سعود بن بندر يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية لهيئة تطوير المنطقة الشرقية    إسرائيل تستبق وقف النار.. اغتيالات وغارات عنيفة    الكشافة تعقد ندوة الاتجاهات التربوية الحديثة    مسؤول إسرائيلي: سنقبل ب«هدنة» في لبنان وليس إنهاء الحرب    السعودية تتصدر العالم بأكبر تجمع غذائي من نوعه في موسوعة غينيس    السجن والغرامة ل 6 مواطنين.. استخدموا وروجوا أوراقاً نقدية مقلدة    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    هيئة الموسيقى تنظّم أسبوع الرياض الموسيقي لأول مرة في السعودية    التعليم : اكثر من 7 ٪؜ من الطلاب حققوا أداء عالي في جميع الاختبارات الوطنية    الجدعان ل"الرياض":40% من "التوائم الملتصقة" يشتركون في الجهاز الهضمي    ترمب يستعد لإبعاد «المتحولين جنسيا» عن الجيش    بوريل يطالب إسرائيل بالموافقة على وقف إطلاق النار في لبنان    «الإحصاء»: الرياض الأعلى استهلاكاً للطاقة الكهربائية للقطاع السكني بنسبة 28.1 %    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    الطائرة الإغاثية السعودية ال 24 تصل إلى لبنان    سجن سعد الصغير 3 سنوات    حرفية سعودية    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    «الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    فصل التوائم.. أطفال سفراء    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    ألوان الطيف    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    حكايات تُروى لإرث يبقى    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    من أجل خير البشرية    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    خادم الحرمين يوجه بتمديد العمل ب"حساب المواطن" والدعم الإضافي لعام كامل    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    المملكة تستضيف المعرض الدوائي العالمي    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"منخرطون"و"قطط برية" ومناضلون محرضون وخبراء وصحافيون مهنيون ... في دوامة الغزو والحرب والتحرير . ما يعرض على المشاهدين والقراء كواقعة حية ... قد لا يكون إلا بقية المعركة والأوهام
نشر في الحياة يوم 05 - 05 - 2003

خلفت حرب الخليج الثانية 1990- 1991 مرارة في حبر الصحافيين وأقلامهم و"أفواههم" لم ينسها معظم من شهدها منهم، وندبته مهنته الى المشاركة فيها ناقلاً اخبارها او معلقاً على حوادثها. فيومها جمع الإعلام المتلفز، والصحافي التقليدي، بين شهود الحوادث الحربية التفصيلية من غير وسيط، ظاهراً، وبين غياب الحوادث في ثنايا الإعداد والتوليف الدعاويين والانتقائيين. فوسع عدسات التصوير وأجهزة الصوت والمذيع المختار، معاً، ملء عيون المشاهدين وأسماعهم بأضواء القصف الجوي والمضادات الباهرة، وجلبة الانفجارات المدوية، وحضور المشاهد حين وقوعها.
ولكن الحوادث المشهودة لم يرجع اختيارها الى الصحافيين، وهم كثيرو المشارب والأهواء والمذاهب. وإعلامهم كثير الزوايا والتأويلات، على مثال مشاربهم ومذاهبهم. ولم ينتق الصحافيون المواضع التي وسعهم تعقب الحوادث والأخبار منها. فقسروا في معظم الأوقات، إن لم يقسروا في الأوقات كلها، على النظر الى الوقائع وتناولها من منظار سبق للقيادات العسكرية الأميركية اولاً، وللرأي السياسي، رسمُ زاويته وخطُّ حقله.
فاطرح من الخبر والصورة، ومن الرواية التي ينهض عليها التعليق والتأويل، ما ترتب على الأعمال الحربية المتفرقة من أضرار وصفتها بيانات عسكرية، تصغيراً ب"الجانبية". وبعضها كان فادح التكلفة البشرية والبيئية والعمرانية، ودامت مفاعيله اعواماً طويلة بعد وقوعه. وأما الوجه العراقي والمحلي من الإعلام فلم يخرج منه الى علن الصورة وجهر القول إلا ما رضيت سياسة إعلام التحالف الدولي، يومذاك، اخراجه.
فتصدرت حرائق حقول النفط الكويتية، وهياكل الدبابات العراقية المتفحمة على "طريق الموت" بين الجهرة والزبير، وأكوام الأحذية غير بعيد منها، وجموع كرد العراق المتدافعين على الطرق المفضية الى الحدود بين العراق وتركيا - تصدرت الصورَ والأخبار. وضاعت في هذا الخضم انتفاضة جنوب العراق، وقيام معظم اهله الشيعة على صاحب "ام المعارك". وضاع معها الأثر العميق الذي خلفته "انتفاضة آذار مارس المجيدة"، على ما يسميها اصحابها وأبناؤهم، في الأعوام الاثني عشر المنصرمة، وفي علاقات الجفاء والتحفظ بين شطر من العراقيين وبين السياسة الأميركية، وفي العلاقات المتنازعة بين العراقيين هؤلاء وبين "الأولياء الفقهاء" بطهران.
وهذا قرينة على مكانة الصور والأخبار، وعلى روابطها بالسياسة وفعلها فيها. ويزعم كثرة من الصحافيين اليوم - وبعضهم كان "منخرطاً" او "مندمجاً" في وحدات عسكرية اميركية او بريطانية محاربة، وبعض آخر كان "قططاً برية" اختاروا العمل على حدة من القوات العسكرية - انهم عوضوا بعض "سذاجة" إعلامهم السابق. فلم يقبلوا الأخبار على علاتها. فإذا قال جنود اميركيون، كان صحافيون يتبعون وحدتهم المقاتلة، ان ذخائر المطار الذي استولت عليه الوحدة لتوها فرنسية المصدر، غامزين من قناة الحليف الأوروبي، قلّب الصحافي الفرنسي ايف اود من صحيفة "لوموند" اليومية بعض صناديق الذخيرة هذه، وانتزع الغطاء الكرتوني، وقرأ على الورق اللاصق تاريخ صنع الذخيرة، العام 1979. ولم يكن في الصناديق صواريخ بل اهداف لتصويب الطيارين.
وعزا تقرير إداري أذاعه المجلس الأعلى الفرنسي للإعلام المسموع والمرئي بعض شوائب الإعلام الحربي في زمن حرب 1999 الى التراخي في التحقيق، وقبول الأخبار من غير تمحيص ومقارنة. وهذا ما لا عذر فيه حين يطأ الصحافيون ميادين الحرب والقتال بأقدامهم ونعالهم وسياراتهم، من غير وساطة عدسات التصوير الجوية، على ما جرى في الحرب السابقة. والصحافيون الذين وطأوا، هذه المرة، مسرح الحرب الكثير الوجوه، عدوا ستة آلاف صحافي، وفيهم الجهاز التقني والفني. فتعقبوا الوحدات الأميركية والبريطانية المقاتلة، وتخللوا، في بعض الأحيان، صفوفها. وبعضهم باتوا مع الجنود والضباط في ناقلات الجند او في الدبابات الضخمة، وآكلوهم وحادثوهم وقضوا اوقات قيلولة وانتظار في اثناء هبوب العاصفة الرملية، في 24 الى 27 آذار يشاهدون معهم اشرطة فيديو سينمائية. وبعضهم قتل وهو يحاور ضابطاً، حين هوت ناقلة الجند به وبمحاوره عن جسر فوق نهر في مياه النهر. وبعض آخر قتل بنيران القوات الأميركية والبريطانية خطأ.
القيود
ومثل هذا الإعلام اللصيق بموضع ومكان، والدائر بفلك وحدة عسكرية، "حقيقي"، على ما يصفه صحافي اذاعي، على رغم "جزئيته". ولعل صفته الموضعية والجزئية شرط حقيقته. فإذا شاء الصحافي ألا يقتصر على التمثيل على تقرير قيادة مركزية - في السيلية بشأن قيادة التحالف او في فندق بغدادي شأن القيادة السياسية والإعلامية العراقية - ومرافقة إعلامي القيادة الرسمي في جولة تفقد وتحقق، كان عليه ان "ينتج" اخباره، على قول صحافية تلفزة شهدت الحربين "العراقيتين". و"تنتج" الأخبار، إذا صدقت العبارة، من طريق واحدة هي تقصي جوانب الطريق العريضة والمستقيمة التي تسلكها القوة العسكرية، وتشقها في مسيرها الى اهدافها.
ويحصل هذا بتكثير "وجهات النظر" او الروايات والمصادر والشواهد. ويفترض بثَ العيون والأرصاد، والعدسات والآذان والأفهام، في مواضع متفرقة وأوقات متباينة. ولا ريب في ان الرقابة على عمل الصحافيين حالت بينهم وبين تكثير المصادر والروايات. وعندما أقر إيزون جوردان، رئيس دائرة الأخبار في شبكة "سي ان ان" "نيويورك تايمز" في 11 نيسان/ ابريل، انه اضطر، طوال اثني عشر عاماً وثلاث عشرة رحلة الى بغداد، الى الإغضاء عما سمع ورأى، حماية للعاملين المحليين في الشبكة، أثار اعترافه إنكاراً عريضاً. وطعن صحافيون آخرون وجامعيون في آداب السياسة الإعلامية هذه ومناقبيتها المنقوصة والملتبسة.
ويذهب صحافيون يعملون في الشرقين الأدنى والأوسط منذ عقد ونصف العقد الى استحالة عمل صحافي حقيقي، اي كثير المصادر المقارنة، في عراق صدام حسين. فالصحافيون كانوا مراقبين، ويتعقبهم ارصاد السلطة ومخبروها. وكان هؤلاء يتعقبون من يسعى الصحافيون في لقائهم، والاختلاء بهم او محادثتهم ومحاورتهم. ويروي صحافيون اوروبيون ان فندق "فلسطين"، مقر شطر كبير منهم ببغداد في اثناء الأسابيع الثلاثة التي سبقت سقوط معاقل صدام حسين و"عشيرته"، تقاسمه على حد غير سواء الصحافيون والمخبرون.
وكان المخبرون، طوال الأسابيع هذه، يحصون على الصحافيين رواحهم ومجيئهم، ويفتشون امتعتهم في غيابهم ويصادرون ما يحلو لهم منها، ويقسرون المتحفظين و"الأثرياء" على تسديد "خوة" أو إتاوة، ويتهددون المتمردين منهم بإلغاء سمة العمل او سمة الدخول الى العراق. وحصل مثل هذا في حال "سي ان ان". وبعض الصحافيين الذين قدموا بغداد من غير سمة او تأشيرة، آملين في الحصول عليها ببغداد نفسها، حصروا في فندقهم عشرة ايام او اكثر، ولم يفرج المخبرون عنهم إلا عشية سقوط "دولتهم" وذهابها وهروب المخبرين المراقبين حين تنسموا الأمر وشموه.
وقلصت قيود المخبرين الثقيلة واللصيقة دلالة الصورة المتلفزة وأضعفتها، على ما ذهب إليه احد صحافيي التلفزة. فحلت الصورة من الإعلام والخبر، او الاستخبار على قول هيرودوتس الإغريقي، المحل الثاني. وهذا على خلاف مكانتها في إعلام الفضائيات العربية، على رغم اقتصارها على ترديد صدى كلام المراسل او المراسلة المذيع، وتمثيلها على كلامه وبلبلته أرى... اسمع... الحركة عادية... السيارات تمر على الجسر، على مثال "شعري" مضى، وعلى مثال تيسير علوني بكابول. فلجأ بعض الصحافيين الأوروبيين إما الى تسليط عدساتهم على مشهد الحادثة، و"وصفه" بالصورة وصفاً دقيقاً، والاستعانة على الوصف بخبراء سلاح، أو راجعوا من سبقت لهم محاورتهم صباح اليوم، او قبل يوم او يومين، وطلبوا إليهم ابداء رأيهم في المسألة بعد وقوع حادثة مهمة.
وعلى هذا قطع خبير سلاح عرض عليه نيكولا تونيف، مراسل شبكة اوروبية، صور الحفرة التي نجمت عن قصف سوق شعبية، في ضاحية بغدادية مطلع الحملة وقتل القصف نحو خمسين عراقياً، ونسبته السلطات الى الطيران الأميركي وماشت الفضائيات العربية، على بعض التردد، الزعم الرسمي، قطع في نسبة الحفرة الى سلاح غير السلاح الأميركي والصواريخ التي يقصف بها، ورجح أثر مضادات جوية عراقية. وإلى هذا الاحتمال مال رأي مراقبين وعسكريين من بعد.
وفي الباب الثاني من وسائل التحقق روى مراسل اذاعة اوروبية انه حاور اساتذة جامعيين ببغداد، فأجمعوا على إدانة الحرب. وحمله الإجماع التلقائي على استنتاج "وحدة الجبهة" الداخلية وراء صدام حسين و"مقاومته". فلما عاد إلى الجامعة بعد يومين، وحاور الأساتذة نفسهم، ظهرت امارات التردد والتحفظ والانقسام عليهم. فلام الصحافي نفسه على اقتصار محاورته الأولى على اسئلة وملاحظات أقرت محاوريه على مواربتهم وحيلهم اللفظية التي يتفادون بواسطتها إظهار انشقاقاتهم وتجاذبهم.
والحق ان قصر مناقشة العمل الإخباري على تفحص الشاشات الصغيرة و"سبقها" المزعوم يهمل الوسائل الصحافية الأخرى، مثل المراسلات المكتوبة اليومية والصورة الفوتوغرافية والتحقيق الإذاعي والتحليل المقارن. وتضطلع هذه بدور راجح في بلورة مديدة ومعقدة لتيارات رأي تدوم فوق ما تدوم الانفعالات التي يخلفها سيل الصور المتدفق والمتقلب. ويتيح توليف الوسائل الصحافين في كل واحد ومجتمِع، على نحو ما في مستطاع الصحيفة اليومية صنعه، ما لا تتيحه الصور المتلفزة الجارية والسريعة، ولا تسعى فيه ربما هذه الصور.
فعمدت بعض الصحافة الأوروبية اليومية، منذ ظهور نذر الحرب، الى "زرع" مراسلين يوميين في مواضع، قُدر ان تضطلع بدور بارز ووازن في مجرى الحوادث وتعاقبها، ولم تحظر سلطة، محلية او اجنبية، قيام عين صحافية او إخبارية بمراقبتها عن كثب. فبثت الصحف، ووكالات الأنباء ووكالات المصورين الصحافيين، الى شبكات التلفزة، مراسليها ومخبريها ومصوريها ومترجميها في بغداد اولاً، وعلى طول الطريق من الحدود الكويتية - العراقية الى بغداد، في مؤخرة مواكب القوات الأميركية والبريطانية في معظم الأحيان أو على جوانبها، ثانياً، وفي الشمال، من الحدود التركية - العراقية الى المدن الكردية المختلطة، ثالثاً. وبقي الشرق - وهو يحاذي الحدود الإيرانية - العراقية بين الفاو جنوباً والسبعين قرية وبلدة التي انتشر فيها "انصار الإسلام" الكرد برعاية "القاعدة" والحرس الثوري الإيراني شمالاً-، وكذلك جزء من الغرب العربي السوري والأردني، بمنأى من الملاحظة والمراقبة الصحافيتين، على رغم انتقال مصورين ايرانيين، هما امرأة ورجل، الى بغداد، وعلى رغم استمرار النقل بين العراق وبين البلدين العربيين.
وتدل مواضع الرصد والتقصي هذه على معان سياسية وثقافية ظاهرة. فما عدا بغداد، حرصت السلطة العراقية على استبعاد اعين الصحافة من الوصف والتحقيق والملاحظة، واستثنت "الجزيرة" من الحظر على البصرة. ولا يعود الاستبعاد كله الى إرادة السلطة العراقية. فهي، اي السلطة العراقية، لم تبق سلطة اقليمية - مستقرة وثابتة، ومتمتعة بولايتها الشرعية التامة والوازعة على اراضيها ومواطنيها - حال إعلان الحرب والحق يقال قبل إعلانها. وحين ابتداء الحرب تحولت السلطة، ومعها دولتها وأجهزتها وموظفوها، الى قوة، أو قوى مبعثرة تطاردها حملة التحالف وقواتها وأسلحتها. ومذ ذاك دخل عمل الصحافة تحت "قانون" قوات التحالف، وأمسى من متعلظقاتها، المباشرة حيناً وغير المباشرة حيناً.
فإذا رابطت القوات البريطانية بضاحية البصرة، رابطت الصحافة، على أنواعها، الى جنبها. وإذا دخلت القوات ام قصر دخولاً متردداً، كانت الصحافة معها، وعلى ترددها. وحين سكتت مقاومة قوات السلطة العسكرية وشبه العسكرية والحزبية بأم قصر، وسع الصحافة التجوال بأنحاء المدينة الشطية او الساحلية. وأخبرت عن اغتيالات محلية سبقت العمليات، وعن نهب بيوت "وجهاء" السلطة، "السابقة" على بطء وخجل وخوف، وحرقها.
ووصفت تصدرَ مدرس اللغة الإنكليزية، الأستاذ نجم، الإدارة المحلية الناشئة والمتعثرة، وامتحانَ نقص الماء صبر الأهالي، ودوامَ خوفهم من "عودة صدام"، ومباشرتَهم دفن موتاهم في عهدهم الجديد باللطم على الصدور. فكانت "حرية" اللطم، بأم قصر ثم في انحاء العراق الحر والمحتل الأخرى، اولى الحريات الفعلية التي باشرها العراقيون. وجاءت حرية التظاهر، في خدمة المطالبة بزوال الاحتلال، في المرتبة الثانية. وتلتها حرية الخروج بالسلاح وتغيير اسماء الأحياء والمرافق من مدينة صدام الى مدينة الصدر، قبل إصدار الصحف، وتعليق اللافتات بأسماء المنظمات والجمعيات السياسية الجديدة.
السبق والسكوت
ويترك تعلقُ عمل الصحافة بتقدم قوات الغزو المتحالفة، وتبعيته لهذا التقدم، شطراً كبيراً من الوقائع خارج الخبر والإعلام. فتبقى هذه الوقائع مهملة ومواتاً. فلا يُتصور قبول السلطة العراقية، على فرض استطاعتها، مواكبة صحافيين ومصورين قواتها المحاربة، او إجازتها هذه المواكبة. واضطرار هذه القوات الى "المقاومة" معناه تخليها، على رغم منها، عن الحرب ونظامها ووحداتها ومعسكراتها وخططها ومواصلاتها واتصالاتها. ومعناه، من وجه آخر، اقتصار هذه القوات على التمترس والاحتماء بالأهالي، وإلقائهم بين "اقدام" القوات الغازية طعماً للاستهلاك والقتل.
و"صحافة" مثل هذه الأفعال تولت السلطة العراقية إعدادها، إذا جازت العبارة، من طريق مواربة او من غير مواربة. فكان سبق "الجزيرة" بالبصرة بثها صور الأولاد القتلى والجرحى الفظيعة. وهذا سبق صحافي عاد الإدلال به الى بغداد و"صاحبها" يومها. وهو لم يخبر عن شيء من احوال البصرة: لا عمن يقاتل فيها، ولا عن رأي الأهالي في قتالهم، او اطوار هذا القتال. وسبقها الثاني، المدوي، بث شريط جثث القتلى الأميركيين جنوب الناصرية في 23 آذار مارس واستجواب الأسرى. وهذه الصور لم تصورها عدسات الفضائية القطرية بل عدسات جهاز التوجيه العسكري والحزبي الصدامي. فيصدق في السبقين المزعومين قول بعض اداريي فضائية "العربية" في زميلتهم انها "لا تنتج" اخبارها، ولا تعدو إذاعة ما ينتجه غيرها.
ويجري السبقان هذان على مثال سياسي انشأته الجماعات السرية الإرهابية، وبعضها حركات تحرر وطني ومقاومة وطنية. وهو يتوسل بالأشرطة المسجلة لرهائن ومخطوفين. ويختار الخاطفون والمحتجزون وسائل إعلام يخصونها بأشرطتهم، ويحتسبون جراء الاختيار والتخصيص الصدى الأوسع، والأقوى ايلاماً، للبث. ويترتب على هذا المثال حضورُ العدسات والشهود وقائعَ القتل والتشويه والألم والظلم، او وقائع الضعف في حال اسرى العدو وقتلاه، على نحو ما يترتب عليه غياب العدسات والشهود في كل الأحوال الأخرى. وكان صدام حسين استعمل هذا "الإعلام" الحي - وهو موضوعه الموت على الدوام - حين دلى جثث من اتهمهم بالتجسس للدولة العبرية، وعرضها على اعين البغداديين اياماً. فحملهم على اختبار سلطانه "اختباراً حسياً" مدمراً، على ما وصف كنعان مكية في "جمهورية الخوف" كتابه "المثير"، بحسب "مفكر" إحدى حركات التحرر الناصعة.
والسكوت الصحافي على الجبهات الأخرى وعنها ليس اقل ولا أضعف دلالة، وإن دل الى معان اخرى. فالإنكار الأميركي لصور القتلى العسكريين الأميركيين قَسَم الصحافة حزبين. فتذرع حزب، تصدرته وكالة "اسوشيتد برس"، بكون بعض صور الجثث قريب جداً ويصورها نازفة وملقية على ارض مستشفى، الى الامتناع من نشرها. ونبه حزب آخر، هو معظم الوكالات، الى ان ثمة صوراً اخرى لقتلى اميركيين على قارعة الطريق، ولا تظهرها مضرجة بالدم ولا مشوهة، ولم ترضَ الصحافة الأميركية نشرها. ويذهب فانسان أمالفي، من وكالة الصحافة الفرنسية، الى ان إعلان صور القتلى العراقيين يلزم، من غير جدال، بإعلان نظيرها الأميركي او البريطاني او غيره.
صور ومناقشة
ولا يستوفي الرأيان المختصران المناقشة. فمن يرتضون نشر صور كلا المتحاربين يقرون بأن على الصورة ألا تقتصر على "اللحم النازف والمهصور". ويعلق أحد مصوري وكالة "رويترز"، ستيفن هيرد، على صورة جنديين عراقيين قتيلين في حفرة ضيقة صورها في 22 آذار يُرى منها الظهر والكتفان، وتسند كتف أحدهما عصا شدت إليها خرقة قماش بيضاء" وعلى كومة التراب الذي أخرج من الحفرة، يقف جنديان بريطانيان مدججان بالسلاح، يعتمران خوذتيهما، وسلاح الأول إلى اليمين على صدره والثاني يتدلى تحت ذراعه، وينظران الى الحفرة مائلي الرأس نحوها، منفرجي الساقين والقدمين وجامدين، وأساريرهما مشدودة وملتوية على شاكلة من أوقع في يده ولا يملك من أمره شيئاً - ويعلق هيرد على صورته التي ذاع صيتها بقوله: الدم الذي يخضب الأرض في صورة لم يشأ المصور نشرها الحفرة من داخل لا معنى له، ومدار الصورة المنشورة ومعناها على نظرة الجنديين، فحالهما هي حالي أنا المصور حين رأيت الجنديين في الحفرة.
وما يحسبه المشاهد قرينة دامغة على شهوده الواقعة النابضة بالحياة يقول فيه مصور "الأسوشيتدس برس"، لوران ريبور، انه على الدوام فائت وبائت: "فنحن المصورين، والصحافيين عموماً نصل على الدوام بعد المعركة، شارحاً صورة صورها الأول من نيسان / أبريل ويرى فيها جندي عراقي تنزف ساقه المبتورة دماً، ويسعفه جنديان أميركيان وسط دائرة من الجنود. وشطر من التلبيس والتدليس الدعاويين يقوم على إيهام المتفرج المشاهد بأن ما يراه هو حقيقة الحياة الماثلة والتامة، وعلى زعم اطراح الصنعة أو التأليف من الواقعة المصورة أو الموصوفة.
ويعلق ألبرت فاسيلّي، من وكالة "سيبا" الفوتوغرافية، على صورة صورها في الطريق الى بغداد في 26 آذار، يُرى فيها من الظهر أو جانباً ثلاثة جنود أميركيين، وأربعة فلاحين عراقيين يعتمرون الكوفيات الحمراء، وجوههم كلهم الى العدسة، يتحادثون، أو يحاولون المحادثة - فأوضاع الأجساد والأيدي وعبارات النظرات تضطلع في المخاطبة بدور يفوق بكثير دور الكلام الذي لا يرى - في اطار من "ضوء رملي خفيف"- يعلق المصور على صورته فيقول انه التقطها على مقربة من معسكر أقامه الجنود الأميركيون على مقربة من واحة. ولكنهم لم ينتبهوا الى الواحة حين أنزلوا أحمالهم، ونصبوا خيامهم. فلما أبصروا أطيافاً في الضباب الصباحي هبوا خوفاً، وركض فريق منهم نحو "العدو". فأفهمهم الشبان الأربعة أنهم يعملون في الأرض. وتقدم مترجم الوحدة الأميركية، ففتش ثيابهم باحثاً عن الرمل فيها، قرينة على صدق ما يقولون. فعثر على حبات منه. وسألهم عن أجورهم، فأجابوا. ورووا بعض أخبار أرضهم الجافة. وعزوا جفافها الى "سد صدام" على الفرات. فطلب الجنود إلى زميلة لهم برتبة صف ضابط، تعمل في الحياة المدنية خبيرة نبات، التحقق من الأمر. فأخذت حفنة تراب وذررتها بعد أن عجنتها بأصابعها وراحتها. وقضت بصدق ما يقول الفلاحون. فانتقل الفلاحون، في الأثناء، من الارتباك والخوف إلى الضيافة. وانتقل الجنود من الشك الى الاستلطاف والتعاطف. ولكن فلا سيلّي يعلق على المشهد بقوله انه لم ينفك يرى الأميركيين، منذ صفوان، "يغوصون" ويتعثرون.
ولم يستحوذ نشر الصور وحده على المناقشة، ولا على معظمها. فحين صرح الجنرال والاس، قائد الفيلق الأميركي الخامس الى "الواشنطن بوست" و"النيويورك تايمز" في 30 آذار - غداة عملية علي جعفر موسى النعماني الانتحارية بالقرب من النجف وهبوب العاصفة الرملية - أن العدو ليس على الصورة التي تصورتها قيادة التحالف، ثارت مناقشات حادة خاض فيها ضباط القيادة المركزية بالسيلية.
وشارك فيها الصحافيون الأميركيون، قبل ان يذر قرنها بواشنطن، فيدلي بدلوه فيها وزير الدفاع والرئيس الأميركي نفسه، ويتولى قائد المنطقة الوسطى، ومخطط حرب العراق، تومي فرانكس، الجواب. فاستعادت بعض الصحف الأميركية والأوروبية، في ضوء المراوحة التي دامت نحو أربعة أيام بين الناصرية والنجف، مراحل إعداد الحملة، والمناورات التي استشرفتها واستبقتها، والخطط التي رسمت لها، ونقد الخطط هذه والملاحظات عليها.
وقارن الخبراء والمعلقون، من قرب أو من بعد، بين نهج الجملة الجارية وبين حرب 1991. وأبرزوا "مذهب" رامسفيلد القاضي بتقليص عديد القوات البرية، وتكليفها عبئاً حربياً أثقل من العبء الذي تولته في الحرب السابقة، وتقليل العبء الذي يتولاه سلاح الجو. وطعن بعضهم في الربط الذي يفترضه مذهب رامسفيلد، إذا صح أن هذا مذهبه وهو نسبه الى الجنرال فرانكس، بين حال القوات البرية الجديد وبين الافتراض السياسي الذي توقع استقبال العراقيين التحالف استقبال... الفاتحين! وهذا ما غمز منه قائد الفيلق الأميركي الخامس، وكان السبب في صرف شبكة "سي. إن. إن." الصحافي الأميركي الذائع الصيت، أرنيت، الذي سبق والاس بيوم واحد الى قول ما قاله القائد العسكري.
وعزا صحافيون فرنسيون تعثر الحملة في طريقها الى بغداد، وسط عشائر الفرات الأسفل التي قدرت مضمونة الانحياز الى القوات الأميركية، الى غلبة "الإيديولوجيين" وأولهم بول وولفوفيتس، المساعد الأول لوزير الدفاع وصاحب مذهب "إصلاح" الشرق الأوسط على التخطيط لها. واستعر علناً الخلاف التقليدي بين المدنيين المغامرين وبين العسكريين المتحفظين والواقعيين. وجرى هذا كله على رؤوس الأشهاد.
فعزت القيادة العراقية الظاهرة، وخصوصاً طه ياسين رمضان وطارق عزيز وأحمد سلطان هاشم، الترجح الأميركي الى أثر المقاومة العراقية، العسكرية و"الشعبية"، في تعويق تقدم قوات التحالف. فتوعد رمضان الغزاة ب"آلاف المتطوعين والاستشهاديين العرب". وتهددهم محمد سعيد الصحاف ب"مفاجآت" لم يحلموا بها، ليست السلاح الكيماوي ولا الجرثومي الذي "لا يملكه العراق"، بل العمليات الاستشهادية غير المشهودة من قبل. وتصور دخول قوات الاحتلال بغداد، في هذا الضوء، في صورة اليوم الآخر.
ولم تعصم الصحافة الميدانية، القائمة على الملاحظة والمراقبة والمحادثة، الصحافيين الأوروبيين والأميركيين - وهم وحدهم يزاولونها - من الجري وراء هذه الصورة، والتعلق بأهدابها، فلم ينفع في شحذ بصيرتهم ما وصفوه، يوماً بيوم، من لباس بعض المجندين اللباس المدني تحت العسكري، وخلو الطرق والشوارع من السلاح الثقيل، وحظر السلطة العراقية على الصحافيين دخول "مدينة صدام"، وأخبار الاغتيالات قبل انسحاب العسكريين، والهلهلة والفقر والبداوة الرثة البادية على معظم السحن والوجوه، وتسليط الأرصاد المأجورين على الصحافيين. فكتب صحافي فرنسي بارز، أوكلت إليه صحيفته الوصف العيني والحسي وأوكلت إلى زميل له التقصي السياسي والخبري، في الثاني من نيسان أن خطة الحكم العراقي ومعلنها هو الصحاف اجتذاب القوات الغازية الى بغداد، و"امتصاصها" في بحر المدينة، هي قيد الانجاز.
وفي الثالث من الشهر، يوم نشر التحقيق هذا، كانت قوات الغزو تتسلل من مطار بغداد الغربي إلى بعض أحياء المدينة وقصور "صاحبها". فآذن ذلك، على وجه الصحافة وعملها، بغلبة "الإيديولوجية" على التحقيق والاستخبار. ولم ينفع كثيراً تقسيم العمل الصحافي بين الصورة و"الانخراط"، والشرود على نحو "القطط البرية"، وهجرة البوابة الشرقية والبوابة الغربية، ونقد تصوير "اللحم النازف والمهصور"، وتقصي آراء وأهواء الوكالات والصحف والشبكات المختلفة اللغات. وحين قال أحد المراسلين الميدانيين أنه ربما كان هذه المرة "أقل توهماً" من المرة السابقة، فينبغي حمل قوله على حرفه: أقل توهماً وليس أقرب من الوقائع.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.