"على هيئةِ تمثالٍ من العذابْ تركتها راكعةً فوق رصيفِ الدارْ لربما ظلتْ على هيئتِها تلك الى الآنَ، يراها الجارْ وربما شكا هيئتَها ، تلكَ ، الى الوالي فتمَّ نقلُها لمتحفِ الآثارْ" قصيدة: صورة ام - تمثال 1997 في الذاكرة بقيت على صورتها تلك حتى بعد ان تم نقلها الى مقابر وادي السلام بعد ان انتظرت عشرين عاماً لكي تنهض مرة اخرى على قدميها وتجتاز الرصيف البيتي الى غرفتها لتسمع منشدها يغني: هل تعتني بالورد ام بالميّت الملفوف بالكفن ام تصطفي عطراً لزينتها ، وفنجاناً لجارتها ام تختلي في غرفة ، وتروح في شجوٍ وفي شجنِ وتموت فوق الريح ، خارجَ بيتها ام خارج الزمن؟ سرى التي لم ارها اختارت ان تمزج تلك السماء اللندنية الساطعة النادرة في صباح مبكر بنعي ذلك التمثال الذي ظل عشرين عاماً منتصباً على رصيف الدار بهيئته السوداء تلك كأنه تمثال كاهنة سومرية على رصيف المعبد. لقد رحلت الى دار حقها. لا تزال تلك ثقافة الابناء . لم تنتظر اكثر من عشرين عاماً. سئمت من ذلك الانتظار الطويل بعد ان وعدتها بأني لن اغيب طويلاً. سأعود عما قريب. وظلت هنالك مقعية على رصيف الدار بهيئة تمثال كاهنة مجللة بالسواد: "لا قبرات تحطُّ فوق سريرها لا ثوب يجلبه مسافر من دمشق ولا عباءة من نسيج الفرس في شيراز لا احد يجيء بماء زمزم كي يكونَ غسيلها في الموتِ لا منّاً ولا سلوى / لا سماورَ من بخارى نهضتْ صباحاً كي تعد الشايَ، فانكسرت مراياها، وصاحت: يا إلهي هل بعد هذا الحشد من موتاي؟". قصيدة مناحة على بلاد الرافدين 1995. ظلت امها تحتفظ اربعين سنة بزمزمية معدنية صغيرة في حاجياتها تحتوي على كمية من ماء زمزم كانت اتت بها من حجها المبكر لكي تمزج بماء غسيلها في الموت. كنت انقل هذه الزمزمية بين حاجيات جدتي كلما ارادت التنقل من خالة الى اخرى. ولا اعرف ما اذا كانت هي الاخرى قد اتت بقارورة مثلها في حجها الذي لم اعرف به الا بعد سنوات حين انقطعت بنا السبل وصار صوتها يأتيني من اعماق ابدية بعيدة ملحاً بسؤال عذبني طوال سنوات : هل اراك قبل ان اموت؟ دخلت قصائدي مبكرة ، رمزاً وصورة وحكاية قديمة وطقساً دينياً وشالاً اسود وتاريخاً بعيداً من مراكب ابيها جانحة في شواطئ بعيدة ومرثيات شعبية في مآتم اهلها تتردد في تلك الضحوات التي تشرق فيها الشمس التي كأن تموز جاء بها من مخالب العالم السفلي لتشرق في سماوات كرخ بغداد الزرقاء المطعمة بنتف غيوم بيضاء تبدو وكأنها قطيع اغنام منتشر في حقل ازرق. اما هي فقد ظلت تهدل نائحة مثل فاختة في ظهيرة على موتى وغريبي دار من اهلها لم نكن قد رأيناهم في طفولتنا تلك. كان الشجى يتكسر بين الكلمات والترنيم المتهدج وهي تعد خبزها وتشجر تنورها . كان هذا شبه طقس يومي لا تعيقه سوى الامطار في ايام الشتاء. ملأتنا بذلك الهديل الشجي على غرباء دار من اخوتها واعمامها واخوالها . مضى زمن ليس طويلاً حتى اصبح من ابنائها غرباء دار انتظرتهم طويلاً وهدلت من اجل عودتهم بشجى ام رؤوم وقلب مكلوم. الآن وقد رحلت استطيع ان اتحسس في ذلك الهديل الشجي السحر الاسود الذي يحوله الى ترانيم جارحة فقد كانت تدرك انها لن ترى غرباء الدار حتى تموت. * شاعر عراقي مقيم في لندن.