أمر ملكي بتعيين 125 «مُلازم تحقيق» على سلك أعضاء النيابة العامة القضائي    ارتفاع الصادرات غير البترولية بنسبة 22.8 % في سبتمبر من 2024    الأمن الغذائي: السماح لشركات المطاحن المرخصة بتصدير الدقيق للأسواق العالمية    هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    أكثر من 750 ساعة تخدير و60 عملية فصل ناجحة لتوائم ملتصقة من 21 دولة حول العالم    يلتهم خروفا في 30 دقيقة    15 مليار دولار لشراء Google Chrome    تنافس شبابي يبرز هوية جازان الثقافية    أقوى 10 أجهزة كمبيوتر فائقة في العالم    3 أهلاويين مهددون بالإيقاف    لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    إصابة طبيب في قصف إسرائيلي استهدف مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة    "الداخلية" تختتم المعرض التوعوي لتعزيز السلامة المرورية بالمدينة    مسودة "كوب29" النهائية تقترح 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة    افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    المدينة: ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف ومواقع تاريخية    «اليونيسف» تحذر: مستقبل الأطفال في خطر    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    آل غالب وآل دغمش يتلقون التعازي في فقيدهم    أمراء ومسؤولون يواسون أسرة آل كامل وآل يماني في فقيدتهم    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    «واتساب» يتيح التفريغ النصي للرسائل الصوتية    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    فعاليات متنوعة    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    القِبلة    600 شركة بولندية وسلوفاكية ترغب بالاستثمار في المملكة    المملكة تعزز التعاون لمكافحة الفساد والجريمة واسترداد الأصول    الأكريلاميد.. «بعبع» الأطعمة المقلية والمحمصة    "تقني‬ ‫جازان" يعلن مواعيد التسجيل في برامج الكليات والمعاهد للفصل الثاني 1446ه    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    مشكلات المنتخب    تأثير اللاعب الأجنبي    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    «النيابة» تدشن غرفة استنطاق الأطفال    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    مستقبل جديد للخدمات اللوجستية.. شراكات كبرى في مؤتمر سلاسل الإمداد    المدى السعودي بلا مدى    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    «سلمان للإغاثة» ينظم زيارة للتوائم الملتصقة وذويهم لمعرض ترشح المملكة لاستضافة كأس العالم 2034    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل هناك صفقة بين حاقد ومرتعب خلف التوزيع الاستثنائي لجوائز "كان"؟. لقطات طويلة وأجيال خائبة ومسافات بين ما نفكر به وما نفعله
نشر في الحياة يوم 30 - 05 - 2003

لنتخيل ما حدث على هذا النحو، من دون ان يكون قد حدث كذلك حقاً، طالما ان النتيجة التي أسفر عنها توزيع الجوائز في الحفلة الختامية لدورة هذا العام لمهرجان "كان" توحي به، وطالما ان المشكلة هذه المرة ليست في الأفلام التي فازت، بل في فيلمين على الأقل حرما من فوز كان يستحقه كل منهما، على طريقته. إذاً، انطلاقاً من هنا لنتخيل ما حدث: من بين الكثير من الأفلام التي عرضت في "المسابقة الرسمية" للمهرجان، كان هناك خمسة او ستة أفلام فقط تستحق، ليس الفوز وحده، بل أن تكون اصلاً في مسابقة رسمية لمهرجان من وزن هذا المهرجان، وهذه الافلام هي: "دوغفيل" و"الفيل" و"مستيك ريغر" و"ادزاك" و"الغزوات الهمجية" وربما "الفراشة الارجوانية".
في نهاية الأمر، أعلن عن فوز ثلاثة من هذه الأفلام بالجوائز الست الرئيسة، اضافة الى فوز فيلم الايرانية سميرة مخملباف غير المنطقي، الا في اطار منطق مهرجان "كان" بجائزة لجنة التحكيم الخاصة. ولكي يعطى كل فيلم من الأفلام الثلاثة الفائزة جائزتين، "اضطر" رئيس المهرجان جيل جاكوب الى اصدار قرار استثنائي "شكره" عليه رئيس لجنة التحكيم. وذهل الحضور: لماذا هذا الاستثناء؟ وأتى الجواب سريعاً: لكي يمكن استبعاد فيلمين من فوز كان متوقعاً ومؤكداً. والفيلمان هما "دوغفيل" للارس فون تراير و"مستيك ريغر" لكلينت ايستوود. ونبادر منذ الآن للقول ان الأول كان يستحق السعفة الذهبية ومن بعيد، والثاني كان يستحق جائزة افضل تمثيل ذكوري لواحد من ابطاله الثلاثة، شين بن وتيم روبنز وكيفن بيكون، او للثلاثة معاً. فما الذي يمكن أن يكون قد حدث؟
ونعود الى تخيلنا: باتريس شيرو، رئيس لجنة التحكيم لهذا العام، وهو رجل مسرح كبير انما من دون ان يؤخذ سينمائياً بعين الجدية ابداً، له ثأر قديم على كلينت ايستوود.
إذ حين كان هذا الأخير رئيساً للجنة التحكيم في دورة سابقة ل"كان"، عارض منح فيلم شيرو "الملكة مارغو" السعفة الذهبية، كما عارض منح ايزابيل ادجاني بطلة الفيلم جائزة أفضل ممثلة. حقد شيرو على ايستوود، وقرر ان يحرمه هذه المرة من أية جائزة. في المقابل كان جيل جاكوب، رئيس المهرجان، ارتعب منذ شن الاميركيون هجوماً كاسحاً على فيلم "دوغفيل" للارس فون تراير، ولا سيما منهم مجلة "فارايتي" المرتبطة بالمؤسسة السينمائية الاميركية وبزعيمها جاك فالانتي شخصياً. كانت خشية جاكوب من أن تعطى الجائزة الكبرى، أو اية جائزة ل"دوغفيل"، ما كان من شأنه في رأيه ان يزيد من حدة الاميركيين الذين كان لمقاطعتهم، غير المعلنة، هذا العام أثر سيئ جداً في المهرجان. حسبها جاكوب في رأسه: إن فاز "دوغفيل" قد يقاطع الاميركيون دورة العام المقبل.
وهكذا، كما نتخيل، التقى حقد شيرو مع رعب جاكوب، فحرم "مستيك ريغر" و"دوغفيل" من الفوز، عبر صفقة متبادلة.
من يستحق ومن لا يستحق
من هنا، نعود ونكرر، لم تكن المشكلة في عدم أحقية من فازوا، بل في أحقية فيلمين كان ثمة إجماع كبير لدى محبي السينما والفن على الأقل حولهما منذ عرضا. ويقيناً ان اختيار ثلاثة أفلام لقيت اجماعاً هي الأخرى للفوز، انقذ الوضع كله من السقوط في أدنى درجات السخف، حتى وإن كان هذا السقوط تحقق مع منح جائزة النقاد الخاصة لذلك الفيلم الهلامي "عند العصر" لتلك الفتاة الايرانية التي باتت تتقن فن الوقوف أمام الكاميرات بعينيها الجاحظتين، بقدر ما يتقن أبوها، المخرج محسن مخملباف فن اقتناص الفرص وتحويل الاحداث الى صفقات عائلية تتم مع الفرنسيين ويخرج منها الكل رابحاً، باستثناء السينما الايرانية نفسها. ف"عند العصر" فيلم لا معنى له، وما فوزه سوى انعكاس لتلك الأبوية التي يحاولها الفرنسيون من دون هوادة من حول كل ما يتعلق بالمرأة العربية او المسلمة، في ايران او في افغانستان. لذلك نغض الطرف عن هذا الفوز وننتقل الى الأفلام الثلاثة التي فازت بجدارة.
على الفور، لا بد من ان نقول ان "الفيل" تحفة سينمائية متميزة، ونشدد على كلمة "سينمائية" لأن الفيلم قطعة فنية، وليس منشوراً سياسياً كما حاول البعض ان يراه. انه فيلم ينطلق، من ناحية موضوعه من مجزرة تشبه مجزرة كلية كولومباين التي شكلت خلفية الفيلم الوثائقي الرائع الذي قدمه مايكل مور في العام الماضي. ولكن في مقابل يقين مور السياسي الاتهامي، يبدو غاس فان سانت، كاتب "الفيل" ومخرجه، من دون أي يقين. وهذا ما يحمله مغزى عنوان فيلمه المستند الى حكاية العميان والفيل الشهيرة. بالنسبة الى غاس فان سانت، في حال مثل حال مجزرة الكلية، لا يمكن أحداً ان يتوصل حقاً الى تحديد الدوافع واطلاق اصابع الاتهام. لذلك، بدلاً من تسييس الموضوع والخروج برسالة وموعظة، نراه يفضل ان ينكبّ على موضوعه محاولاً ان يجرب في الشكل من خلال وضع متفرجه في صورة الحدث، من دون أن يفرض عليه تفسيراً له.
بيتهوفن والعنف
ومن هنا، فإن الفيلم يتناول الحياة في الكلية، وحياة أهل الكلية، خلال زمن سابق مباشرة للمجزرة: ان كاميراه تتابع الطلاب وغيرهم في حياتهم اليومية ومشكلات عيشهم. واحد يصور عاشقين في بارك، ثان يحاول ان يضبط أباه الثمل، ثالثة تتجه الى عملها داخل المكتبة، رابع يصطحب صديقته الى المطعم. وفي خضم هذه الملاحقة، دقيقة بدقيقة لهؤلاء الاشخاص، يقدم لنا المخرج المراهقين اللذين سيرتكبان المجزرة. انهما شابان عاديان، لكن افتتانهما بهتلر واضح، ومثليتهما الجنسية فصيحة، ورغبتهما في القتل المجاني معلن عنها منذ البداية. ولا نحاولن أن نخدع أنفسنا هنا اذا ما رأينا واحداً من الشابين يعزف على البيانو قبل توجهه لارتكاب المجزرة مباشرة، واحدة من اكثر مقطوعات بيتهوفن رومنطيقية، أي "الى إليز". فمن سبق له ان شاهد الكسّ دو لارج يَقْتُل على وقع السيمفونية التاسعة لبيتهوفن نفسه في فيلم ستانلي كوبريك "البرتقال الآلي"، يعرف منذ زمن بعيد ان الولع بالموسيقى العاطفية ليس ضمانة ضد العنف والقتل.
المهم ان الشابين، يجهزان نفسيهما تماماً ويشتريان السلاح بالبريد ثم يتوجهان الى الكلية بهدوء وتؤدة، ويبدآن بقتل كل من يريانه، بل إن احدهما يقتل الآخر في النهاية. من كل هذا، ليس ثمة ما هو غير متوقع. المفاجأة الوحيدة هي الأسلوب الذي اختاره فان سانت لعمله: كاميرا تتحرك وراء الشخصيات في حركة متواصلة. ثم تترك شخصية لتتبع أخرى كاشفة عن وجهات نظر عدة لما يحدث نظرية "الفيل" والعميان، تجريبية شكلية متميزة حتى وإن كان في امكاننا أن نحتج على السهولة التي يتم بها القتل نفسه ، تفاوت هائل بين الحدث ومعرفتنا بخلفياته، عشوائية في اختيار الضحايا... كل هذا أداه غاس فان سانت، اخراجاً وكتابة، في روعة استثنائية، ويزيد من استثنائيتها كونه لم يستعن، للأدوار، الا بطلاب ثانويين غير محترفين. "الفيل" فيلم متميز حقاً، كان يستحق جائزة كبيرة، للاخراج التي فاز بها على أي حال او للسيناريو، لكنه كان في امكانه منطقياً ان يترك "السعفة" ل"دوغفيل"، لأن هذا الأخير استثنائي، وليس متميزاً فقط، ولكن هذا حديث سنعود اليه في مقال لاحق. اما هنا فننتقل الى الفيلم الثاني الذي فاز، بدوره، بجائزتين: جائزة افضل سيناريو، وجائزة افضل ممثلة.
موت مرح لجيل فظيع
هذا الفيلم هو "الغزوات الهمجية" للكندي الناطق بالفرنسية ديني آركان. والحال ان "الغزوات الهمجية" منذ عرضه شكل منافساً جدياً على "السعفة" ل"دوغفيل" ول"الفيل" معاً. في هذا الفيلم، الذي فازت احدى بطلاته الشابة، ماري جوزيه كروز، بجائزة افضل ممثلة عن دورها كإبنة عشيقة سابقة لبطل الفيلم المكتهل والمحتضر والتي تتولى حقنه بالمخدرات لتخفيف آلام موته، في هذا الفيلم يتابع آركان، وهو كوبيكي مخضرم، ما كان بدأه في فيلم سابق له هو "سقوط الامبراطورية الاميركية" ومعظم الاحيان بالممثلين أنفسهم، سبر أغوار أفكار الستينات من القرن الماضي الثورية اليسارية. وإذ يفعل آركان هذا، فإنما لكي ينشر ما يمكننا ان نعتبره ورقة نعي جيل بأسره وأفكار كاملة، هي افكار شباب ثورات الستينات الراديكالية. والنعي هنا مزدوج، نعي واحد من ابناء الجيل، ونعي الجيل نفسه، اذ من خلال موت ريمي، الذي عاش حياته طولاً وعرضاً، رسم لنا آركان موت جيله كله، ولكن من دون حزن جدي ومن دون مرارة كبيرة. والحكاية تتمحور حول ريمي هذا الذي اذ يبدو واضحاً ان مرضه العضال سيقتله، يتولى ابنه، العامل في البورصة، وشبه الرأسمالي الذي لا تفارق الارقام او الهاتف المحمول حياته اليوم، يتولى دعوة زوجته السابقة وبعض عشيقاته اللواتي شخن تماماً، وعدد من اصدقائه للاحاطة به في ايامه الاخيرة. وهكذا يجتمع كل هذا العالم الجميل، ويبدأ بتذكر الماضي، بأفراحه وخيباته، بأفكاره الكبيرة وأيديولوجياته كما بدسائسه الصغيرة، وسط مناخ مرح طيب لا يكف فيه هذا الجيل، عن السخرية من ذاته، معلناً فشل كل ما فكر فيه وسعى اليه. وهكذا، بالتدرج، بعد انقضاء دقائق التعرف الاولى على الشخصيات، يبدأ الفيلم بالتسلل الينا، كما نحس اننا نحن ايضاً - ابناء الجيل والثقافة والخيبة نفسها - نبدأ بالتسلل الى داخل الفيلم، فيحدث انصهار مدهش بين المتفرَّج والمتفرَّج عليه، سهّله وأعطاه كل منطقية اخراج بسيط وحوار مرح وثاقب، ولكن ايضاً الاحساس، بأن معظم المتفرجين ينتمي الى الجيل نفسه. وفي هذا الاطار قد لا يكون خارجاً عن المنطق ذلك الشعور الذي خامر، مثلاً، صديقنا الناقد سمير فريد، بأن "الغزوات الهمجية" يشبه الى حد كبير مقالاً عنه وعن جيله، كان نشره قبل اسابيع قليلة في "الحياة"، او الشعور الذي خامر غيره من ابناء الجيل نفسه بأن ثمة في الحوارات جملاً وأفكاراً يقولها كل واحد منا في كل يوم ولحظة.
كان هذا كله ما اعطى "الغزوات الهمجية" منطقه وجماله، خصوصاً ان الفيلم، في لفتات عدة رائعة منه، منحنا نحن العرب غمزات متميزة حين تحدث عن الحضارة العربية وتاريخها وما الى ذلك. فيلم "الغزوات الهمجية" فيلم حي وحيوي، على رغم ان الموت هو موضوعه الرئيس. ومنذ قدم في عرضه الأول في "كان" تمكن من إضفاء شيء من الحيوية على المهرجان نفسه، علماً أنه يحقق الآن، إذ يعرض في بلده كندا، نجاحاً جماهيرياً هائلاً لا يوازيه إلا نجاحه النقدي والفكري.
الإنسان امام عجزه
مثل هذا النجاح لا يبدو من المؤكد انه سيكون من نصيب الفيلم الثالث الفائز، بدوره، بجائزتين في دورة هذا العام لمهرجان "كان" وهو فيلم "من بعيد" اوزيك للتركي نوري بيلفي جيلان. فهذا الفيلم هامشي تماماً وذاتي تماماً، اي يسير عكس تيار ما اعتادته السينما التركية. وحتى لو كان مخرجه، بعد فوزه بجائزتي "لجنة التحكيم الكبرى" و"أفضل ممثل" مناصفة لبطليه، أعلن ان الفيلم لا يمثل سيرته الذاتية، لا بد لنا من ان نلاحظ نقاط تشابه كثيرة بين المخرج وواحد من البطلين: محمود الذي يعمل مصوراً لبلاط البورسلين ويحلم بأن يصبح سينمائياً، وهو مثقف ومصور هاو، ينتمي بدوره الى جيل ثورات الشباب الثقافية. كما ان الفيلم صوّر في شقة المخرج نفسه. والذي قام بدور محمود هو الممثل نفسه الذي سبق له ان قام بدور المخرج في فيلم سابق لجيلان. اما الممثل الثاني الذي قام بدور يوسف وقد اعلن خلال الحفلة الختامية انه قتل قبل اسابيع في حادث سيارة فهو ابن عم جيلان نفسه. ثم ان محمود ابن ريف جاء الى المدينة اسطنبول وسافر كثيراً مثل جيلان نفسه... الى آخر ما هنالك.
حسناً، قد لا يكون "من بعيد" سيرة ذاتية لجيلان، لكنه بالتأكيد فيلم ذاتي. وأيضاً عن جيل اخفق على رغم كل احلامه وإمكاناته الفكرية. ولئن كان إخفاق جيل ريمي بطل "الغزوات الهمجية" قد عُبّر عنه بموته والاحتفال الطقوسي بذلك الموت، فإن إخفاق جيل محمود عُبّر عنه بتلك السلبية التي تطبع شخصيته: إنه رجل اللافعل، العاجز عن الحب وعن الحركة، الضائع بين جذور لم تعد له، ومستقبل لا يعد بشيء وبينهما حاضر يدمره ارتباط بالمدينة وعجز تام عن التأقلم مع جمالها.
محمود هذا، بطل فيلم جيلان، يعيش في اسطنبول، وسط صقيعها وثلجها ومنظرها الرائع، حياة رتيبة انسته الى حد كبير جذوره، وأنسته، حتى أحلامه التي باتت مجرد لوحات فوتوغرافية معلقة على جدران شقة بسيطة تعيش هاجس فأرة تتحرك بحرية في مطبخها. ذات يوم يستقبل محمود على مضض، يوسف ابن عمه الشاب الآتي من الريف حيث البطالة والبؤس ليحاول ان يجد لنفسه عملاً في المدينة. محمود يضطر الى ايواء يوسف في شقته ريثما يعثر هذا على عمل لن يعثر عليه ابداً، وبالتدرج يتصاعد التوتر بين الاثنين، إذ تصبح حياة يوسف خواء وتنقلاً في اسطنبول بحثاً عن عمل او امرأة او عن اي شيء، بينما يعيش محمود ازمة علاقاته العاطفية وفشله المهني وخواء ارتباطاته بالمدينة.
وهذا كله يصوره لنا نوري جيلان، بأسلوب هادئ وكاميرا تعرف كيف تلتقط جمال المدينة، في الوقت الذي تلتقط ايضاً عجز الشخصيتين الرئيستين عن تلمس هذا الجمال حقاً وتحويله الى بعد انساني حقيقي، ذلك ان الظروف سلبت من هذين حتى الرغبة في البحث عن مصير. صحيح ان يوسف يحاول جهده للعثور على عمل، ويحزن امام وعود تخيب دائماً وسط بطالة عامة وأزمة اقتصادية، لكنه لا يبدو في حقيقة الأمر على عجلة من امره. بل إنه خلال الجزء الأول من الفيلم لا يدرك ابداً استياء محمود من وجوده. لا يدرك ان محمود صار ابن مدينة، خائباً محبطاً، وأنه بالنسبة إليه مجرد قريب آت "من بعيد" ومن هنا عنوان الفيلم. لقد صارت هناك مسافة كبيرة بين محمود ويوسف. وهذه المسافة اذ يشعر بها محمود، لأنه الأكثر وعياً والأكثر لؤماً - ابن مدينة أليس كذلك؟ - تغيب عن يوسف الأكثر براءة. ولكن بمقدار ما يتعمق يوسف في علاقته بالمدينة وفي خيبة أمله أمام عمل لا يصل اليه أبداً، تزداد مدينيته وبالتالي ادراكه أزمة علاقته مع ابن عمه. أما هذا الأخير فإنه يواصل عيش احباطاته وعجزه: انه عاجز عن أن يحب المرأة التي يحبها زوجته السابقة والتي تسافر أمام تلصصه عليها في المطار. انه يريدها لكنه عاجز عن ذلك. يحب يوسف لكنه عاجز عن ذلك. لا يريده لكنه أيضاً عاجز عن التصريح بذلك. يذهب الى الريف ليصور، ولكن ما ان يكتشف مشهداً جديراً بالتصوير ويبدأ، بمساعدة يوسف الذي يعاونه في لحظة أمل، بالاستعداد للنزول لتصويره، حتى يقلع عن ذلك، من دون سبب أو مبرر. والحال ان جزءاً كبيراً من قوة هذا الفيلم الساحر، يكمن في ذلك التصوير الجواني الذي قدم لنا به المخرج شخصية محمود، تلك الشخصية الإشكالية الفاتنة، ولكن المحبَطة المحبِطة في الآن عينه.
ولكن لماذا لا نحب؟
إن مشاهد اليوم قد يرى في هذه الشخصية صدى لبعض شخصيات انطونيوني اوفسيكونتي في "الغريب"، بمعنى انه قد يراها منتمية الى غير هذا الزمان، ولا سيما في علاقة محمود الكأداء مع المدينة، ولكن جيلان ينبهنا منذ البداية: محمود لا ينتمي الى عالم اليوم. انه ينتمي الى عالم ماضيه وهواجسه. صحيح انه يحاول أن يتأقلم، لكن الصراع في داخله عنيف. ومن هنا نراه يقترب ويبتعد في علاقته مع يوسف، يبتعد ويقترب في علاقته مع اسطنبول. يقترب ويبتعد في علاقته مع امرأته القديمة أو عشيقته الجديدة. وفي هذا الاطار لم يكن زائداً أو للتسلية، ذلك الجانب من الفيلم الذي يطاول قضية الفأر في المطبخ. فمحمود وضع للفأر فخاً من مواد لاصقة، راح الفأر يقترب منه ويبتعد، حتى علق في نهاية الأمر. والمشهد الأخير في الفيلم، إذ يصوّر لنا محمود عند ضفة البوسفور متأملاً، بصفاء سلبي تام، يبديه لنا، على أية حال، أشبه بفأر التصق بفخه ولم يعد له منه فكاكاً: أشبه بشخص يتساءل فقط لماذا أصبح عاجزاً عن ان يحب.
وفي يقيننا ان هذا هو الموضوع الأساس لهذا الفيلم الساحر والبسيط، والذي من المؤكد ان فوزه المزدوج في "كان" سيعطيه بعض مكانة في بلاده تركيا وفرصة ليوزع في الخارج، ما يمكن مخرجه من أن يحقق فيلمه التالي، هو الذي قال ان المنتجين في بلاده التي ما عادت تنتج أكثر من 15 فيلماً في السنة، يستنكفون عن إنفاق أي قرش على أي فيلم يحمل موضوعاً. والحل الوحيد أمامه هو أن يربح بعض المال في كل فيلم يحققه حتى يتمكن من تحقيق الفيلم التالي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.