يوم الجمعة الماضي كنتُ أتابع إغلاق الأسواق المالية العالمية عبر الصحف الأميركية على الانترنت. وتوقفت بعد الظهر عند الخبر الرئيسي في صفحة "واشنطن بوست"، فقد كان عنوانه "الولاياتالمتحدة تقترح سيطرة أوسع على نفط العراق وأمواله"، وتحت ذلك في قسم الاقتصاد خبر عنوانه "سقوط الدولار يتحوّل الى هزيمة". جورج بوش الأب خسر الانتخابات لولاية ثانية بسبب تدهور الاقتصاد الأميركي. ولا أتوقع ان يخسر الابن انتخابات السنة المقبلة لأنه لا يوجد بين المتنافسين الديموقراطيين مرشح من مستوى بيل كلينتون يتابعه بشعار "انه الاقتصاد يا مغفّل". الاقتصاد ليس بين أبرز قدرات بوش الأب أو الابن، والاقتصاد الأميركي في يدي الابن أسوأ منه كثيراً في أيام والده. وإذا كنا، عرباً وشعوباً من حول العالم، استغربنا ان يُقنع جورج بوش الابن الأميركيين بأسباب حربه على العراق، فإن متابعة الاقتصاد الأميركي توفّر أسباباً أكبر للاستغراب، أو الدهشة الحقيقية، أمام إصرار الرئيس على اتّباع سياسة اقتصادية فاشلة، ودعم الحزب الجمهوري لها. منذ جاء جورج بوش الابن الى الحكم فقدت 1،2 مليون وظيفة في الولاياتالمتحدة، في مقابل 20 مليون وظيفة جديدة دخلت الاقتصاد بين 1993 و2000. ومن أصل الوظائف الضائعة بعد دخول بوش الابن البيت الأبيض، هناك 5،1 مليون وظيفة، أو 7،1 مليون في تقدير آخر، فقدت منذ أقر برنامج الرئيس للإعفاءات الضريبية سنة 2001. جورج بوش ينطلق من مبدأ ان الإعفاءات الضريبية تنشّط الاقتصاد، وتخلق فرص عمل جديدة. غير ان خبراء الاقتصاد لا يعتقدون بأن الربط بهذا الوضوح، ويفضلون القول ان زيادة الوظائف ترتبط بحسن أداء الاقتصاد. لكن الاقتصاد الأميركي، وهو الأكبر في العالم، لم يتحسن بعد برنامج 2001، ولن يتحسن الآن، وللأسباب نفسها في سنة 2001 ذهب 40 في المئة من الاعفاءات الضريبية الى واحد في المئة من الأثرياء، وهذه المرة سيذهب 27 في المئة من الاعفاءات الى 13،0 في المئة فقط من كبار الأثرياء. وبكلام آخر فأسرة أميركية متوسطة الدخل ستوفر 217 دولاراً السنة المقبلة، في حين ان أسرة دخلها مليون دولار في السنة ستوفّر 500،93 دولار. ويقول مركز أولويات الموازنة والسياسة ان الخفض الجديد في الضرائب سيكلّف 1،1 ترليون دولار على مدى السنوات العشر المقبلة، مع ان بعض الاعفاءات سيلغى سنة 2005، وبعضها الآخر سنة 2012. الرئيس بوش لا يزال يصرّ على ان برنامج خفض الضرائب الجديد بنحو 550 مليون دولار سيوجد مليون فرصة عمل جديدة مع حلول العام المقبل. غير ان برنامج 2001 أضاع الوظائف، والبرنامج الجديد نسخة عنه. وقد تنبّه بعض أعضاء مجلس الشيوخ من الجمهوريين الى صعوبة الوضع، واقترحوا للموافقة على الاعفاءات التي طلبها الرئيس، زيادة الضرائب في 30 مجالاً آخر، قرأت بينها الغاء الاعفاء التقليدي للأميركيين العاملين في الخارج من الضرائب على أول 80 ألف دولار من دخلهم السنوي. عندي تجربة مع هذه النقطة الأخيرة، ففي سنة 1977، مع ارتفاع أسعار النفط أضعافاً وسقوط الاقتصاد الأميركي، خفضت الحكومة الاعفاء للأميركيين في الخارج من 75 ألف دولار الى 25 ألف دولار، وجاءت موظفة في مصلحة الضرائب الأميركية الى جدة، ورأيتها تشرح للأميركيين العاملين في المملكة العربية السعودية الوضع في اجتماع مفتوح في السفارة الأميركية التي كانت في حينه لا تزال في جدة. وبلغ من ثورة العاملين والإهانات التي وجّهت الى الموظفة ان أخذت تبكي، وانتهت الجلسة باعتذار العاملين لها مع إصرارهم على مقاومة الغاء الاعفاء الأعلى. وعاد هذا الاعفاء بعد سنوات، وصمد حتى سقط الاقتصاد الأميركي على يدي جورج بوش الابن. الغريب في الأمر ان بيل كلينتون زاد الضرائب بين 1993 و2000، وبلغ الاقتصاد الأميركي أعلى مستوى له على الاطلاق. وكان الحديث في عهد كلينتون عن فائض خلال عشر سنوات بنحو خمسة ترليونات دولار في الموازنة الأميركية. أما اليوم فالعجز هذه السنة وحدها يقدّر بنحو 500 مليون دولار. السيطرة على نفط العراق وماله غير شرعية كالحرب نفسها، ولا أربط ذلك أبداً بسقوط الاقتصاد الأميركي، فالثروات العربية كلها نقطة في بحر الاقتصاد الأميركي. ما أقول هو انه اذا كان جورج بوش يختار ان يضع برنامجاً اقتصادياً فاشلاً، وأن يخوض حرباً من دون غطاء دولي شرعي على العراق، وأن يضع برنامجاً اقتصادياً يكرّر البرنامج الأول الفاشل، فإنه قادر على ان ينتزع من الأممالمتحدة سيطرة على ثروات العراق تستفيد منها الشركات المرتبطة بأركان الإدارة الأميركية. وإذا كان الرئيس الأميركي لا يستطيع ان يفيد شعبه، وأن يعالج مشكلات الاقتصاد الأميركي، فإن من السذاجة منا ان نتوقّع منه أن يحلّ مشكلات العراق، وأن يفيد الشعب العراقي. أرجو أن أكون مخطئاً، ولكن من يعِشْ يَرَ.