بشغف بالغ قرأت دواوين أمجد ناصر الستة مجموعة في المجلد الأنيق الذي ضم أعماله الشعرية المؤسسة العربية 2003. كنت قبل ذلك قرأت أعمالاً له متفرقة وقصائد منثورة على صفحات الجرائد والمجلات. وكنت أستشعر بالطبع ذلك العبق الخاص الذي يفوح من كلماته ويعطي تجربته مذاقها المحبب والمغاير. ولكن قراءة الأعمال مجتمعة بين دفتين سميكتين جعلتني أحس بما يمكن أن أسميه غبطة الشعر وبنوع من النشوة الخالصة التي نادراً ما يوفرها الشعر في زمن كهذا الزمن. وإذا كان البعض رأى في الرواية دون غيرها ديوان العالم الجديد فقد أدركت بالقراءة المتأنية أن أمجد ناصر عثر على "الصندوق الأسود" الذي يفك لغز الحقيقة الشعرية المواراة خلف حطام الكتابة المأزومة كالحياة نفسها. "ذهبت الى الشعر فلم أجد إلا حطام الوصف" يقول أمجد في إحدى قصائده متماهياً مع اعتراف عنترة العبسي قبله بمئات الأعوام. ولأن الأمر كذلك فقد ذهب بشعره الى التماهي مع الحياة نفسها لا مع المعاقرة العقيمة لمعادلات اللغة ورياضياتها المجردة. لقد آثر منذ ديوانه الأول أن يطهر اللغة من شبهة التضليل والنفاق اللفظي مصغياً الى تربة نفسه العميقة ومحدقاً في المرايا التي تعكس سريرته ونوازعه وعلاقته بالأشياء. بات الشعر من هذه الزاوية الوسيلة المثلى التي يستعيد من خلالها تاريخه الشخصي وسيرته المشظاة في الأماكن والحيوات والوجوه المختلفة. انه الرواية الأخرى التي تخفف من أثقال الوصف والانشاء والسرد التقريري لتبقي على نواة الحياة وينبوعها الأولي. وفيما تتحول التجربة الحياتية، كما الشعرية، من طور الى طور ومن مكان الى مكان تحتفظ الكتابة لنفسها بحق العودة الى الوطن الأصلي بصفته الصخرة الصلدة التي يشحذ الشاعر فوقها سكين الأخيلة والتداعيات. منذ بداياته يظهر أمجد ناصر قدرة فائقة على الإمساك بناصية القصيدة. فهو يهتدي مبكراً الى المعادلة التي تجعل من الشعر ابن الحياة الشرعي لا ابنها الملفق أو الضال. فمجموعته الأولى "مديح لمقهى آخر" لا تحمل ارتباك البواكير ولا يعلق بها ما يعلق في البدايات من شوائب التعثر والتهويم والحشو اللغوي والصوري. فهو آثر على الأرجح أن يتعامل مع التجارب التي سبقتها بصفتها مسودات للكتابة أو تمرينات على الشعر يحتفظ بها لنفسه مطلاً على قرائه اطلالة الواثق والمكتظ بالوعود والأسئلة. هكذا يوقع أمجد على ما سيكونه منذ سطره الشعري الأول مسنداً ظهره الى طفولة مترعة بالمشاهد والرؤى والتهيؤات والى بوصلة لا تخطئ في التوأمة بين دورة اللغة ودورة الدم وبين الحبر والعصب. وربما كانت قصيدة "الشافعي" المثبتة في المجموعة الأولى خير معبر عن ارتيابه بمآل الكتابة وعن مأزق الاختيار بين ملاصقة جذواه الرعوية الفطرية وبين الانزلاق الى فخ اللغة وشركها المغوي. ذهب أمجد الى الشعر من حيث يجب أن يذهب متسلحاً بقوة المعنى وصوابية التسديد الى الهدف ورهافة الإصغاء الى النداء الصلب للمكان الأول. وما يلفت في عمله الأول "مديح لمقهى آخر" هو أنه لم يقع فريسة الشعارات والكليشيهات الجاهزة في الوقت الذي كانت الايديولوجيا تضغط بثقلها على معظم مجايليه وتجعل من "الالتزام" مفهوماً مرادفاً للزجر والعسف والاكراه. كان الانتماء بالنسبة إليه بديلاً عن الالتزام القسري الذي يشبه الابتزاز، واختار تبعاً لذلك أن يرمم بالكلمات والصور الزاخرة نثار عوالمه المفقودة التي تتشكل في شعاب الأردن وصخوره وصحاريه. هكذا راح يؤثث مملكته الشعرية من روائح الشيح والهال والسدر ونباتات البادية محدِّقاً كالصقر في منخفضات روحه ومنحدراً مع الإبل "ومع وبرها المتعطش للعشب والشعر/ صوب الحجارة الكبيرة والجرف والمدن المبهمة". وعلى رغم انه يظهر براعة خاصة في استخدام الأوزان ورشاقة لافتة في تطويع الايقاعات لمقتضيات الحوار والسرد فقد انتقل في وقت مبكر الى قصيدة النثر التي وجد فيها ضالته ومبتغاه. ان قراءة متفحصة لقصائد أمجد ناصر الموزونة تكشف عن قدرات لا لبس فيها على الإفادة من جماليات الإيقاع الشعري العربي بتشكيلاته المختلفة وهندسته المفتوحة على شتى الاحتمالات. ومع ذلك فقد اختار الشاعر "منذ جلعاد كان يصعد الجبل" أن يتحول نهائياً باتجاه قصيدة النثر من دون أن يعود الى الوزن إلا لماماً، ما يدل على أن تحوله ذاك كان بفعل قرار قصدي وحاسم. وإذا كنت ممن يظنون أن أمجد كان قادراً بما يمتلكه من ثراء وتنوع إيقاعي على حقن القصيدة التفعيلية بأمصال جديدة، فإن السبيل الآخر الذي اختطه لشعره كشف في المقابل عن قدرة موازية في اضرام النار تحت حطب القصيدة النثرية ورفدها بشرر ايقاعي بالغ الحيوية والتواتر. فلقد عرف في قصائده اللاحقة كيف يفيد الى أبعد الحدود من خميرة الايقاع العربي التفعيلي مضيفاً إليها ما تختزنه نفسه من جيشان داخلي واحتدام في الأساليب والصياغات القائمة على التدافع والتكرار والتناظر والتواشج والعبارات المنصبة كالحمم: "أيتها الهوادج/ أيتها الهوادج/ يا أجراس الصحراء/ منا هنا مر الأردنيون حفاة السيوف والأقدام/ في أرواحهم يقدح حجر الصوان/ وفي لحاهم المغبرة تعوي الذئاب...". نحن هنا أمام عالم شعري تختلط فيه الرؤى النبوية التوراتية والنفس الملحمي الصرف. هنا تخرج أنا الشاعر من شرنقتها الضيقة لتتحد بأنا الجماعة في هبوبها العاصف من الجوع الى الغضب ومن النسيان الى المذبحة ومن الموت الى الحياة التي تشبهه. وإذا كان الشاعر مزيجاً من إرميا وهوميروس فهو في الوقت ذاته ليس بعيداً من ذلك الصوت الأردني الآخر الذي جسده سلفه عرار مصطفى وهبي التل في تقمصه روح الأردن الباحثة عن التشكل. قد يكون لكل واحد من السلف والخلف أسلوبه وزمنه وملكاته التعبيرية، ولكن بينهما ذلك النشيج الصاعد من رعود شيحان وسيول وادي السير وبادية رم ومنحدرات عجلون. وبينهما ذلك الانصهار التام بالمكان وتلك الصعلكة المثقلة بالشهوات والتواقة الى الانعتاق من ربقة الجهل وعسف التقاليد. وبينهما ذلك النزوع المبهم الى العزلة والتوحش والعودة الى رحم الجذور الأم. ففي "رعاة العزلة" يهتف أمجد ناصر "أنت امرؤ أيها الوحش مثلي" مستعيداً طرديات ذي الرمة وصرخة أسلافه الأولين في برية الخواء الدهري. في مجموعاته الثلاث الآتية "وصول الغرباء" و"سر من رآك" و"مرتقى الأنفاس" يجنح أمجد ناصر الى مزيد من الاشتغال على اللغة وتقنيات التعبير مستفيداً من تجربته الغنية في لندن ومن قراءاته المعمقة واتصاله بالثقافات الأخرى. على أن ما يلفت في هذا السياق هو حرص الشاعر على تحويل كل مجموعة من مجموعاته الى مشروع رؤيوي مختلف المناخات والأبعاد والظلال. ففي حين تحتفي "وصول الغرباء" بالأصدقاء الذين غدوا "أسماء مستعارة" لوحشة المنفى وانزلاق المكان ورخاوته الهلامية تتحول "سر من رآك" الى أيقونة مجللة بالرغبات لجسد الأنوثة المكتمل. القصائد في الحالين رسائل وتصاوير ومقطعات منتزعة من براثن الغياب في الأولى "لو تأخرت في النوم قليلاً لبلغت الأربعين" ومن التوشية الخالصة وأنوثة الجمال المطلق في الثانية، حيث "باللمسة أحرر المثال من قالبه/ وعلى ضوء المياه الشفيفة/ أصل الى أصل الصرخة". الشعر في "سر من رآك" يتقاطع بقوة مع الفنون الأخرى. فهو كالنحت يخلص الجمال من زوائده العارضة ليعيده الى أصله الفردوسي. وهو حين يتعبه الشكل يزيح عنه الكتلة ولواحقها ليبقي على خطوطه الجمالية الرفيعة. وهو يلبس حلة الموسيقى من خلال تنقيط بلاغي تحوله الجناسات المتتابعة الى ما يشبه سقسقة المياه: "السرة - السرنمة - السر - المسرة - الاسم - السيماء - اللمس والمس". أما الإيروتيكية الحالة في الأفعال والأسماء والحركات فهي تتخفف من شبقيتها المألوفة لتصبح التماساً بالروح والأنامل لغواية المثال الهارب نفسه: "ألمسك من الطرف الموجع/ أغريك بالريحان وحليب الأمل/ أنا الغريب المكلوم بمنجل العذراء/ أطلب ثأراً عاجلاً من ترفُّع الكتفين". ربما تكون "مرتقى الأنفاس" في الكثير من ابعادها الوجه الآخر للمجموعة التي سبقتها. فالمجموعتان تنبثقان من الخيبة التي يورثها نشدان الحب أو طلب المثال الفردوسي. هذا المثال وإن كان يتجسد في "سر من رآك" عبر ملمح الأنوثة الخالصة، لكنه يشي من خلال الاسم الأصلي "سامراء" بما هو أبعد من ذلك، أي بالجذر المكاني لصورة الجمال في النفس. ولم يكن من قبيل المصادفة ان يستخدم ضمير الجماعة في بعض القصائد "نراك - نحوزك - نفقدك". فما يبحث عنه الشاعر المفرد ليس سوى الإشارة المجازية الى الجمال الموارى في أحشاء الشرق وحواضره الغاربة. وكما رأى أراغون في سقوط غرناطة وصورة أبي عبدالله الصغير الوجه الأكثر جلاء لعلاقة الحب بالموت، رأى أمجد ناصر في "مرتقى الأنفاس" لحظة الاختناق القصوى بالسعادة التي توشك على الأفول.