قام موظف أميركي بتمثيل العراق في مؤتمر اقتصادي عالمي مؤتمر اميركي في الواقع على ضفاف البحر الميت. وفي سياق المؤتمر نفسه صرّح نائب رئيس المال الاميركي وهو الرجل نفس الذي حارب في الادارة، على حد تعبير "يديعوت أحرونوت"، من أجل ضمان ضمانات القروض لإسرائيل أخيراً، صرح الى هذه الصحيفة الاسرائيلية بأن الشركات الاسرائيلية مدعوة للمشاركة في إعادة اعمار العراق، وان البضائع الاسرائيلية مرحب بها، وانه "لا توجد حتى جمارك في العراق"، وان هذا الجهد مفيد للاقتصاد الاسرائيلي. أما الجهد المبذول في مطالعة الصحف الاسرائيلية هذه الايام فيبدو غير مفيد للصحة. ففي اليوم نفسه أكدت لنا "معاريف" الاسرائيلية أن البنتاغون يهدد بضرب سورية اذا لم تلبِ طلبات باول... والعنوان مبني على نمط توزيع المهمات بين المحقق الجيد والمحقق السيىء: اذا لم يتجاوب المتهم مع إلحاح المحقق الهادىء بالاعتراف فسيقوم المحقق الجلف والعصبي المزاج بالاعتداء عليه. ولذلك تبدو في العنوان الرئيسي صورة رامسفيلد وهو يرفع اصبعه مهدداً. وقد أنكرت المصادر الاميركية المعروفة هذا الخبر. لذلك يبدو لنا ان الاسرائيليين في قوقعة اللغة العبرية يعيشون مثل العرب أيضاً عالم اوهامهم وتمنياتهم، فهم يتحدثون في اعلامهم بغرور من يقرر للبيت الأبيض والبنتاغون. ولو تُرجمت هذه المقالات الى الانكليزية ونُشرت في اميركا لأتهم اصحابها بالعداء للسامية لأنهم يفترضون أن اسرائيل تسيطر على اميركا، وتقرر في اقتصاديات العراق، وفي امر توجيه ضربة عسكرة اميركية الى سورية، اذ تدعي أنها تدرك ما تريده اميركا أفضل من أي مسؤول اميركي. وقد يكون نشر مثل هذا المزاج الاسرائيلي عما ينبغي على اميركا ان تفعله في المنطقة العربية هدفاً قائماً بذاته، فيعتاد الناس على هذه المصطلحات كأطر رائجة لقولبة التفكير بهذه الدنيا، هذا اضافة الى دب الرعب في قلوب العرب ليستسلموا من دون استغفار الى اسرائيل كلية القدرة. لكن هذه الوقاحة الاسرائيلية مؤشر الى الحالة الرسمية العربية التي فقدت الخجل ومعه الكرامة في حالات عديدة. والمقصود ليس فقط تكبد مشاق السفر حتى ايفيان "لتمجيق" الرئيس الاميركي، والتمجيق بالسوري واللبناني والفلسطيني هو التقبيل الثقيل الظل الذي يكاد يصدر صوت فاكوم، ولا المقصود هو حشد هذا الحشد لاستقباله اينما حلّ وللتأهيل به حيثما هلّ في المنطقة، وانما المقصود هو مراءاة الشعوب العربية بالتظاهر بمعارضة الحرب على العراق، ثم ادارة الظهر وتبني موقف مناقض من دون تقديم حساب او شرح للمجتمعات العربية، لا على الموقف السابق ولا على الموقف اللاحق. والمجتمعات العربية بدورها تنتقل من الحماس الجارف الى الاحباط الشامل بشكل لا يفرد هامشاً لا لمحاسبة عقلانية للذات، ولا لشفافية ومسؤولية ملزمة تمكن من محاسبة الحاكم. ولا حاجة اصلاً لأي شفافية في حالتنا هذه، فسلوك النظام العربي يتجاوز الشفافية الى التعري الكامل في مرحلة ما بعد الحرب. هذا الانتقال من اخفاء المواقف من دون خجل والتظاهر بعكسها من دون حرج في عهد الحماسة الى المجاهرة بها بصلف ومن دون رفّة جفن في عهد الاحباط هو في الواقع تعبير عن نفس الاستخفاف بالرأي العام. يتيح مزاج الاحباط العام لأي نظام رسمي ان يطرح موقفه الحقيقي ويمارس في مرحلة الكياسة والسلاسة والسياسة سياسته الفعلية المناقضة لتصريحاته في مرحلة ديوان الحماسة، لأن حليفه الحقيقي هو الاحباط الجماهيري والعجز العربي. وكما ينتقل النظام الرسمي بلا حسيب او رقيب من مسلك سياسي الى نقيضه في الظاهر، كذلك ينتقل المزاج الديموقراطي الخائف من الثقافة السياسية الجماهيرية غير الديموقراطية الى المراهنة على النخب الاقتصادية والسياسية الموالية للاميركان وعلى حاجتها الى الحسابات العقلانية لتقوم هي بعقلنة السياسة العربية والمجتمع العربي وترشيدهما. ويبدو من الرهان على طاقة البرجوازية العربية على الانفتاح والتحالف مع الغرب الديموقراطي كأن النظام العربي الحالي قد كبت طاقات البورجوازية العربية الابداعية المتنورة والتي تتعرف الى ذاتها من جديد لتكتشف بدهشة وغبطة بالغين كم هي في الواقع متنورة وديموقراطية. كما يجد بعض القوى العقلانية والديموقراطية التوجه ذاتها متورطة في الرهان على الاوساط الأميَل الى الولاياتالمتحدة من بين النخب السياسية داخل كل نظام عربي، والأجرأ في مهاجمة العرب والعروبة والعروبيين والقومية والقوميين، والأكثر قبولا و"تفهماً" لشروط اميركا السياسية بما في ذلك ما يتعلق منها بالقضية الفلسطينية واسرائيل. وفي عملية صناعة صورة السياسي تتقاطع هذه الميول عادةً في الاعلام العربي في ولي العهد او النائب او المرشح همسا لتبوء منصب القيادة في المستقبل وبعد عمر طويل. والمقصود عادةً هو من يعرف الجميع انه سيخلف الحاكم بطريقة غير ديموقراطية طبعا.ً ويتم الرهان على غياب الاوهام لديه بخصوص العرب وعلى الحاحه لتطوير العلاقة مع امريكا، وقد بات كل طامع بالخلافة يحتاجها لتأمين الخلافة في حد ذاتها. والرهان هو على الموقف الأكثر قرباً من السياسة الاميركية، والأكثر تقبلاً لمفهومها للسلام العربي - الاسرائيلي، والأكثر استعداداً للتطبيع مع اسرائيل، والاكثر تفهماً لحاجات السوق الاقتصادي العالمي ولطموحات رجال الاعمال في كل بلد. ولا شك ان من بين رجال الاعمال العرب والشركات العربية من لديه مصلحة مباشرة بالاصلاح السياسي وسيادة القانون ومراقبة أو ضبط الفساد، وربما حتى بالديموقراطية بشكل مباشر. ولكن جزءاً كبيراً من قطاع الاعمال استفاد من الفساد او تكيّف معه ومع غياب الديموقراطية، وهو في حالات عديدة نتاج الفساد وغياب الديموقراطية واحتكار ثروات البلاد. وفي افضل حالات البرجوازية المنتجة وغير الفاسدة يكتفي هذا القطاع بالتحالف مع الجناح الأكثر انفتاحاً اقتصادياً في أي نظام ضد الجناح الاقل انفتاحاً، أي يكرس الاحتكار ويمنع التنافس ويحرم خصومه من الاثراء عندما يعطل المساواة بالفرص. لم تكن النخب الاقتصادية المتحالفة مع اميركا بشكل عام أكثر تنوراً من النخب الاقتصادية المستفيدة من سيطرة نظام صدام حسين على ثروة بلاده بواسطة القطاع العام - الخاص بل المحتكر عملياً. وتشابهت غالباً هذه النخب بتشكيلها من سماسرة وتجار سلاح ومتنافسين في قطاع الخدمات ووكلاء الشركات الاجنبية المتنازعين على تقسيم الاسواق وحصرية الوكالات المرتبطة الى حد بعيد بالقرب من المستوى السياسي. ويتلخص تنور هذه النخب بشكل عام بالتذمر في الحلقات المغلقة من الحالة العربية وبممارسة نمط حياة استهلاكي غربي غير استعراضي في الحالات الاكثر أصالة واستعراضي في حالة "النوفو ريش" حديثي النعمة، بما في ذلك استهلاك الثقافة في حالات قليلة. ومن يدري ربما يكتشف بعضهم في المستقبل أنه في الحقيقة وفي قلبه كان دائماً ديموقراطياً، ولكن هذه العجيبة تحصل فقط بعد انتصار الديموقراطية. وكما اكتشفت قيادات سابقة للأحزاب الشيوعية ولمؤسساتها الاقتصادية في شرق اوروبا انها كانت دائماً ديموقراطية في سريرة القلب، وذلك لكي تتمكن وهي مهزومة من التسلل الى معسكر المنتصرين والاحتفاظ بالمواقع القيادية بواسطة خصخصة شركات حكومية مجاناً لصالحها، او بواسطة استغلال نفوذها السابق لتثبيت نفوذها اللاحق، كذلك قد يكتشف بعض النخب الاقتصادية والسياسية العربية في المستقبل ذاتها الديموقراطية والودودة لحقوق الانسان لكي تضمن مصالحها الاقتصادية وتحكم قبضتها على الحكم بالادوات الجديدة. انها تدرك أنه لم يعد باستطاعتها أن تحقق مصالحها بالوسائل القديمة. ولكن على القوى الديموقراطية ألا تنتظر التحول الديموقراطي من هذه النخب، ولا من هذه المؤتمرات، ولا من بحث هذه النخب الاقتصادية عن الشراكة مع اميركا، ولو بثمن تحسين العلاقة مع اسرائيل. وتنشر الصحافة الاسرائيلية على لسان مسؤولين اسرائيليين عن وعود مسؤولين عرب بالتعاون، ثم تنكر ذلك الصحافة العربية، ليضيع كل شيء في فوضى الاحباط والشتائم. يراوح انجراف الرهان بإتجاه القوة المنتصرة بعد حرب العراق في اطار نفس النظام العربي القائم ولا يتجاوزه. وفي كل الحالات سيضطر رجال الاعمال العرب، ومنهم مسؤولون سياسيون كبار تُعتبر الدولة عندهم شركة استثمارية، او قطاعاً تجارياً، الى الاكتفاء بدور شريك صغير في عملية اعادة اعمار العراق، ان كان ذلك في قطاع البنى التحتية او النفط، وحتى في قطاع الخدمات، ولو كان الثمن الترويج لشرعية الشريك الأكبر وتلقي المقاولات الثانوية منه، وهذا أفضل من لا شيء بالنسبة اليهم. ويبقى الاساس هو تقبل الوضع في العراق كما هو من اجل ان تتقبل اميركا الوضع في دولهم كما هو. والولاياتالمتحدة معنية ب "العملية السياسية"، المسماة اميركياً ب "العملية" حاف، لأن سيطرتها العسكرية والاقتصادية على العراق هي الاساس، اما في فلسطين فالمهم هو استمرار "العملية" الحاف، ولو بقي الناس حفاة. ان سياسة الولاياتالمتحدة في فلسطين هي علاقات عامة قياساً بسياستها في الخليج والعراق. وبعض الحجاج العرب الى واشنطن يذكرنا بأنهم لم يتغيروا اطلاقاً. فكما تكيفوا مع التهريج الاجوف في مرحلة ديوان الحماسة الى درجة ان بعضهم تبرع في الحفلات الاعلامية التي عقدت في الفضائيات في بداية الانتفاضة بنقود لكذا الف مقلاع وكذا الف بندقية هكذا حرفياً في الاعلام وبالبث المباشر... تبرعات لا يدري أحد هل تمت فعلاً ام لا؟، كذلك يتبرع هؤلاء الآن بحقوق الشعب الفلسطيني من دون ان يطلب منهم أحد، لأنه آن الأوان برأيهم ان يفهم الشعب الفلسطيني الظرف الدولي. لا علاقة لهذا كله لا بالتنور ولا بالديموقراطية ولا بالعقلانية. بالامكان ان تكون متنوراً وعقلانياً وديموقراطياً وان تثير مسألة تمثيل موظف امريكي لبلد عربي في مؤتمر اقتصادي دولي كمشكلة وكأَمر غير مفروغ منه. بالامكان ان تكون متنوراً وديموقراطياً وعقلانياً وان تؤكد عدالة المطالب الفلسطينية. كيف يمكن عقد مؤتمر اقتصادي دولي من دون ان يثير العرب موضوعاً مثل جدار الابارتهايد الذي تقيمه اسرائيل مغيراً طبيعة البلاد والمجتمع في فلسطين بشكل جذري، ومخرباً الزراعة الفلسطينية ومدمراً بشكل فوري حياة خمسة عشر ألف عائلة يحولها الى سكان جيوب يحيط بها الجدار حيث يلتوي، او يفصل بينها وبين اراضيها حيث يستوي؟ هل يمكن عقد مؤتمر اقتصادي على بعد عشرات الكيلومترات من هذه الكارثة من دون اثارة موضوع تخريب اسرائيل الجاري للاقتصاد الفلسطيني؟ اسرائيل التي تطالب بالتواصل وزوال الحدود الوطنية امام ضرورات التعاون الاقتصادي، اسرائيل التي تمتدح غياب الحواجز الجمركية في العراق، هي اسرائيل نفسها التي تبني جداراً عنصرياً يحطم اي امكان لاقتصاد على طول الضفة الغربية. ان الطرف العربي الأكثر اندفاعاً نحو اسرائيل في هذه المرحلة هو عموماً الطرف الأكثر فساداً بالمفاهيم الاميركية، أي بمفهوم الخلط والجمع بين القوة السياسية والقوة الاقتصادية بأيدي نفس الاشخاص أصحاب القرار في الشأنين. وهؤلاء يندفعون نحو اسرائيل الآن بتردد وامل، فالاندفاع نحو اسرائيل برأيهم هو المفتاح الوحيد، هو خارطة الطريق، الى قلب اميركا من اجل حماية هذا التقاطع بين الاقتصاد والسياسة في قبضتهم، ومن اجل الجمع بين السطوة السياسية والقوة الاقتصادية بيد نفس الشخصيات المتحالفة او الساعية للتحالف مع الولاياتالمتحدة، نفس الولاياتالمتحدة التي ترفع راية الديموقراطية في المنطقة العربية. اذا بحثت القوى الديموقراطية عن حلفاء في هذه الاوساط فستضيف لبنة الى الحاجز بينها وبين الجماهير. وعندما تخسر القوى الديموقراطية العربية الجماهير لصالح افكار غيبية غير ديموقراطية فستضطر الى الاكتفاء بالحكام غير الديموقراطيين لأنهم أرحم من الافكار الشمولية التي تنتشر بين الجماهير الواسعة. لا شك بإشكالية المطالبة بالديموقراطية وحق الاقتراع العام في ظروف هيمنة ثقافة سياسية غير ديموقراطية. والمسألة سياسية وحقيقية وعملية، اذ لا يوجد بديل سياسي ديموقراطي مطروح جماهيرياً إلا بهدف تداول السلطة من دون الالتزام بقيم الديموقراطية. وقد يكون المطلوب هو الاصلاح باتجاه سيادة القانون وتعميق مفاهيم الحقوق وممارستها وتعميق مفهوم المواطنة وممارسته، ثم تعميم الديموقراطية. ولكن القوى التي تراهن على دور الولاياتالمتحدة الديموقراطي والتي تعتبر الاقتراب من اسرائيل بحد ذاته اعتدالاً وعقلانية وايجابية من دون تحقيق العدالة للفلسطينيين تساهم في اغتراب الجماهير عن الديموقراطية والثقافة الديموقراطية وتساهم في تثبيت اعتمادها هي على حماية النخب السياسية والاقتصادية غير الديموقراطية وتقلل من حاجة الاخيرة حتى الى الاصلاح. * كاتب عربي.