يبدو أننا دوماً نأتي الى هذا المكان. نغذُّ خُطانا كأن الغد يدعو بجُمْع كفّهِ في الأفق، وإذا بنا نأتي الى هذه الفسحة من الصمت. هذه الفتحة التي لا تؤدي الى مكان. أو بالأحرى، الى أُذْن: طنينٌ فقط، كأنّ طيوراً شاردةً تُحلّقُ خلالَ صوتي وعبرَ أيّامي. إنها تُهاجرُ نحو أوراقٍ تنسلخُ عن عظامي والفصولُ تتعرّى طائعةً لكي أصير محضَ بؤرةٍ للانصات. أسمعُ البحر في الصدَفة حين أقرّبها من أُذني. لُغاتُه رسوبيّة اللّهجات: شعوبٌ لا تاريخَ لها، تواريخُ ضائعةٌ تتكلمُ بهذا الفم. لكي تحيا من جديدٍ في عظمة الغريق هذه في جسَد تساعدهُ الكلماتُ على الوقوف. وبعد هزائمي التي لا تُحصى أنا الواقفُ على هذا المَفْرق، لي ألفُ وجهٍ ولا أُكلّمُ أحداً. لا نفَسٌ لي كي أُحيي ميّتا من أمواتي ولا أعرفُ معنى الربح أو الخسارة. عند هذا المَفْرق يتوقف الجميعُ، لكن بانتظار أيّ قطار؟ شوكةُ الطُرقات المفقودة هذه، تتفرّعُ أمامَ بيتي. بيتي المسيَّج بالعاقول يَلطأُ في أخدودٍ، يختنقُ بالأعشاب الضارّة. وبضعُ سَوسنات بريّة تُطلُّ بأعناقها فوق بحرٍ من النفايات: عبرَ أغطيةٍ من خِرَق الأعلام الأميركية المرفرفة وإعلاناتٍ عن الكوكاكولا، تتطوّحُ جبالٌ عاليةٌ مثل آلهةٍ طلعت من لجّة "الأبسو"، بيضاءَ كالملح لابسةً زُرقة النهاية. الشمسُ في كلّ أمسية تنحدرُ كقارب صيّاد سومريّ تاركةً في إثرها دُخان خرائب ورديةٍ في الأفق. وفي الليل تصفو السماءُ ثانيةً كما يصفو النهر بعد أن ألقيت فيه ذبيحةٌ بعد أخرى والعزاءُ في كلّ هذا ليسَ أكثرَ من كلمة. والقلبُ نبرةٌ بسيطة. أعوامٌ تكرُّ، لا يعدّها أحدٌ وإذا بي واقفٌ، لما أزل، وقد أبيضَّ شعري بانتظار من يعرفُ ماذا في هذا الباب.