ينبغي لمن يخلع نفسه ان يمعن في العصيان، لئلا يكون الخلع مجرد نزوة عابرة! وينبغي له ايضاً ان يتخلص - ولا أقول يتخفف - من إرثٍ يشكل تاريخياً رؤية القبيلة للحياة بمفرداتها. لا يتخفف، لأنه يتعين عليه ان يواجه العالم بذات عارية، وبرؤية لم يألفها الآخرون من قبل... هكذا هو عصيان أمجد ناصر كما يتبدى في "الاعمال الشعرية" المؤسسة العربية، 2002... مناخ إغريقي، لكنه اختيار، سواء كان الاختيار واعياً أم لم يكن. وهكذا يزداد الكون الشعري تشبعاً بمناخات العصيان، كلما امتدت التجربة... ثمة قدرية، لكنها قدرية شعرية أولاً وأخيراً... انصياع لرغبة جوانية عمياء، أو استجابة لرعونة الشعر وإغواءاته... لكن ذلك يتطلب مقداراً هائلاً من الشجاعة التي تؤهل المرء لمغامرة كهذه!! نحن نتحدث عن تجربةٍ بدأت في السبعينات... في الزمن الذي كان الشاعر العربي لا يكتفي بالتصدي للقضايا الكبرى، بل يستجيب لوهم التغيير الجذري، والقيادة والتنبؤ! في هذا الزمن يخرج هذا البدوي الفتيّ من صحراء المفرق، ليمد سبابته في وجوه الآخرين معلناً عصيانه، وخروجه على كل شيء!! يبدو العصيان في ديوانه الأول "مديح لمقهى آخر" ممتزجاً بنبرة اعتذار عفوية، وكأن الشاعر كان يدرك منذ البداية انه لن يتوقف عند حدود معلنة أو واضحة: "أرعن كان القلبُ/ طبياً طائش الشعر/ يعثر في غصون الليل المتهالكة/ والمدينة لم تتحول بعد/ الى حصانٍ خاسر". ولذا، فإن اصابعه المتشنجة لم تطاوعه... لم يطلق النار على الحصان الخاسر... والحصان الخاسر - وهذا إدراك مبكر بالطبع - ليس معادلاً موضوعياً لمدينة مصمتة، أو لتجربة اخرى... إنه تلك البنية المعقدة الراسخة منذ قرون في العقل العربي. لكن الشعر عندما يتمكن من صاحبه، فإن كل ما في الشاعر - لا الأصابع وحدها - يُصبح ملكيةً خاصة للشعر، وخادماً له بامتياز. والمعادلة ليست سهلة كما قد تبدو... فحين يكون الشعر عصا الأعمى، فإن على هذه العصا ان تلائم اعمى غير مألوف... وهذا ما أدركه أمجد ايضاً منذ البدايات الأولى، فاكتشف ان الشعر سجين الحناجر المغسولة جيداً بسكّر الفضة. واكتشف كذلك انه هو كإنسان... بأحلامه الصغيرة وهواجسه اليومية وحماقاته المحببة أو المزدراة، هو ما يشكل العالم الحقيقي للشعر. كان عليه إذاً ان يجعل الشعر نفسه موضوعاً للشعر... أن يسائله... يتأمله... يحاوره، يؤاخيه، لكي يقطعا ذلك الشوط معاً... وحينها يطلق الرصاص على الحصان الخاسر بثقة "القصائد لغتنا من الآن فصاعداً"! وحين تصبح القصائد "لغتنا من الآن فصاعداً"، فإن هذه القدرية الإغريقية في شكلها تتطلب تنفيذ حكم الملكة الشعرية، الموغلة في صرامتها وفي غرابتها وفي فرادتها في آن واحد... حيث المعنى المتوارث وهم، وحيث في الحقيقة كل شيء ملتبس في الشعر!! يدرك امجد ناصر ان المعنى - بالمعنى المألوف للمعنى - لا مكان له في غابة الشعر القائمة والمؤسسة على العصيان... ويدرك ان المعنى وهم الباحثين عن المسرّات الصغيرة، وأيقونة نعلّقها على صدورنا منذ علقت القصائد قديماً... وهو مثل إليوت يعرف ان الشعر حال حُلمية، وأن الحلم لا يحتاج الى تفسير لكي يكون جميلاً. ولكن المرء في هذه الحال قد يتساءل: وما جدوى الحلم؟ أو ما جدوى رؤية حُلمية على الأصح؟ وفي هذه الحال، فإنه ما من أحد قادر على الإجابة غير القصائد نفسها!! والذي يظهر في هذا السياق هو ان أمجد ناصر الأعزل، والذي كان عليه مواجهة العالم عارياً - على رغم قمصانة المشجرة - ما كان في مقدوره ان يفعل ذلك برؤية انفعالية طارئة، بل برؤية تأملية، تذهب الى ما وراء الكائن والمرئي... وهذا ما لا يتحقق إلاّ برؤية حلمية خالصة! والرؤية الحلمية قائمة على التفكيك... تفكيك العالم، وتفتيته الى وحدات صغيرة متعينة في مكان ما وفي زمن ما... فالعصيان الذي نحن بصدده ليس استعارياً ومجازياً وحسب، بل هو موضوعي في جوهره!! الرؤية الحلمية هذه، مثقلة بالإشارات والرموز والعلامات... بمعنى ان على الشاعر ان يحلُم، وعلينا ان نتهجّى تلك الرموز والإشارات، لكي نشاركه ذلك الحلم... أي لكي نتحول الى شعراء ينظرون الى الحياة من زاوية نائية جداً وهي زاوية الرؤيا، الأقرب من اي زاوية اخرى!! وهي الزاوية التي يتحقق من خلالها العصيان الذي يتشبع به العالم الشعري لأمجد ناصر. وعلى رغم احتشاد الذاكرة بقاموس بدوي ثري، إلا ان ظلال العصيان تمتد يومياً... تحاول ان تغطي تلك المساحة، وتستبدلها بقاموس آخر، فنعثر دائماً على الكلمات التي لا تنتمي الى العالم البدوي... مفردات مضادة إذا جاز التعبير، وهي تتناسل كلما تواصلت رحلة العصيان، الكونكريت والدانتيلا والأفاميا وأسماء كثيرة اخرى، اسماء الأمكنة والأشياء المضادة للذاكرة. بهذه الرؤية، يحاول الشاعر امجد ناصر ترتيب العالم وتأثيثه من جديد، فالعربة والحصان والمسافة في حاجة الى رجل، والرجل الى غليونه. والغليون الى تبغ. ولا يتبقى سوى المرأة، فتأتي... ولكن هذا الترتيب مألوف وعادي وميت، وهذا التكوين كله لن يصبح حياً إلا بحركة مغايرة، حيث لا تبدو الأسنان مجرد بيادق مهزومة في انتظار الفرشاة الصباحية!! في ديوانه "منذ جلعاد كان يصعد الجبل" يتسع نطاق المغامرة الشعرية، متزامناً مع الإيغال في مناخ العصيان: "الرّضا فداحة ايها الأصدقاء/ يا ايها الأعداء/ ...الوردُ منقصفٌ من الساق/ والوقت محدودب الظهر/ والأوطانُ مرتجلة...". ولئلا يرضى، فإنه يحول مفردات اليومي والمتداول الى الشعر، حيث للشعر طاقته الأسطورية على اعادة الإحياء... ويبدو انه ما من شاعر مثل امجد ناصر استطاع طهي العاديّ والمهمل في الحياة اليومية على نار الشعر: "ما جدوى الأيدي/ بالنسبة لنا نحن الذين/ لا نحسن الرقص أو النحت/ إننا نحار أين نذهب بها/ وخاصة عندما نسير وحدنا/ في الشوارع!". وعندما نحاول ان نتقصّى، فإننا نظن ان الشاعر منذ "بيروت" وصاعداً، اخذ يستقبل في صور روحه تلك النصال والرماح التي لم تُصوّب إليه في عمّان... في عمّان، كان ثمة مكان وزمان وآخرون في صورة واحدة، ولهذا لم يتحول الشاعر كليّاً الى موضوعٍ رئيس لقصيدته، وإن كانت الإشارات تدل على ما سوف يكون، لكنه منذ بيروت يكتشف انه "منذ جلعاد..." الآن سوف يكون عليه وحيداً مواجهة آلهة الأولمب... ولسوف يتعمق الشعور بتلك الوحدة شيئاً فشيئاً... ديواناً ديواناً وصولاً الى مرتقى الأنفاس - مروراً برعاة العزلة وسرّ من رآك. الآن، سيكتشف الشاعر حصيلة عصيانه، أو سيحصد زرعه الأول... فالأزهار كثيرة... في شعر المرأة الذاهبة الى الرقص، في الشرفات، في غرفة الروائي. في قصائد الشعراء، في سترة السياسي العجوز... وللشاعر زهرة واحدة! ولكن، أهي له حقاً؟ "تلك التي/ طوّحها غريب/ عبر/نافذتي/ ظانّاً/ أن حبيبته/ القديمة/ لمّا/ تزل،/ تسكن/ هنا". ومع تكالب الوحدة، وشراستها، نطالع "رعاة العزلة"، حيث نشمّ رائحة الفجيعة، وحيث يكون على الشاعر ان يختار ما بين النوم ومزيدٍ من الجرأة على اقتحام اللغة. منذ الآن فصاعداً سنشهد اختلافاً جوهرياً في اللغة الشعرية، سوف نشهد علاقات لغوية ما كان لها ان تتشكل من قبل، فقد آن للتأمل ان ينطق، وآن لحكمة اللغة ان تتراقص كيفما تشاء، بعد مسحة الخجل الملازمة للبراءة الأولى. "من سيصف تحولاته/ ويرسم بخنجر بدوي حدود الحكمة؟ وسيكتب عن ولد قذفته المضاربُ/ الى قوة الكونكريت/ حيث لا متسع لنمو الأحلام...". وإذ كنا نشهد منذ "رعاة العزلة" علاقات لغوية جريئة ومغايرة، إلا انها لمّا تزل تحتفظ بمسحة من عفوية البدوي، وهو ما سوف يخسره الشاعر لاحقاً في "سر من رآك" و"مرتقى الأنفاس"، حين تتحول اللغة الى هوية، وبخاصة في مرتقى الأنفاس! سنشهد في هذا الديوان مقدرة فائقة على تطويع اللغة حتى تفيض!! "سرّ من رآك" يأتي بعد "رعاة العزلة"، حيث تتحول المرأة الى كوكب بديل، وبخاصة انها تأتي عبر أنفاس الكونكريت وعبر ذاكرة مثقلة باليباس والفقد والخسارة... في "سرّ من رآك" و"مرتقى الأنفاس" نستشعر الطقس الأسطوري الذي ينبغي للشعر الحقيقي ان يشيعه. لم يلجأ أمجد ناصر الى الأسطورة المعروفة لتوظيفها كما تفعل القصائد البليدة، ولكنه يحوك طقسه الأسطوريّ من خلال اللغة ذاتها... بمعنى ان اللغة هنا تتحول الى موضوع بدئي. ولكل موضوع بدئي طقسه الأسطوري الذي يستعاد من خلاله. يتوج امجد ناصر رحلته بديوانه "مرتقى الأنفاس"، بأبي عبدالله الصغير وغرناطته... يعترف بالخسارة التي لم يربح سواها طوال الرحلة: "آه خفّتي/ وصل الغريبُ/ بلا بارحةٍ أو غدٍ/ وصل/ الغريب/ على/ آخر/ نفسٍ". ولكن... وكما في التراجيديات الكبرى، فإن العدول عن ارتكاب الإثم يصبح اكثر صعوبة كلما امتدت التجربة، ويصبح ارتكاب الإثم ضرورة للشخصية التراجيدية... فعلى رغم الخسارات والفقدان، يواصل امجد ناصر عصيانه على نحو اغريقي.