هل نجح الإعلام المرئي في لبنان في مواكبة الحرب التي شنتها الولاياتالمتحدة الأميركية و"حلفاؤها" على العراق؟ هل استطاع أن ينافس الفضائيات العربية في نقل المشاهد والوقائع في تغطية ساحات المعارك؟ هل تمكّن من تقديم صورة حقيقية تواكب مسار الحرب وتناقش أبعادها وتكشف خلفياتها؟ ربما حان طرح مثل هذه الأسئلة وسواها بعدما شارفت الحرب نهايتها السريعة وعادت الشاشات اللبنانية الى سابق عهدها في تقديم البرامج العادية والموجهة الى الجمهور، من غير أن تغفل عن الوقائع الجديدة التي تطرأ عراقياً وأميركياً وشرق - أوسطياً... ومثل هذه الأسئلة قد يطرحها المشاهدون الذين قضوا معظم الأيام السود أمام الشاشات متابعين أخبار المعارك، وكذلك أهل الإعلام الذين ساهموا في صنع الصورة التلفزيونية الحية عن الحرب. لم تستطع كل "الشاشات" أو المحطات اللبنانية إرسال بعثة تلفزيونية خاصة الى بغداد وسواها من المدن العراقية والمقاطعات. المؤسسة اللبنانية للإرسال أل بي سي وتلفزيون "المستقبل" وحدهما اضطلعا بمثل هذه المهمة: ال"أل بي سي" من خلال المراسلين المشتركين بينها وبين "الحياة" في الصيغة التلفزيونية الفضائية، و"المستقبل" عبر ثلاث مراسلات في بغداد والشمال العراقي والكويت. الشاشات الأخرى اكتفت بما تمكنت من نقله عن الفضائيات العربية الجزيرة، العربية والفضائيات الأجنبية وفي طليعتها ال"سي أن أن"، لكنها استعانت ببعض الوجوه العربية والأجنبية أحياناً في البرامج السياسية التي ناقشت أبعاد الحرب. إلا أن أتعس شاشة كانت شاشة "تلفزيون لبنان" التي حاولت أن تقلّد الشاشات الأخرى وفشلت، حتى وإن اعتمدت تقنية شريط الأخبار الدائم على الشاشة. وكان تلفزيون لبنان يصرّ دوماً على "توقيع" الأخبار الواردة في الشريط وكأنها من صنعه، فيما كانت تبثها الشاشات الأخرى نقلاً عن الوكالات والمحطات وسواها. ولا ندري لماذا لم يحاول وزير الإعلام السابق غازي العريضي إيلاء هذا التلفزيون العريق تاريخياً بعض اهتمامه، وكان في إمكانه جعله منبراً لحربه الدونكيشوتية مع أميركا وربما مع الرئيس الأميركي جورج بوش. كان على المشاهد اللبناني، عبر متابعة شاشاته الخاصة، أن يشعر بما يشبه الارتباك. فالمصادر تتضارب أمام عينيه حتى لا يعود قادراً على معرفة مَن يأخذ عن من أو من "يقرصن" من! وسعت معظم الشاشات المحلية الى تسجيل السبق التلفزيوني، متسابقة بعضها مع بعض على قرصنة المواد التلفزيونية والتحقيقات المصورة والوثائق المتوافرة. وبدت معظم الشاشات منحازة الى العراق بوضوح ولكن من دون التمييز بين الشعب العراقي والنظام العراقي، وراحت تطلق على الحرب صفة الغزو أو العدوان وعلى الجنود الأميركيين صفات الغازين والمعتدين وسواها... واستطاع بعض هذه الشاشات أن يثير حماسة الشبان اللبنانيين دافعاً إياهم للالتحاق بصفوف الجيش العراقي للدفاع عن الكرامة العربية. ونادراً ما استضافت هذه المحطات معارضين عراقيين مفسحة أمامهم في المجال للتعبير عن آرائهم ومواقفهم. واضطر تلفزيون "المستقبل" مرّة الى بتر حلقة استضاف فيها شخصيات سياسية كويتية لعدم تمكّنه من تحمّل وقائع الحوار. وأثار الأمر حفيظة الكثيرين من الكويتيين الذين كانوا يتابعون الحلقة. محطة "أل بي سي" نجحت في إيجاد معادلة موضوعية عبر علاقتها بالحرب: لم تتحمس لا لنظام صدام ولا للأميركيين، ولكنها نقلت مأساة الشعب العراقي كما يجب أن تنقل سياسياً وإنسانياً، وحاولت ان تقدم الوقائع بحسب مسارها أو مجراها، فاتحة شاشتها للصحاف وزير الإعلام العراقي و"عنترياته" الطريفة وللمعارضين العراقيين وخصوصاً في الندوات السياسية، من دون أن تهمل وجهة النظر الأميركية. وعندما دخل الأميركيون بغداد وراح المواطنون العراقيون يسقطون تماثيل صدام حسين ويمزقون صوره تصرفت الشاشات اللبنانية في معظمها بحذر مع المشهد المفاجئ والمريع والذي ينال كثيراً من صورة البعث العراقي والنضال القومي. هكذا كانت شاشات تلفزيون "المستقبل" وال"أن بي أن" و"التلفزيون الجديد" و"تلفزيون لبنان" طبعاً متجهمة وحذرة لئلا أقول مصدومة في نقلها تلك المشاهد التاريخية. وكادت إحدى المذيعات في "المستقبل" تبكي وهي تقرأ الأخبار بصوت مبحوح. وعندما قام أحد المجاهدين العرب بعملية انتحارية غداة سقوط بغداد انتفضت المذيعة نفسها بحماسة وهي تقرأ الخبر وكأنها تتمنى أن تتحول بغداد أرضاً للعمليات الانتحارية. ربما كان من حق المذيعين في هذه التلفزيونات اللبنانية أن يحزنوا أمام مشهد سقوط بغداد وأن يتحمسوا للعمليات التي تستهدف الجيش الأميركي. لكن حزنهم بدا مفتعلاً أمام فرح المواطنين العراقيين الذين راحوا يسحلون تماثيل صدام ويدوسونها بأقدامهم بعدما أسقطوها. إلا أن تلفزيون "المستقبل" نجح في تغطية الحرب في بغداد والشمال العراقي عبر مراسلتيه نجوى قاسم وديانا مقلّد. واستطاعت هاتان المذيعتان أن تغيرا نظرة الجمهور اللبناني والعربي الى المذيعة اللبنانية التي تؤثر الأناقة والرفاهية والتي تعتمد على جمالها أكثر من ذكائها. بدت هاتان المراسلتان متعبتين في أحيان كثيرة مثل العراقيين أنفسهم وسائر المراسلين الذين يرهقهم البحث عن الخبر والصورة. وحاولت ديانا مقلّد ألا يكون عملها مجرّد نقل للخبر مقدار ما حللت الخبر مانحة إياه خلفية سياسية. أما مراسلو تلفزيون "أل بي سي"، وهم ذكور في معظمهم، فكانوا موضوعيين ودمجوا بين الخبر وتحليله. وحضور هؤلاء أفاد كثيراً المحطة اللبنانية أو الأرضية التي كانت تستعين بهم كمراسلين للفضائية و"الحياة". وإن تمكنت ال"أل بي سي" الأرضية والفضائية من فتح برامجها السياسية أمام الشخصيات العراقية على اختلاف انتماءاتها اضافة الى الشخصيات اللبنانية، فإن المحطات الأخرى فتحت برامجها أيضاً أمام السياسيين اللبنانيين وبعض العرب والعراقيين. مارسيل غانم وشدا عمر واكبا الحرب واستضافا شخصيات مهمة وكانت حلقاتهما مثاراً لنقاش لم ينته ربما. وبدا برنامج "المرصد" الذي أسسه وقدمه انطوان سلامة ناجحاً في رصد الخلفيات السياسية والإعلامية والاقتصادية للحرب. زاهي وهبي وزافين في "المستقبل" اضطرا الى جعل برنامجيهما سياسيين في أحيان كثيرة نظراً الى أهمية الحدث واستضافا وجوهاً مهمة عراقية وعربية. وهكذا فعل معظم مقدّمي برامج السياسة في "التلفزيون الجديد" وال"أن بي أن". السياسيون اللبنانيون الذين أطلوا عبر الشاشات اللبنانية كانوا باهتين وعاديين جداً. وبعضهم راحوا يبالغون في مواقفهم الحماسية والهوائية مثلما فعل الصحاف وزير إعلام صدام حسين، متوعدين الأميركيين بهزيمة نكراء على أسوار بغداد. وراح بعضهم يثرثرون وكأن غايتهم أن يطلوا ولو لم يكونوا يملكون ما يقولون من كلام جدي وتحليل. وعلى غرار هؤلاء السياسيين كان بعض الصحافيين اللبنانيين الذين لا يفوّتون عادة أي مناسبة تلفزيونية. فهم يحققون "نجوميتهم" في مثل هذه الظروف. وبدا معظمهم مغالياً أيضاً على غرار السياسيين وبعيداً من الموضوعية. وقد فضحت النهاية السريعة للحرب "ثقافتهم" العميقة جداً ووجهات نظرهم الصائبة. وافتقد الجمهور اللبناني أكثر ما افتقد خلال الحرب، الوجه السياسي الصاعد النائب ناصر قنديل. ولم يدرِ أحد لماذا غاب هذا الغياب الجزئي عن برامج الحرب وندواتها، علماً أن وزير الإعلام العراقي اكتسحه وسبقه في خطابيته وبطولاته الهوائية ولهجته القومية العالية. أما أشد ما فضحته نهاية الحرب غير المتوقعة فهو التحليل العسكري و"الاستراتيجي" الذي كان يتحفنا به كل ليلة الكثيرون من العمداء والعقداء العسكريين وكلهم متقاعدون، يا للمصادفة وكان يحلو لبعضهم أن يطبق نظرياته العسكرية على الأرض أمام خريطة للعراق أو لبغداد وسائر المدن. إلا أن نهاية الحرب سرعان ما قوّضت نظرياتهم وتحليلاتهم التي كانوا يأتون بها وهم جالسون وراء مكاتبهم. وطبعاً ينبغي استثناء بعض هؤلاء العسكريين الذين حاولوا أن يكونوا موضوعيين قدر إمكانهم!