتى أخذت شكل "الكليشيه"، وتدور حول رفض هذا الأسلوب ونبذ العنف وتأكيد الحرص على العمل السلمي. وهذا كلام جيد، لكنه يفيد التمايز عن "القاعدة" وأتباعها لا القطيعة معها. والتمايز بين طرفين وارد تحت المظلة نفسها. وهذا ما تروج له "القاعدة" الآن، كما يتضح من الرسالة الأخيرة المنسوبة الى أسامة بن لادن والتي تحمل عنوان "العمل الإسلامي بين دواعي الاجتماع ودعاة النزاع" وهو يدعو فيها الى وضع حد للنزاع بين الحركات الإسلامية أو ما يسميه فصائل العمل الإسلامي المختلفة الموجودة على الساحة. وتعزيزاً لهذه الدعوة، توضح الرسالة أضرار الخلاف بين هذه الفصائل، وتقدم ما تعتبره أدلة شرعية على وجوب الوحدة والاجتماع ونبذ الفرقة والنزاع. وعلى هذا النحو، لا يرى بن لادن في الخلافات القائمة بينه وبين بقية الحركات الإسلامية، التي لم يستثن أياً منها، ما يحول دون الوحدة وليس فقط التعاون. فإذا كانت الحركات الإسلامية المعتدلة ترفض هذا الطرح، فهي لا تبدو مقنعة لأنها لم تقدم على قطيعة معرفية مع بن لادن وشبكته وأتباعه، فكل ما فعلته هو اتخاذ موقف سياسي مؤداه التمايز لا القطيعة. ولدينا نموذج واحد لا أكثر، في ما أعرف، للقطيعة المعرفية في إطار العلاقة بين الحركات الإسلامية المعاصرة. والمفارقة أنه صدر عن قيادي في إحدى الحركات المتشددة التي راجعت مواقفها أخيراً، وهي "الجماعة الإسلامية" المصرية، بهدف القطع مع "الجماعة الإسلامية المسلحة" الجزائرية، ذات الصلة الوثيقة مع شبكة "القاعدة". فقد كتب محمد مصطفى المقرئ دراسة طويلة عميقة وموثقة لإثبات عدم صحة فتوى أصدرتها هذه الجماعة تجيز قتل المدنيين، وصدرت الدراسة في العام 1998 في كتاب عنوانه "حكم قتل المدنيين في الشريعة الإسلامية". وتصلح هذه الدراسة أساساً يمكن حركات إسلامية معتدلة أن تستند إليه لتحقيق القطيعة المعرفية مع بن لادن وشبكته وأتباعه. فالدراسة أشمل وأوسع نطاقاً من الهدف الذي سعت اليه، وهو تحريم قتل المدنيين. ويتضح ذلك من قول مؤلفها أن الحركة الإسلامية اليوم متهمة بقتل الأبرياء واستهداف المدنيين. وليس هذا الاتهام محصوراً في فصيل أو أكثر ينتهج هذا المسلك بالفعل، ولكنه موجه للجماعات الإسلامية الجهادية بعموم، بل للحركة الإسلامية كلها، حتى تلك الجماعات التي لا تعتمد القوة منهجاً للتغيير، إذ تفسر مواقفها المعلنة بأنها مجرد مناورات، وأنها لا تعكس حقيقة المنهج، بل يذهب البعض أكثر من ذلك حينما يعتبر أفكار الجماعات الإسلامية راجعة كلها الى منهج واحد لأنها تنهل وتستقي من منابع وأصول مشتركة. هذا ما كتبه المقرئ قبل ثلاثة أعوام تقريباً من أحداث 11 أيلول سبتمبر، التي أدت الى ترسيخ المعنى الذي سعى الى تفنيده. وهو لم يكتف بإصدار بيان أو تصريح فيه بضع كلمات من نوع "الكليشيه" الذي يردده قادة بعض الحركات الإسلامية المعتدلة وممثلوها، بل عكف على عمل كبير يمثل قطيعة كاملة مع دعاة القتل والذبح. فإذا كان عدم إقدام هذه الحركات على القطيعة مع "القاعدة" يرجع الى أنها تضم حركيين على مستوى عالٍ ولكنها تفتقد مفكرين ومنظرين على المستوى نفسه، ففي امكانها أن تنطلق من دراسة المقرئ لتطويرها في هذا الاتجاه. ولكن، ليس افتقاد المفكرين المشكلة الوحيدة التي يمكن أن تفسر موقف تلك الحركات. ففي داخلها قادة يرون في ممارسات "القاعدة" نفعاً، ويظنون أن مهاجمتها مصالح أميركية يزيد رصيد الحركات الإسلامية عموماً ولا ينقصه، ويتخيلون أن أفعالها تدعم المد الإسلامي ولا تضعفه. وشيوع هذا الاعتقاد أخطر ما يهدد الحركات الإسلامية المعتدلة، فأصحابه، الذين يكرر بعضهم مقولة أن الحركات الإسلامية هي المستقبل، يخاطرون بهذا المستقبل ويرهنونه بسيناريو تصاعد الصراع بين العالمين الإسلامي والغربي. لكن هذا السيناريو يظل أقل احتمالاً بكثير من سيناريو التعايش. * كاتب مصري.