وجد كثيرون في الضجة التي أثارتها رواية "تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم مادة للجدال الثقافي الذي لم يخل من التفكّه والسخرية في بعض الأحيان، الأمر الذي لفت الأجهزة الرقابية إلى الرواية، فتولّت فحصها بواسطة خبرائها، وانتهت إلى ضرورة مصادرتها. وكانت الرواية قد صدرت من دون رقابة مسبقة نتيجة إلغاء قانون الطوارئ سنة 1964، وهي السنة التي صدر فيها العفو العام عن المعتقلين السياسيين. ولذلك كان يمكن طبع كتاب من غير إذن رقابي مسبق، لكن ظلت الرقابة نفسها قائمة بوصفها لازمة نظام لا يكف عن التفكير في وسائل قمعية لحمايته من أعدائه. وكان من الطبيعي أن تلتفت الرقابة إلى الرواية التي صدرت بعيداً من سطوتها وتصادرها. وعندما ذهب صنع الله ليعرف حقيقة الموضوع، قابل طلعت خالد الذي كان من معاوني الوزير عبد القادر حاتم في ذلك الوقت. ويحكي صنع الله أن طلعت خالد جمع في مكتبه بعض موظفي مصلحة الاستعلامات أثناء نقاشه مع كاتب الرواية المحكوم عليها بالمصادرة. وتصفَّح الرجل أمامهم صفحات الرواية التي ظهر أثر القلم الأحمر على هوامش معظم صفحاتها، وسأل الكاتب أسئلة لا تخلو من الاستهزاء أو التبكيت. وكان الموقف لا يحتمل نقاشاً، والذين صادروا لا يقبلون دفاعاً، والكاتب المتهم لم يجد أمامه سوى تقبّل الحكم الباتر بالمصادرة والعودة من حيث أتى، وإلا فاحتمالات تزايد القمع متربصة مثل قلم الرقيب الأحمر، أو مثل سلطة الرقيب التي أغلقت على الرواية في ما يشبه السجن، داخل أحد مخازن وزارة الداخلية. ولكن الجدل حول الرواية لم يتوقف على رغم ذلك، فالنسخ التي تلقَّاها الأصدقاء على سبيل الهدايا، والنسخ التي تسرَّبت أو بيعت قبل قرار المصادرة، جعلت الرواية موضوعاً للحوار العلني إلى أن شاع قرار المصادرة الذي أغلق أبواب الحوار ووضع الجميع أمام الأمر الواقع، وفرض على الأطراف المعنية الصمت الذي يحمل معنى التقية على الأقل. ويلفت الانتباه في فعل الصمت درجة عموميته التي شملت مستويات عدة، وذلك على نحو يفرض السؤال عن الأسباب التي أدت إلى عدم صدور صوت احتجاج واحد على مصادرة عمل إبداعي، أو مناقشة حق الرقابة في مصادرة ما تشاء، أو وضع قضية الرقابة نفسها موضع المساءلة وطرحها للبحث؟! ويبدو أنه كان من الطبيعي أن يصمت الجميع لأكثر من سبب، أولها أن الكثيرين كانوا حريصين على عدم إفساد جو المصالحة بين النظام الناصري والفصائل اليسارية، خصوصاً بعد العفو العام وخروج المعتقلين والموافقة على حل الحزب الشيوعي، والصمت عن مصادرة رواية تتعارض فيها مواقف كبار اليساريين أنفسهم عمل يتسم بالحكمة، ويتجنَّب صداماً حول كتاب لا يستحق المحاربة من أجله، من وجهة نظر أصحاب هذا الموقف على الأقل. وثانيها أن المجموعات الليبرالية التي تطالب بحرية الكتابة، تقليدياً، وعادة، لم يكن بعض كبارها راضياً عن الرواية، بل كان يحيى حقي أحد الذين يمثلون هذه المجموعات نافراً منها كل النفور، ولم يخفِ نفوره حتى بعد صدور قرار المصادرة. وثالث هذه الأسباب أن المجموعات الثقافية بوجه عام كانت قد تعوّدت على مبدأ مصادرة الأعمال الإبداعية والفكرية من ناحية، وأخذت تجرب الفرار إلى بيروت في معظم الأحيان، هرباً بكتاباتها الراديكالية من قمع الرقابة المنظورة وغير المنظورة، المباشرة وغير المباشرة، ولذلك تسجل الباحثة مارينا ستاج في كتابها عن "حدود حرية التعبير: تجربة كتّاب القصة في مصر في عهدي عبد الناصر والسادات" وقد ترجمه ترجمة جيدة الأستاذ طلعت الشايب، وصدر عن دار شرقيات في القاهرة سنة 1995 أن سبعة كتب ما بين رواية ومجموعة قصصية نشرت خارج مصر ما بين 1952 و1960، خمسة منها في بيروت واثنان في دمشق، وأن تسعة كتب مماثلة نشرت في بيروت وحدها ما بين سنة 1961 و1970. ولم تكن "تلك الرائحة" العمل الأول في سياق المصادرات في الزمن الناصري، فقد سبقها كتاب مصطفى محمود "الله والإنسان" الذي منع نشره بحكم قضائي سنة 1956 بمبادرة من الأزهر، ورواية "أولاد حارتنا" التي نشرت مسلسلة في جريدة "الأهرام" سنة 1959، ولم تصدر في كتاب داخل مصر إلى اليوم، وخضعت مجموعة إدوار الخراط "حيطان عالية" المنشورة سنة 1959 لقمع مقص الرقيب من دون أي احتجاج، ولم تطبع كاملة إلا بواسطة "دار الآداب" البيروتية التي تولت إصدار الطبعة الثانية. وما حدث لإدوار الخراط حدث مع رواية صنع الله التي أعمل فيها الرقيب قلمه على نحو بالغ الدلالة، وبطريقة تكشف عن عقلية الجهاز الرقابي والاستجابات القمعية التي تلازم حركة هذه العقلية، خصوصاً في مقاربة الكتب التي تسوء سمعتها. وقد درست مارينا ستاج ما فعلته الرقابة في رواية "تلك الرائحة" وقدّمت فصلاً متميزاً عن دراسة حالتها، ضمن أطروحتها للدكتوراه التي حصلت عليها سنة 1993 من جامعة استوكهولم - معهد اللغات الشرقية - قسم اللغة العربية - ونشرتها في كتاب "حدود حرية التعبير" الذي سبق أن أشرت إليه. وقد بدأت الدراسة بمقدمة عامة من علاقة أدب صنع الله بالرقابة بوجه عام، وأشارت إلى مضمون الرواية في إيجاز. وقامت بتحليل تفصيلي للأجزاء التي خضعت للرقابة. ولاحظت أن قلم الرقيب توقف بالحذف عند مجالين على وجه التحديد، هما مجال الجنس والسياسة، ويمكن أن نضيف إلى هذين المجالين المجال الخاص باللياقة الاجتماعية العامة. ولم تشر مارينا ستاج إلى أي حذف يتصل بالجوانب الدينية، كي يكتمل الثالوث الرقابي الشهير، وذلك لسبب بسيط جداً مؤداه أن "تلك الرائحة" لم تكن معنية بالأسئلة الميتافيزيقية أو الدينية، وإنما معنية بالأسئلة الفيزيقية والمشكلات الدنيوية التي يقف على رأسها القمع السياسي وما يفرضه من أشكال نبذ اجتماعي. وبالطبع، فإن قلم الرقيب، في مثل هذه المجالات لا يعمل عقل صاحبه في ما نسميه التقنية الفنية، أو الجوانب الأدبية التي تفرض على الكاتب مجاوزة الذوق العام، أو حتى تحدّيه تحقيقاً لأهدافه الأدبية بالدرجة الأولى، فمثل هذه الأهداف لا تعني الرقيب الذي يقرأ قراءة حرفية، ولا يبحث في النص إلا عما يراه هو موضع اتهام، بحسب لوائح المحرّمات والممنوعات التي استظهرها، أو التي تمت برمجته عليها من أجهزة السلطة القمعية التي يعمل في خدمتها، والتي تحوّل هو إلى أحد أسلحتها. أما في مجال الجنس، فقد حذف الرقيب كل ما يشير إلى الجنسية المثلية، أو الانتهاكات الجنسية التي تحدث في السجون وهو موضوع عاد إليه صنع الله في روايته "شرف" التي صدرت عن دار الهلال في القاهرة أو غرف التوقيف الاحتياطي. وكلها مشاهد بالغة الحساسية بالطبع، ولا أتصور أن الرقيب الحالي يمكن أن يسمح بها، خصوصاً بعد أن تعددت تجليات هذا الرقيب، وتنوعت صوره التي تبدأ من مجموعات الضغط الديني والسياسي خارج سلطة الدولة، وتنتهي بالرقباء الرسميين الذين هم جزء من سلطة الدولة. ولا سبيل إلى اليوم لإقناع ممثلي الرقابة الرسميين وغير الرسميين بمبدأ الحرية الإبداعية أو بضرورة وضع المبررات الفنية التي تدفع الكاتب إلى صوغ مثل هذه المشاهد بوصفها مؤدية لوظائف حيوية في نصه الإبداعي. وأشكال القمع الرقابي التي نراها في هذه السنوات الأخيرة دالة على المأزق الذي يواجهه المبدع العربي المعاصر من تعدد أشكال الرقابة القمعية وتنوعها. أما في مجال السياسة فقد حذف الرقيب كل ما يشتمّ منه نقد النظام الناصري أو "نقد الحكومة" كما جرت عادة الكلام إلى اليوم. وكان على رأس الممنوعات في هذا المجال تصوير عالم السجون والسجناء بكل فظائعه، وذلك حتى لا يسيء هذا التصوير إلى صورة النظام السياسي. ويتصل بهذا المجال ما ورد في الرواية عن حرب اليمن من زاوية الدور العسكري الذي قامت به مصر الناصرية هناك، وهي الزاوية التي سعى القص إلى مساءلتها مساءلة جذرية بواسطة تسجيل استجابات ركاب المترو عند رؤية قطار الجنود العائدين من اليمن. ويتصل بذلك نقد الممارسات الحكومية وما يتصل بشيوع الرشوة أو الفساد، ومن ثم شيوع الإحباط العام الذي ظهرت ملامحه على وجوه "كل الناس" الذين رآهم في كل "تلك الرائحة" في الشارع وفي المترو. ولم يخل الأمر في هذا السياق من الاشتراكية التي كانت الدولة الناصرية رفعتها شعاراً لها في تلك السنوات. وغير بعيد عن المجال السابق مجال اللياقة الاجتماعية التي دفعت الرقيب إلى حذف كل ما يتصل بالرائحة التي أصدرها البطل في أحد المشاهد، أو مشهد الملابس الملوثة بلون البول لأحد أقرباء البطل. وقس على ذلك الأسطر أو الجمل التي تبدو كما لو كانت نوعاً من التعليق الجارح أو الوصف الصادم لمشاهد الحياة اليومية. ومن الواضح أن الرقيب مارس دوره "الحذفي" في رواية "تلك الرائحة" غير مغفلٍ كل ما يتصل بالمحرمات والممنوعات والمحظورات التي تأسست وظيفته لبترها من الأعمال الإبداعية، وضبط النصوص الأدبية بما يبقي على رقعة المسكوت عنه من الكلام الاجتماعي والسياسي غير المباح، وذلك جنباً إلى جنب الكلام الديني الممنوع الذي لا تزال تتولى مراقبته وضبطه المؤسسة الدينية الرسمية، تعاونها مجموعات ضغط تتكاثر في هذه السنوات التي تصاعد فيها التطرف. والتجاوب بين الرقابة السياسية الاجتماعية والرقابة الدينية لافت في هذا السياق الذي يؤكد المقولة العربية الموروثة التي تقول إن الملك بالدين يقوى والدين بالملك يبقى. ومهما يكن من أمر فقد ظلت رواية "تلك الرائحة" مصادرة، لم تصدر مرة ثانية إلا بعد مرور ثلاث سنوات من قرار مصادرتها، وتغير وزير الإعلام الذي صودرت في عهده، ومجيء وزير جديد أكثر تسامحاً. ولكن لم يجرؤ الناشر على نشر الرواية إلا بعد أن تولَّى هو تهذيب النص وحذف كل ما تصور أنه قد يثير غضب الرقيب. ولم يختلف الأمر مع ناشر آخر كان يصدر سلسلة بعنوان "كتابات معاصرة" فصدرت الطبعة المهذبة نفسها سنة 1971. ومارست مجلة "شعر" البيروتية التي كان يصدرها يوسف الخال عن جريدة "النهار" العملية الرقابية التي رأتها مهمة لحذف كل ما من شأنه أن يؤذي مشاعر قرّائها. وكان ذلك في السنة نفسها التي صدرت فيها ترجمة دنيس جونسون ديفيز للرواية عن دار نشر "هانيمان" اللندنية، وذلك في سلسلة كبيرة عن الكتّاب الأفارقة، أشرف عليها الكاتب شينوا أتشيبي، وأسهم في الإشراف على الجانب العربي منها دنيس جونسون ديفيز الذي ترجم لتوفيق الحكيم "مصير صرصار" كما ترجم "قصص عربية قصيرة حديثة" و"موسم الهجرة إلى الشمال" و"عرس الزين" للطيب صالح و"قصص مصرية قصرية" فضلاً عن "تلك الرائحة". ونشرت الترجمة الإنكليزية عن النص الأصلي الأول من غير حذف، مع بعض التعديلات التي كان المترجم مسؤولاً عنها، فقد اشتكت دار النشر الإنكليزية من قلة عدد صفحات الكتاب المترجم الذي ضم عدداً من القصص القصيرة إلى جانب "تلك الرائحة". ولم يرض المترجم عن إحدى القصص القصيرة التي ضمها صنع الله إلى روايته، وطلب قصة جديدة، ولم يستطع صنع الله الاستجابة إلى هذا الطلب، فقام بتضمين الموقف الأساسي للقصة التي لم يقبلها المترجم في نص الرواية. ولذلك صدرت الترجمة الإنكليزية مختلفة عن النص العربي في هذه الحدود وحدها، بعيداً من مقص الرقيب الذي لا يعرفه الناشر الأوروبي. واستبقى صنع الله إبراهيم هذا التعديل في النص العربي الكامل الذي طبع للمرة الأولى سنة 1986، ووضع الفقرة المضافة بين أقواس قرب نهاية الرواية. وكان ذلك بعد أن تغيرت الأحوال الرقابية، وأصبح ممكناً صدور الرواية التي كانت فاتحة كتابة الاحتجاج السياسي على ما حدث في السجون الناصرية، في الزمن الناصري نفسه وليس بعده، كما كانت بداية ما أسسه جيل الستينات في دائرة "كتابة القبح". وكان جمعها ما بين "كتابة القبح" والاحتجاج الإبداعي على القمع اللاإنساني للمعارضين السياسيين الاستهلال الذي فتح الباب للكتابات اللاحقة التي جاءت بعد وفاة عبد الناصر ونشرت في زمن السادات مستغلة التناقض بين الزمنين، ورغبة السادات في تشويه صور الزمن الناصري، دفاعا عن سيادة القانون التي دعا إليها، وإلغاء المعتقلات السياسية في ما زعم. وذلك في موازاة تحالفاته الجديدة مع المجموعات الدينية بقيادة الإخوان المعادية تقليدياً لسياسات عبد الناصر.