عن دار "سان ماركو دي جيوستيناني" في مدينة "جنوى" الايطالية صدرت الترجمة الايطالية لكتاب الشاعر الاردني أمجد ناصر "سُرَّ من رآك". واختار له مترجمه الى الايطالية الرسام العراقي فوزي الدليمي عنواناً آخر للكتاب هو "وردة الدانتيلا السوداء" وهو عنوان احدى قصائد الكتاب. وضم الكتاب الأصل العربي للقصائد اضافة الى الترجمة الايطالية. والدار التي يشرف عليها الناشر الايطالي جورجيو دفوتو تعنى بنقل الآثار الشعرية العربية الحديثة علاوة على نقلها آثاراً شعرية عالمية. وكانت أصدرت مختارات وأعمالاً للشعراء: عبدالوهاب البياتي، نزار قباني وأدونيس. وكان الشاعر أمجد ناصر أصدر "مختارات" من قصائده في القاهرة وبيروت وعمان ورام الله سعياً منه لكسر حال الحصار التي يعانيها الشعر العربي الحديث توزيعاً وانتشاراً. عندما اختار الشاعر أمجد ناصر عبارة "أثر العابر" عنواناً ل"مختاراته" الشعرية الأولى1 التي ضمّت باقة من قصائده المكتوبة خلال ما يقارب عشرين عاماً فإنما كان يحتفي بصورة الشاعر العابر الذي لن يتوانى عن ترك "أثر" قد يكون الشعر نفسه أو "الكينونة" نفسها أو اللغة التي يسكنها الشاعر داخل العالم. وقد تحيل هذه العبارة الى الصفة التي أطلقها الشاعر الفرنسي مالارميه على مواطنه رامبو حين سمّاه ب"العابر الهائل" ولكن ب"نعلين من ريح" كما يفترض اكتمال هذه الصفة. إلا أن العبور لدى أمجد ناصر يمتلك مواصفاته الخاصة في كونه حالاً من العبور الدائم الذي لا ينتهي الى ضفة أو مكان. لعله عبور الشاعر المتردد بين حركتين متقابلتين: الوصول والانطلاق. وهما حركتان أبديتان في ما تعني الأبدية من مراوحة في الحيرة: عين على الماضي وعين على الحاضر لا المستقبل، عين على الصحراء وعين على البحر، عين على البراءة الأولى وعين على الاثم أو الخراب. على ان الشاعر "العابر" لا يكتمل عبوره إلا في الأثر الذي يتركه ولو بدا الأثر عادة نقيض العبور. فالأثر ثبات في الزمن والعبور تخلّص من ربقة الزمن. لا يحتاج القارئ الى أن يسترجع "المختارات" الأولى ليتمثّل صورة "الشاعر العابر" كما ارتآها أمجد ناصر. ف"المختارات" الثانية2 تشي بهذه الصورة من خلال الآثار التي يحملها الشعر مخلداً بها الأزمنة التي عبرت أو تعبر وكذلك الأمكنة "المندثرة" بدورها والتي تتوارى خلف كناية "المنفى". وليس من المفاجئ أن يكون عنوان القصيدة الأولى التي يستهلّ الشاعر بها مختاراته الثانية وتحديداً ديوانه "رعاة العزلة" "منفى". فالمنفى كمقام أو حال سينسحب على القصائد كلها ومن ضمنها قصائد الحبّ التي ضمّها ديوان "سُرَّ من رآك" وكذلك قصائد ديوان "مرتقى الأنفاس" الذي يستعيد مأساة غرناطة التاريخية. ولئن طغت موضوعة "المنفى" على الكثير من القصائد حتى ليمكن وصفها بالهاجس الشعري، فإن هذه "المقولة" ستظل خارج التأويل السياسي وخارج الاطار الواقعي والسياق العَرَضي. فالمنفى لدى أمجد ناصر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسيرته كشاعر وجد في الشعر أرضاً للاقامة ومسكناً أخيراً. المنفى تجذّر في "اللامكان" وليس وقفاً فقط على فعل الاقتلاع أو الخروج. المنفى هو العالم المجهول الذي يمضي الشاعر في اكتشافه مكتشفاً ذاته في الحين عينه. والشاعر لا يخفي انحيازه الى حال النفي هذه ما دامت الأرض الأولى منفى وكذلك الثانية، ما دامت "الصحراء" منفى والبحر كذلك. هكذا يجاهر الشاعر قائلاً: "بين أترابي فزت بالمنفى". وها هو يجعل من تاريخ ولادته 1955 عنواناً لقصيدة جميلة بمقدار ما هي أليمة يرسم فيها ما يشبه "المسرى" الشعري الذي ينتهي بالخيبة: "ولم ترَ في الأمر ما يستحق الذكر". ارتبط صوت أمجد ناصر منذ بداياته بحركة الشعر الفلسطيني الهامشي الذي نشأ في ظل المدرسة النضالية الرسمية. والتبست هوية هذا الشاعر نظراً الى التزامه السياسي وانضوائه في صفوف اليسار الفلسطيني شأنه شأن الكثيرين من الشعراء العرب الجدد. إلا أن أمجد ناصر الذي استهلّ حياته الشعرية منفياً و"غريباً" كان صوته يختلف منذ البداية عن أصوات الشعراء الآخرين. فهو اختار المنفى اختياراً مقصوداً وربما شبه أوديبيّ على خلاف الشعراء الفلسطينيين وشعراء المخيمات الذين وجدوا أنفسهم في المنفى. ولعل هذا الاختيار هو الذي منح منفى أمجد ناصر مواصفات المكان اللامحدود، المكان المفتوح على أقصى معاني الغربة. يحضر المنفى بشدة في شعر أمجد ناصر، ليس المنفى فحسب، بل ما يستتبع أيضاً من موضوعات: كالغربة والانقطاع والاستلاب والاقتلاع وسواها. وكل هذه الموضوعات تؤلف العصب الرئيس في قصائده المتوالية طوال أكثر من عشرين عاماً، منذ العام 1979 حين أصدر ديوانه الأول "مديح لمقهى آخر" حتى العام 1997 حين أصدر ديوانه "مرتقى الأنفاس". غير أن طغيان هذا "العصب" لا يعني تكرار تلك الموضوعات. فالقصائد تكتشف "المنفى" وتظلّ تعيد اكتشافه شعرياً ولغوياً، محتفية به مقدار احتفائها بالعالم نفسه الذي تظل على حال من التصادم معه. في قصيدة "منفى" ديوان رعاة العزلة يكتب الشاعر من جحيم منفاه عن حال "عدم التغير" التي يحيا فيها أولئك "الرعاة" الذين "خرجوا" وكأنهم لم "يخرجوا" بل كأنهم لا يزالون في تلك القرى التي غادروها حاملين إياها معهم. أو كأنهم لم يجتازوا "حدود الشمال الى المدن الكبرى والسواحل". هذا النفس الرثائي سيلازم الكثير من القصائد التي سيكتبها أمجد ناصر. لكن الرثاء لن يقتصر على العالم الأول بل سينسحب على العالم الآخر، على "الضفة الأخرى" أو ما يسميه الشاعر "حواف المياه". غير ان المأساة لن تبلغ أوجها هنا في هذا الاقتلاع أو هذا التردد بين عالمين أي بين "مصاطب الريحان" و"رائحة القرفة" وبين "الجزيرة" و"مدن المنتحرين". تبلغ المأساة ذروتها في "الخيبة" التي يمنى بها الشعراء دوماً، الخيبة الوجودية التي يكتشفها "الغرباء" لدى وصولهم الى "الكمائن" والى "الأسماء المستعارة". يدرك هؤلاء "الغرباء" أن الناس الذين عرفوهم قديماً لن يعرفوهم بعد الآن. فالأسماء مضى وقت استعادتها و"صور العائلة" لم تبق في الأدراج. الماضي انهار كله والحاضر أصبح في صيغة الماضية الذي يواصل انهياره. حتى الحرب باتت أشبه ب"حدوة حصان" أو "سترة مثقوبة بالرصاص". أما الانتحار فمستحيل إذ لا مسدس هنا ولا مدية ولا أنشوطة كما يعبّر الشاعر بل "كلس الجدران" وحده. إلا أنّ الشاعر الذي سيجعل من "المنفى" موضوعة شعرية بامتياز سيمتهن "السفر" في عالم الكلمات والصور والمجاز ساكناً "اسمه" الجديد بحسب تعبير سان جون بيرس بعدما أضحى اسمه الأول وقفاً على ماضٍ منهوب أو مدمّر. يصبح الشاعر قرين "عوليس" الذي لن يبحث عن "إيثاكا" إلا في غمام الشعر. حال المنفى هذه ستظهر أيضاً في ديوان "سر مَن رآك" الذي اقتصره أمجد ناصر على لغة الجسد الأروسيّ المتفتح تحت نار الشهوة وجمر الموت. في ذلك الديوان الذي تحتله المرأة بحضورها "الرغائبي" يقول الشاعر: "وغنيت، أنا المولود تحت منجل الحصاد/ غناء الغريب بين رطانة المبشرين بالسؤدد". وموضوعة الغربة هذه ستتجلى لاحقاً في ديوان "مرتقى الأنفاس" خير تجلّيها عبر التماهي في شخص أبي عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة الذي غادر أرضه مغادرة الغريب غداة سقوطها النهائي. يكتب الشاعر مستعيراً صوت ذلك الشخص المأسوي: "وصل الغريب/ بلا بارحة أو غدٍ/ وصل الغريب/ على آخر/ نَفَس". لعلّه المنفى الذي تحدّث عنه دانتي في "الفردوس" الجزء الثالث من الكوميديا الإلهية عندما قال: "ما أقسى صعود درج الآخرين/ كم هو مرّ خبز الغريب". قد تقترح عبارة "انطباعات خاطئة" التي جعلها الشاعر عنواناً لإحدى قصائده، ما يشبه المدخل الى عالم أمجد ناصر الشعري. فالانطباعات الخاطئة هذه تمثل روح الشعر الحقيقي الذي لا يقوم إلا على الانطباع المختلف والمفاجئ وغير الجاهز أو المسبق. انه ا لانطباع الذي يحيل الوصف الى "حطام" ويجعل المشهد بصفته واجهة العالم أقرب الى "الطبيعة الجامدة". وكان الشاعر أعلن أصلاً في قصيدة "برارٍ" رعاة العزلة ما يشبه "البيان" الشعري الذي يجاهر من خلاله بصورة الشاعر المخلوق تحت برج الغربة والمنفى والخيبة. انه الشاعر الذي لم يجد في النهر إلا "الحصى" و"وصايا الجفاف"، ولم يجد في الحب إلا "خريف القرنفل" وفي الحكمة لم يجد إلا "فتات الموعظة". انه الشاعر المتمرد على الشعر نفسه وهو لم يجد فيه إلا "فتات الوصف". يصبح الشعر هنا فعل تمرّد لا على اللغة أساس الشعر فقط وإنما على الزمن الماضي الذي يرمز النهر اليه وعلى التاريخ المتمثل في "الحكمة"، وعلى الحياة نفسها الكامنة في الحب. ليست هذه اللحظة الشعرية السلبية مجرّد ردّ فعل سلبي حيال العالم بل هي لحظة حضور فيه ولكن من خلال رفضه وتحطيمه أو تحويله الى فتات بحثاً عن جوهره المفقود. وفي قصيدة "أغصان مائلة" يتضح موقف الشاعر مذ يعلن أنه يريد أن ينظف رأسه من "بقايا الموعظة والكلمة الطيبة" وأن ينظف قلبه من "حطام الحب الأول" وصوته من "أوكسيد الأغنية". لعلها "حملة" تنظيف - كما يقال بالعامية - شاملة تكفل خلق انسان جديد لا تعتريه آثام الآخرين الذين هم "الجحيم" على تعبير جان بول سارتر. فالشاعر يبغي ان ينظف جسده من "ثياب الحرب والسلم" معاً ومن "غبار الفتوحات المضادة"، وأن ينظف روحه كذلك من "آي الطاعة وعناقيد المغفرة". ويجاهر الشاعر كذلك بأنه يريد أن ينظّف الأوراق من "هراء القصيدة" و"عبث التداعيات". لا يبالغ أمجد ناصر في موقف كهذا ولا يصطنعه مدّعياً أن ما يكتبه هو الشعر الحقيقي. انها كراهية الشعر التي هي وجهه الآخر. الكراهية الجميلة التي دفعت الشاعر أنسي الحاج مثلاً الى أن يعلن: "سحقاً للشعراء". الكراهية التي تبث في القصيدة دماً جديداً وتضرم فيها ناراً جديدة، نار الشك والقلق والرفض. فالشاعر المتمرّد والرافض سيعلن انتماءه الى القصيدة الغنائية في ديوانه "سرّ مَن رآك" محتفياً بالجسد الأنثوي احتفاءً إروسياً يجعل اللغة مادة للرغبة المشتعلة. وسيعلن الشاعر أيضاً انتماءه الى القصيدة الدرامية في ديوانه "مرتقى الأنفاس" مستعيداً اسطورة الهزيمة التاريخية في غرناطة. ولعل هذه القصيدة هي من القصائد العربية النادرة التي استطاعت أن ترتقي بهذه القضية الى مصاف الابداعي الشعري الحقيقي بعيداً من النواح والبكاء وفي منأى من الموعظة الأخلاقية والأمثولة السياسية. يصعب فعلاً حصر عالم أمجد ناصر أو وصفه أو مقاربته من خلال مختارات تهدف أكثر ما تهدف الى رسم صورة موجزة عن مسار شعري أو تجربة استطاعت أن تكون في صميم الحركة الشعرية العربية الجديدة. ولا تكمن فرادة هذه التجربة في انتقالها من الشعر التفعيلي البدايات الى قصيدة النثر فقط، ولا في انفتاحها على حرية القصيدة وهوائها الطلق، بل في كونها أيضاً اختباراً للشعر والقصيدة على ضوء المكابدة أولاً والوعي الشعري ثانياً. ولعل هذه الفرادة تزداد رسوخاً كذلك من خلال ثورية هذا الشعر وحداثته النضرة وأصالته التي تبوح بها اللغة المتحولة دوماً. ولعل قراءة المختارات تؤكد رحابة عالم أمجد ناصر القائم أولاً وأخيراً على تعدد الطبقات وتعدد الأساليب التي تصبّ في الختام في نهر التجربة الواحدة. 1 دار شرقيات القاهرة. 2 المؤسسة العربية للدراسات والنشر و"بيت الشعر" - فلسطين.