تواجه الولاياتالمتحدة، كما كان متوقعاً، مقاومة مسلحة في العراق وتصعيداً للعنف لا يبشر بالخير بالنسبة الى مستقبل المشروع الإمبريالي الأميركي. ولقد كانت الفلوجة، المدينة السنية التي تقع على بعد خمسين كيلومتراً غربي بغداد، نقطة الانطلاق للعديد من الهجمات نتجت عن مقتل جنديين أميركيين هذا الأسبوع وجرح تسعة. وفي اليوم التالي، وقع هجوم آخر في ضواحي بغداد أدى إلى مقتل جنديين وجرح عدد من الجنود، وإلى تدمير عربة مصفحة اصطدمت بدورها بطائرة عمودية جاءت لتنقذ الجرحى. لذلك يبدو الوضع خطيراً جداً بالنسبة الى القوات الأميركية في كل أنحاء العراق. ففي الجنوب، يلتحق السكان الشيعة المستاؤون من الاحتلال الأميركي بالحركات الدينية - السياسية كحزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، الذي تدعمه طهران ويرأسه آية الله محمد باقر الحكيم العائد اخيراً من منفاه في إيران ليلقى استقبالاً حافلاً. وقد بلغ قلق السلطات الأميركية من احتمال تدخل إيراني أن دُفع وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد الى توجيه تحذير جديد للجمهورية الإسلامية هذا الأسبوع بالابتعاد عن الشؤون العراقية، إذ قال إن أي محاولة لخلق ثورة إسلامية في العراق على النمط الإيراني ستقاوم بضراوة وتصاب بالفشل. اختارت الولاياتالمتحدة نظام حكم مباشر في العراق، حيث عينت الديبلوماسي بول بريمر، مسؤولاً فعلياً في البلاد كما عهدت إلى أميركيين آخرين بإدارة كل المرافق الرئيسية بما في ذلك الصناعة النفطية الحيوية التي هي مصدر الدخل الوحيد لبلاد مدمرة وتحتاج إلى إعادة إعمار شامل. ترى هل إن مقاومة أميركا أمر منظم أم أنه من صنع أفراد مدفوعين بأسباب شخصية أو وطنية أو دينية؟ لا بد أن هذا السؤال هو أشد ما يقلق سلطات الاحتلال. فمن القرارات التي اتخذها بريمر اخيراً قرار يقضي بحل وزارتي الدفاع والداخلية وإغلاق مراكز مختلف أجهزة الأمن وحل الأجهزة العسكرية وكل الأدوات الهجومية التابعة للنظام السابق. الأمر الذي يعني عملياً أن مئات الآلاف من الرجال القادرين على استخدام السلاح أصبحوا عاطلين عن العمل في مجتمع كان لهم فيه نفوذ كبير. فلا غرو، إذن، أن نتوقع بالضرورة بعض أعمال المقاومة من جانب هؤلاء. الى ذلك، تم حل حزب البعث واعتباره غير شرعي، الأمر الذي حرم أعداداً ضخمة من العراقيين من الإطار المؤسسي لحياتهم. هذا بالإضافة إلى أن معظم الوزارات ومؤسسات القطاع العام في بغداد جرى نهبها وتدميرها بعد الحرب، ما أدى إلى حرمان الآلاف من موظفي الدولة من دخلهم المعيشي. وقد يقبل العراقيون أن يبقى الأميركان في البلاد لفترة تكفي لإعادة النسيج الأساس للمجتمع على أن لا تزيد هذه الفترة يوماً واحداً بعد ذلك. أما الذين يريدون التعجيل بذهاب الأميركان، وإن بوسائل العنف، فهم أقلية. لا أحد يعلم عدد الجنود العراقيين القتلى والجرحى الذين سقطوا في القتال. ويقدر بعض المصادر بأن الرقم هو حوالي عشرة ألاف قتيل وعشرين إلى ثلاثين ألف جريح. هؤلاء وما تركوه من أسر وأقارب، معظمهم يعاني الفقر والبؤس، لا بد أن يكنوا طوال حياتهم نقمة شديدة ضد الأميركيين والبريطانيين قد تدفع بعضهم بشكل طبيعي إلى توجيه ضربات انتقامية. كما ان مجموعة من الضباط العراقيين تظاهروا هذا الأسبوع حاملين لافتات تطالب ب "الإسراع في إقامة حكومة وإعادة الأمن، وإعادة اعتبار للمؤسسات العامة، ودفع أجور جميع الجنود"، وفقاً لتصريحات الجنرال صاحب الموسوي في كلمة ألقاها أمام مئة ضابط. وتدخل ضباط آخرون ومنهم العميد زياد خلف الذي أنذر قائلاً: "إننا جنود ولدينا فدائيون مستعدون للاستشهاد"، ليضيف قوله: "سوف نستعيد بالقوة ما خسرناه بالقوة". والواقع أن القوات العراقية التي جرى التخلي عنها والتي ربما خانها قادتها تعاني شعوراً بالإحباط والنقمة الشديدة. حتى الأحزاب السياسية المتحالفة مع أميركا أصيبت بخيبة أمل بعدما قرر الاميركيون تأجيل تأليف حكومة عراقية موقتة، اذ أن المؤتمر الوطني العراقي الذي يرأسه أحمد الجلبي والحزب الكردي الذي يقوده جلال الطالباني عبرا عن استيائهما على رغم ما يحظيان به من معاملة متميزة. هذه الأحزاب تطالب بحصة في الحكم وتخشى أن يستمر الحكم الأميركي المباشر عاماً أو عامين قد تظهر خلالهما قوى وشخصيات تنتزع من امامها ما تعتبره إرثً "مشروعاً". ذلك أن الأهداف الأميركية الحقيقية في العراق لا تزال غامضة، إذ يبدو أن الولاياتالمتحدة تريد أولاً إضعاف العراق إلى الأبد وذلك بجعله دولة لامركزية، فيديرالية ومنزوعة السلاح، غير قادرة في أي يوم على تحدي أمن إسرائيل وأميركا ومصالحهما. كما تريد ثانياً السيطرة على النفط العراقي والإشراف على خصخصة مربحة لها، وثالثاً إرهاب الدول المجاورة وردعها عن تطوير أسلحة دمار شامل أو أي أسلحة مماثلة. وإذا كان هذا بالواقع هو جدول الأعمال الأميركي، فلا يرتقب أن يحظى بتأييد من جانب الشعب العراقي الوطني الحريص على إعادة بلاده إلى مكانتها كدولة عربية رئيسة بعد كل ما عانته خلال بضعة عقود من الحروب والعقوبات والقصف الأميركي والبريطاني. لذلك كله هناك أسباب عديدة تدفع على الافتراض بأن أميركا ستواجه مقاومة عراقية إما من الأكراد إما من مجموعات عمل سرية. ترى هل تعتبر هذه المقاومة مشروعة؟ المادة 51 من ميثاق الأممالمتحدة تعترف بحق الدفاع عن النفس ضد عدوان خارجي، والمادة 1 فقرة 4 من البروتوكول الإضافي لاتفاقية جنيف الرابعة تشير إلى "حق مقاومة أي هيمنة أو احتلال أجنبي في إطار حق تقرير المصير". فلقد ثبت الآن بوضوح أن الحرب ضد العراق كانت عملية احتيال، وعملاً غير مشروع وغير مبرر وخرقاً فاضحاً لميثاق الأممالمتحدة. إذ لم يتم العثور على أي أسلحة دمار شامل ولم يقم أي دليل على علاقة العراق بتنظيم القاعدة. وهو لم يشكل تهديداً لجيرانه ولا بطبيعة الحال لأميركا أو بريطانيا. وقد دان كبار المحامين الدوليين في لندن هذا الأسبوع الحرب واعتبروها غير شرعية. فوفقا لمبدأ بوش في الحرب الوقائية، أعطت الولاياتالمتحدة لنفسها حق التدخل العسكري في الدول التي لا تعجبها أو الدول التي تجرؤ على تحدي حليفها الإسرائيلي. ولكن لا يمكن إقامة نظام عالمي مستقر على مثل هذه الأسس الاعتباطية والعدوانية. والنتيجة المباشرة لهذه السياسة هي أن المصالح الأميركية والمواطنين الأميركيين أصبحوا مهددين في مناطق واسعة من العالمين العربي والإسلامي، وكذلك الحال بالنسبة الى البريطانيين نتيجة لسياسة توني بلير المتهورة. فقد تحولت سفاراتهما إلى حصون، كما شاهدت بنفسي في القاهرة هذا الأسبوع سد جميع الطرقات المؤدية إلى السفارتين الأميركية والبريطانية، وما ينتج عن ذلك من إزعاج للمصريين العاديين الناقمين أصلاً على الولاياتالمتحدةوبريطانيا بسبب سياستهما. وقد شاهدت الممرات المؤدية إلى السفارتين تتولى حراستها أعداد ضخمة من رجال الشرطة الخاصة لمقاومة التظاهرات. ويعيش العالم العربي اليوم، تحت تاثير صدمتين مزدوجتين، الأولى تتعلق باحتلال وغزو بلد عربي كبير من جانب الدولة الوحيدة العظمى في العالم، والثانية في الانهيار السريع للمقاومة العراقية وبخاصة في بغداد حيث كان أكثر العرب يتوقعون أن تغوص أميركا في مواجهة حرب عصابات داخل المدينة. كان لا بد من بروز نظريات حول وجود مؤامرات ترمي إلى تسليم بغداد للغزاة من جانب خونة عقدوا صفقات مع أميركا لاستسلام الجيش. غير أن منطقة الشرق الأوسط بأسرها كانت قبل الهجوم على العراق مصابة بوباء الكراهية لأميركا يغذيها التسامح الأميركي مع القمع الإسرائيلي للفلسطينيين. وقد جاءت حرب العراق لتعطي عمقاً وبعداً جديدين لهذا العداء. ومن المحتمل أن تأخذ المقاومة العربية أحد شكلين، الأول سيأتي ولا شك في صورة هجمات متفرقة ضد أهداف غربية أو عمليات انتحارية كالتي وقعت أخيراً في الرياض ودار البيضاء وقامت بها مجموعات من المتعصبين مرتبطين ب "القاعدة" أو مستلهمة منها. وفضلاً عن الطبيعة الإجرامية لمثل هذا العمليات، فهي أصلاً غير مجدية. ذلك أن اختيار الأهداف كان خاطئاً وكان الضحايا من المدنيين أكثرهم من العرب المحليين أو المسلمين. ونتيجة مثل هذا الإرهاب هي إثارة الرأي العام ضد مرتكبي هذه العمليات ودفع الأنظمة العربية إلى ممارسة المزيد من السيطرة على الموقف والمزيد من القمع، وبخاصة ضد أحزاب المعارضة الإسلامية بطبيعتها، وتعطيل عملية التحرير والإصلاح على الساحة السياسية. وقد يتخذ العداء لأميركا في هذه البلاد ولحكوماتها أيضاً شكل مقاومة سلبية هي في الواقع الخيار الوحيد أمام الجماهير. وهو خيار يولد الجمود، وغياب المبادرة، والحد الأدنى من الجهد في العمل وفي معظم الأحيان الانطواء على التقوى الدينية. وبعد، فإن معنويات العرب على مدى الذاكرة، أو على الأقل منذ عام 1967، لم تهبط إلى المستوى الذي وصلت إليه ولكن على أميركا أن تحذر لأن المقاومة آتية لا محالة. وما فكرة إعادة تشكيل وتنظيم العالم العربي لضمان الأمن الأمريكي والإسرائيلي سوى خدعة خطيرة. فالاعتراف بحق الفلسطينيين والعراقيين بالاستقلال الحقيقي هو سياسة أكثر فاعلية، بل السياسة الوحيدة التي تضمن أمن أميركا في عالم غاضب. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.