حينما جرى الإعلان في 20 أيلول سبتمبر الماضي عن وثيقة "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة" بدا للوهلة الاولى وكأنها مفاجأة مدوية يقلب بها الرئيس الاميركي جورج بوش الحياة الدولية رأساً على عقب. فالآن وبعد أكثر من عقد من نهاية الحرب الباردة تقرر الوثيقة أن الرئيس الاميركي لا ينوي مطلقاً السماح لأي دولة أجنبية باللحاق بالتقدم الضخم الذي حققته الولاياتالمتحدة عسكرياً منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. ومن الآن فصاعداً: "لن تسمح الولاياتالمتحدة مطلقاً لأي طرف دولي آخر بأن يتحدى تفوقها العسكري بمثل ما كانت الحال خلال الحرب الباردة". لم تعد هناك دول تهدد الولاياتالمتحدة. لكن من الآن فصاعداً لن تنتظر الولاياتالمتحدة قدوم التهديد إليها، ولو كمجرد احتمال، وإنما هي التي ستذهب إليه لضربه عسكرياً بشكل استباقي... حتى لو لم يكن هناك أي استفزاز يبرر مثل هذا التصرف الاستباقي. لوهلة اولى بدا الكلام جديداً، حتى انه بدا جزءاً من تداعيات أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 كما تقرر الوثيقة الاميركية ذاتها. في الواقع أن هذا التفكير "الامبراطوري" الاميركي سابق ل 11 أيلول سبتمبر. بل هو بدأ بالضبط في اللحظة التي سقط فيها حائط برلين عام 1989 وتأكد نهائياً بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي في اليوم الأخير من العام 1991. كان انسحاب الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى من الحياة الدولية حدثاً جللاً في حد ذاته، فهو لم يصل إلى برلين في الحرب العالمية الثانية إلا بخمسة وعشرين مليون قتيل. وهو لم يضمن الندية مع الولاياتالمتحدة إلا من خلال التكافؤ النووي والقدرة على "التدمير المؤكد المتبادل". من ناحيتها لم تنتصر الولاياتالمتحدة على الاتحاد السوفياتي من خلال مواجهة مسلحة، وإنما انتصرت من خلال فكرة "الاحتواء" التي ابتدعها جورج كينان في العام 1947 حين كان مديراً للتخطيط السياسي في وزارة الخارجية الاميركية. وفي الفترة القصيرة التي احتكرت الولاياتالمتحدة التسلح النووي خلالها فكّر بعض الرؤوس الساخنة في واشنطن في توجيه ضربة نووية أولى ونهائية إلى الاتحاد السوفياتي قبل أن يلحق بها نووياً. البعض في واشنطن - ومن بينهم جورج كينان نفسه - اعتبر هذا تفكير مجانين. والبديل هو الاحتواء ومرور الزمن بدرجة كافية بما يمنع الاتحاد السوفياتي من التمدد والانتشار فلا يتجاوز أوروبا الشرقية. لكن ما حدث في الأعوام 1989/1991 تجاوز بكثير حتى خيالات جورج كينان نفسه. فالماركسية لم تسقط فقط والاتحاد السوفياتي لم ينسحب من أوروبا الشرقية فقط ولكن الاتحاد السوفياتي ذاته تفكك إلى شظايا من خمس عشرة دولة مستقلة. في حينها قال جورج كينان إن الولاياتالمتحدة تبدو كأنها اشترت ورقة يانصيب بدولار واحد فهبطت عليها من السماء جائزة بمليون دولار. ولأن السياسة تكره الفراغ وترفضه، فقد كان طبيعياً أن تتقدم الولاياتالمتحدة قبل غيرها لشغل الفراغ الاستراتيجي الذي تركه الاتحاد السوفياتي. لقد تلاحقت أفكار المخططين الاستراتيجيين في واشنطن.. وبالذات تحت رعاية ديك تشيني وزير الدفاع وقتها في إدارة جورج بوش الأب. وخلاصتها أن الفرصة ذهبية لكي تؤكد الولاياتالمتحدة وضعها الجديد كقوة عظمى منفردة، وتتحرك من فورها لقطع الطريق على أي دولة أخرى، أو مجموعة من الدول، قد تسعى إلى منافسة الولاياتالمتحدة أو مجرد الاقتراب من مستويات قوتها. في حينها سرب بعض الجنرالات الاميركيين هذا التفكير الجديد الى الصحف لأنهم اعتبروه أصلاً تفكير مجانين بينما اعتبره سياسيون معارضون مقدمة تفرض بها الولاياتالمتحدة على العالم سباق تسلح جديد من طرف واحد تضاعف به الفجوة مع القوة - أو القوى - المحتملة مستقبلاً على حساب وضعها الاقتصادي. في حينها خشي المعارضون أيضاًَ - داخل الولاياتالمتحدة - من أن "غنائم السلام" الموعودة ستضيع. وبدلاً من تخفيض الإنفاق العسكري وتحويل الفائض إلى معالجة المشاكل الاجتماعية الملحة. فإن الاقتصاد الاميركي سيخضع لسباق جديد للتسلح بغير أن يلتقط أنفاسه من أعباء السباق المرهق خلال سنوات سابقة، والذي كانت نتيجته هي أن الولاياتالمتحدة خرجت من الحرب العالمية الثانية وهي أكبر دولة دائنة في العالم. لكنها خرجت من الحرب الباردة وهي أكبر دولة مدينة في التاريخ. في وثيقة 20 أيلول سبتمبر الماضي حسمٌ لكل هذا الجدل. الأفكار ذاتها كانت متداولة وإن يكن على استحياء طوال عشر سنوات سابقة على الأقل. والجديد الآن هو الجرأة في إعلانها. بل إننا قرأنا أيضاً أنه رغم ما في وثيقة "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة" من تجبر وتفرد وغطرسة، إلا أنها كانت في صياغتها الاصلية أكثر تجبراً وتفرداً وغطرسة بما استلزم إضافة بعض مساحيق التجميل، هذا يعني أن الوثيقة لم تكن من تداعيات أحداث 11 أيلول سبتمبر سنة 2001، ولكنه يعني أن أحداث 11 أيلول سبتمبر عجلت بها وجعلت تمريرها في العقل السياسي الاميركي أكثر يسراً وأقل رفضاً. في جانب من الاستراتيجية الاميركية الجديدة انذار محدد معلن وموجه إلى الدولة - أو أي مجموعة من الدول - قد تفكر باللحاق بالقوة الاميركية على أي مستوى. بدءاً بالمستوى العسكري. فطوال 45 سنة أدت القوة العسكرية السوفياتية إلى تحييد القوة العسكرية الاميركية بما سمح بأطول فترة سلام في القرن العشرين. الآن ومستقبلاً لن تسمح الولاياتالمتحدة بوجود اتحاد سوفياتي آخر، أو حتى طبعات منقحة منه. وعلى حد تعبير مصدر عالي المستوى في البيت الأبيض فإن المهم عند الولاياتالمتحدة من الآن فصاعداً أن تمنع تطلع أي دولة أخرى إلى امتلاك خيار منافسة الولاياتالمتحدة عسكرياً لأنه: "بمجرد أن تمنع وجود تحدٍ بالمنافسة العسكرية فأنت تفتح إمكان التعاون في عدد من الميادين الأخرى"، الصين هنا مذكورة بالإسم في وثيقة "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة" الجديدة هذه. لكن الصين وصلتها الرسالة الاميركية عملياً من خلال ثلاث عشرة قاعدة عسكرية أميركية جديدة أصبحت تحيط بالصين. هذا فقط جرى بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر. لكن في جانب آخر من الاستراتيجية الاميركية الجديدة هناك انذار محدد اضافي إلى كل دول العالم الثالث. نفس الدول التي ناورت بدرجات مختلفة من النجاح بين القوتين العظميين طوال 45 سنة بعد الحرب العالمية الثانية لكي تلحق بقطار التنمية الاقتصادية وتسترد بعض حقوقها. الآن تعلن الاستراتيجية الاميركية الجديدة بوضوح أن "الشرعية الدولية" التي كانت شعار المرحلة في الحرب الباردة ستتحول من الآن فصاعداً إلى "الشرعية الاميركية". لقد انسحبت الولاياتالمتحدة من عدد من الاتفاقات الدولية التي كانت ارتضت بقيودها سابقاً، وهي الآن لم تعد راغبة في وضع دولي متعدد الأطراف حتى ولو كانت فيه الأول بين متساويين. حيث أنه: حينما تكون المصالح الاميركية على المحك فلن تكون هناك أي حلول وسط كما: "إننا لن نتردد في التصرف والعمل منفردين عند الضرورة لممارسة حقنا في الدفاع عن النفس من خلال التصرف بطريقة استباقية". لم يعد هنا احتواء ولا ردع ولا شرعية دولية. هناك فقط سياسة امبراطورية وضربات عسكرية استباقية كلما رأت أميركا أن هذا يناسبها ويعظم من مصالحها ويجعل المنافسين المحتملين أقل قوة وقدرة على الحركة. وكما جرى ذكر الصين بالاسم، وخصصت لها الوثيقة الجديدة نصيحة "مخلصة" بأن توجه إنفاقها إلى الاقتصاد والاصلاح السياسي بدلاً من بناء قوة عسكرية، يجيء أيضاً مثال توضيحي في الشق الثاني من الوثيقة الاميركية الجديدة، حيث ستسعى اميركا الجديدة إلى "كسب معركة القيم والأفكار المنافسة" بما يتضمنه ذلك من: "معركة مستقبل العالم الاسلامي"، هذه الصياغة الشفرية الرمزية تعني محيطاً جغرافياً يمتد من اندونيسيا شرقاً إلى نيجيريا غرباً إلى السودان واليمن جنوباًَ. وإذا حاولنا أن نتذكر هنا.. ما الذي يجمع هذا المحيط الواسع - بخلاف تنويعات من فهم الاسلام وتطبيقه - فلن نجد سوى: البترول. أما لماذا انحشر هنا اسم الاسلام تعسفياً، وقبله جرت الإشارة إلى الصين، فهذا يذكرنا بتخريجة عجيبة أخرى مطروحة منذ سنة 1993 بعنوان ملفق هو: "صدام الحضارات". في حينها لم يأخذ المحللون هذا العنوان بجدية وسخروا من الذي ابتدعه. الآن... طلعت الحكاية جد والعنوان الرمزي هو: "صدام الحضارات". لا صدام... ولا حضارات... هي الامبراطورية الجديدة تتقدم في أرض الواقع. قد تصبح التسمية المستحبة من باب التلطيف هي "مشروع القرن الاميركي الجديد"، وقد تصبح في كتابات أخرى "الرد على من يكرهون أميركا وكل ما تمثله". البعض حتى تساءل أخيراً: لا أحد يكره أميركا... وإنما السؤال الحقيقي هو: لماذا تكرهنا أميركا؟ غلط. فالضحايا الجدد في "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة" لا تكرههم أميركا. بالعكس. هي تحبهم... وبشدة. ومن فرط حبها لهم تقول لهم بكل وضوح: اسمعوا كلام اميركا. افتحوا مخكم وأرضكم وجيوبكم... تأكلون ملبن. وبكل ديموقراطية نتيح لكم الخيار بين أمرين. أما الاقتناع من الشمال إلى اليمين بقراءة وثيقة "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة" والإذعان لأحكامها. أو الاقتناع من فوق لتحت فتتولى المهمة صواريخ كروز. ألم نخطركم بأن سياستنا من الآن فصاعداً هي: الضربات الاستباقية؟ * نائب رئيس تحرير "اخبار اليوم" القاهرية.