الباحثة السويدية مارينا ستاج تناولت في كتابها "حدود حرية التعبير" صدر عن دار شرقيات في القاهرة بترجمة طلعت الشايب، مجموعة من حالات الكتابة المصرية، التي تعرضت إما للمنع أو للقمع. وهي تطرح مقولة مهمة لرونالد توماس، يقول فيها: إن السؤال الوثيق الصلة بأي مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني، ليس هو: هل هناك رقابة أم لا؟ وإنما هو بالأحرى: تحت أي نوع من الرقابة نعيش؟. وإذا كنا ندرك مدى بطش الأجهزة الرسمية في مطاردة الأعمال التي تراها - من وجهة نظرها - ماسة بالنظام، فإن البطش الأكثر خطورة هو ما يصدر عن الأجهزة غير الرسمية، لأنه بطش غير مقنن. فالبعض قد ينصب نفسه حارساً على الأخلاق، أو الدين، وفي هذه الحال فإنه يمتلك وهم اتهام الأعمال الإبداعية إما بالبذاءة أو بالتجديف. وخطورة هذا الاتهام أنه يكون نهائياً وغير قابل للاستئناف عادة، وفي المقابل فإن هناك من ينصبون أنفسهم كأداة لمثل تلك الأحكام، كسباً - في ظنهم - لرضاء الله ورسوله، وطمعاً في احترام الجماعة والتاريخ. وهكذا، يصبح الفنان ضحية قانون رسمي مكتوب، وآخر غير رسمي وغير مكتوب. الأول يمكن إدراك حدوده فلا يتم تجاوزها، بينما الثاني لا يمكن إدراك حدوده لأنها تخضع للاجتهادات الفردية، التي تبتدئ من حدود التسامح، إلى أن تصل إلى أقصى درجات التطرف. وفي البداية، تقرر ستاج أن الجنس ليس محرماً في حد ذاته، فالروايات المصرية تمتلئ بالكثير من ذكر العلاقات الجنسية، الشرعية منها وغير الشرعية، لكن ما هو محرم بالفعل ذكر الأعضاء الجنسية ووصف الممارسة ذاتها. إن عضو الرجل - على سبيل المثال - لا يمكن ذكره صراحة، كما أن العبارات التي تتردد أثناء الممارسة، على رغم أنها جزء من التجربة الإنسانية، يستحيل ذكرها. لذلك، فإن ستاج تصل إلى أن الرأي العام في مصر قد أصبح أكثر تشدداً، مع صعود التوجه الإسلامي في الفترة الأخيرة، خصوصاً منذ منتصف السبعينات. واستطاعت مارينا ستاج الحصول على شهادة قيمة من توفيق الحكيم قبيل وفاته، قال فيها: في الماضي عندما كنا نشاهد إعلانات مسرحية سيد درويش "شهوة زاد" لم يكن يصدمنا العنوان كمجتمع، ولم نعترض عليه. ما الذي غيره - إذن - بعد عشرين أو ثلاثين عاماً إلى "شهرزاد"، إن صفة المرأة الشهوانية تتفق وصفات البطلة، بينما الاسم الجديد لا معنى له، المسرحية لا علاقة لها بألف ليلة وليلة، ما الذي تغير في المجتمع الذي كان يقبلها في العشرينات ولا يقبلها الآن؟. أدت عوامل كثيرة إلى هذا التراجع على مستوى المجتمع، أما مارينا ستاج فتتوقف عند عامل واحد منها، فتقرر أنه "ربما يكون خطر التنظيمات السياسية عاملاً مهماً، لأن الرأي العام إن لم يجد قنوات تعبير سياسية، مثل الأحزاب واتحادات العمال والجمعيات المختلفة، فلا بد أن يوجد قنوات أخرى. وفي مصر أصبح التوجه الإسلامي هو التيار الذي يستوعب ويعبر عن عدم الرضا الموجود". لكننا نضيف إلى كلام ستاج أن ضعف التنظيمات مرادف لخطرها، وهو ما تعبر عنه الأحزاب الموجودة الآن، والتي انشئت بقرار بعيداً من أية قاعدة شعبية. ويوسف إدريس - بدوره - يدلي بشهادة أخرى إلى ستاج، فيصف المحرمات من وجهة نظره بأنها مجموعة من الدوائر. وحين تسأله إن كان ذلك لم يخلق حالاً من الفصام في مثل تلك الظروف، بين كونه كاتباً مبدعاً، وموظفاً في جريدة؟ فإنه يجيب بطريقة غاضبة: نعم، لقد سئمت لعبة المساومات بين تلك المجالات الثلاثة، وبين ما أريد أن أقوله. في حياتي تجارب كثيرة، هي مصدر إلهامي، عالم كامل، ليس شخصيات فقط، بل أفكار وموضوعات لا استطيع نشرها، ليس في مصر فقط وإنما في كل العالم العربي. أنظمة الحكم غبية جداً، وقوية جداً، وباطشة جداً، بحيث لن تسمح بكتاباتي الجيدة وخيالي الجيد. فالكلام عن موضوعات مثل الجنس مثلاً لا يتم بحرية، ليس الجنس المتحرر من أي قيد، وإنما التفكير الحر عن الجنس، عن الدين، عن جميع الأشياء التي تغلي في المجتمع ولا يناقشها أحد. نحن نحتاج إلى قدر أكبر من الحرية، إنها الاوكسيجين، وأنا فعلاً اختنق". فإذا كانت هذه هي حال يوسف إدريس، الذي لم يشفع له اسمه أو قامته الأدبية بالتفكير الحر، فما بال الأدباء الآخرين الأقل شهرة؟ وتهمة التجديف في العصر الحديث هي نفسها تهمة الهرطقة التي كانت تستخدمها محاكم التفتيش في العصور الوسطى، وعلى رغم أن الهرطقة لم تكن تصدر إلا عن جهة واحدة، هي محكمة سان فرنانديز، إلا أن تهمة التجديف في مجتمعنا المعاصر يمكن أن يطلقها أي من افراد المجتمع، طبقاً لمبدأ الحسبة. وقد أدى هذا التوسع الذي لم يستخدم من قبل في التاريخ الإسلامي، في إحداث موجة من الذعر في الأوساط الأدبية والفكرية. إن توجيه الاتهام يحمل ضمناً تصريحاً بالقتل، من دون الإشارة إلى ذلك. وغالباً ما تكون عقوبة التجديف، وهو المرادف للردة بالمعنى الفقهي، هي القتل. ولم يتم التوسع في إطلاق التهم وحدها، بل إن واجب التنفيذ كان يشمل كل مسلم، حتى غدا هذا التنفيذ أقرب إلى أن يكون فرض عين، بعد أن كان ولي الأمر في العصور السابقة هو المنوط بالاتهام والتنفيذ. ويرى محمد فائق وزير الإعلام السابق، في حكومة عبدالناصر الأخيرة 1966 - 1970، أن مساحة التسامح مع الأعمال الأدبية كانت كبيرة، سواء قبل الثورة أو بعدها، وضرب مثالين للتدليل على ذلك: "بنك القلق" لتوفيق الحكيم 1966، و"ميرامار" لنجيب محفوظ 1967. لكن أشد درجات الرقابة على تلك الأعمال - كما يقول - كانت نتيجة للاحتجاجات التي يقوم بها رقباء غير رسميين. إن قائمة الممنوع طويلة في تاريخ الأدب والفكر المصري في العصر الحديث، لكن الممارسات الفعلية تبدأ مع حلول عام 1925، حين نشر الشيخ علي عبدالرازق كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، وهو دراسة دينية سياسية، تعارض فكرة إحياء الخلافة، لمصلحة حكم سياسي علماني، باعتبار أن الرسول لم يؤسس دولة، وأن الإسلام لم يحدد نظام حكم بعينه، وقد حوكم الشيخ أمام هيئة كبار العلماء التي فصلته من عضويتها، ثم فرضت حظراً على الكتاب. وفي العام التالي مباشرة 1926، نشر طه حسين عمله الأشهر "في الشعر الجاهلي" حيث شكك في صدقية هذا الشعر الذي انتقل شفاهة لعدة قرون، من دون أن يتم تدوينه. ووجد احتمالات لفساد سلسلة النقل الشافهي. كما أن المنهج الديكارتي الذي استخدمه في الكتاب، والذي يجعل الشك بداية طبيعية لدراسة أية قضية أو ظاهرة، وهو ما يتعارض بالضرورة مع العقيدة الإسلامية. ومن هنا، ظهرت ضرورة محاكمة طه حسين عن الوقائع والمنهج اللذين اشتمل عليهما الكتاب. إلا أن الظاهرة الإيجابية التي اسفرت عنها محاكمة الكتاب، كانت صيغة الحكم الذي صدر في 32 صفحة بأن طه حسين غير مذنب بالنسبة لتهمتي الطعن والتعدي على الدين. إن هذه البراءة التي صدرت عن رئيس النيابة المستنير كانت بمثابة محاولة للفصل بين رؤية الفقهاء ورؤية الأدباء، حيث أشار إلى أنه "لا يوجد قصد جنائي"، حيث إن "العبارات الخاصة بالدين قد أوردها المؤلف على سبيل البحث العلمي، مع اعتقاده بأن بحثه يقتضيها". الحالتان السابقتان تمثلان خلفية تاريخية لم تمس الماضي وحده، بل امتدت إلى الحاضر أيضاً، إن الشيوخ حين منعوا كتاب عبدالرازق، واستبعدوه هو شخصياً عن مجتمعهم، فإنهم وضعوا بذلك نهاية للدخول في نقاش مع الاتجاهات العلمانية، واغلقوا باب التفكير مجدداً في العلاقة بين الحكم الديني والحكم السياسي. ولا تزال القضية - حتى الآن - محاطة بالمحرمات التي تعوق الإصلاح الديني، والتكيف مع القضايا الديموقراطية الكبرى. أما المعاني المتضمنة في حالة طه حسين، فإنها مختلفة. إن المؤسسة الدينية بإنكارها حق الآخرين في الاختلاف، مع فهمها للقرآن والسنّة، تركت الباب مفتوحاً - إلى حد ما - لتدخلات مستقبلية ضد أعمال أدبية وعلمية، عندما تكون لها علاقة بالإسلام أو التاريخ الإسلامي. وإذا كان نظام عبدالناصر أبقى المؤسسة الدينية خارج السلطة، فإن نظام السادات قد انتهج العكس. إذ أنه من دون إجراء أية تعديلات على القانون الصادر عام 1961، والذي يقضي بعدم جواز مصادرة أي كتاب إلا بحكم قضائي، إلا أن نظام السادات قد وسع سلطة الأزهر الفعلية، بل شجع العلماء على الإدلاء بآرائهم في القضايا الخلافية المعاصرة، لقد كان أول ضحايا هذا الحلف بين النظام والمؤسسة الدينية، كتاب "مقدمة في فقه اللغة العربية" للدكتور لويس عوض، الذي صودر بمبادرة من الأزهر، في جو سياسي كان يصعب فيه أن نتبين إرادة العلماء من إرادة الرئيس. إلا أن الظاهرة التي بزغت في مرحلة تالية، كانت أكثر خطورة، فلقد كانت أجهزة الإعلام تدعو رجال الدين، أمثال الشيخ محمد متولي الشعراوي، وتسمح لهم بتوجيه اتهامات قاسية بالكفر والردة لمثقفين علمانيين، أمثال: زكي نجيب محمود، وأحمد بهاء الدين، ويوسف إدريس، ونوال السعداوي، وأمينة السعيد، وتوفيق الحكيم. ولم تستهدف تلك الاتهامات الحوار الدائر فقط، لكنها كانت تمثل تهديداً صريحاً بالتصفية الجسدية، وقد مهد ذلك بالفعل لمحاولة اغتيال مكرم محمد أحمد، ثم اغتيال فرج فودة. ومع صعود التوجه الإسلامي تغير المناخ الثقافي تدريجاً، وأصبحت حدود ما يمكن أن يقال أو يكتب في الموضوعات التي تقترب من الدين أكثر ضيقاًَ. إن اللجوء الدائم للدين، ومحاولة التحالف مع الرأي العام الإسلامي ضد الليبراليين واليساريين، خاصة في الحقبة الساداتية، أدى إلى تدهور الموقف إلى درجة يرتفع معها بعض الأصوات، مطالباً بمنع نشر بعض كتب التراث العربي والإسلامي: - ففي عام 1981 طالب مجلس الشعب القضاء بمصادرة كتاب "الفتوحات المكية" لابن عربي، كما طالب في الدعوى نفسها بإحراق "ألف ليلة وليلة"، وقد تم رفض القضاء المصري الدعوى في الحالين. - وفي عام 1989 قدم الدكتور حامد أبو أحمد الاستاذ في كلية اللغات والترجمة في جامعة الأزهر، إلى مجلس تأديب، بسبب ترجمته رواية "من قتل موليرو" للكاتب المكسيكي ماريو فارغاس، بدعوى أن الرواية تتضمن عبارات جنسية خارجة. بعد ذلك حاول الأزهر أن يوقف توزيع كتابي "المسلمون والأقباط" للمستشار طارق البشري، و"الإسلام والقرن العشرون" لحسين أحمد أمين. وقد ألغيت المصادرة بقرار قضائي في الحالين. وفي حالات أخرى نجح مجمع البحوث الإسلامية في سحب عدد من الكتب من معرض القاهرة الدولي للكتاب. وفي عام 1992 نجح الأزهر في مصادرة خمسة كتب لمحمد سعيد العشماوي، والطبعة الثالثة من كتاب عادل حمودة "قنابل ومصاحف - قضية تنظيم الجهاد" كان كل ذلك من توابع محاولة إيقاف نشر رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، التي نشرت مسلسلة في جريدة "الأهرام" عام 1959، وكانت الحجة أن الرواية مليئة بالتجديف. توقف رصد مارينا ستاج لظواهر المصادرة والإرهاب حتى نهاية عهد السادات. وبالتالي فإنها لم تشر إلى واقعة تكفير نصر حامد أبو زيد، ومحاكمته التي نتج عنها التفريق بينه وبين زوجته، ومصادرة مجموعة قصصية للكاتب الصحافي ابراهيم عيسى، وبعدها مجموعة "روح الروح" لوفيق الفرماوي، والمجموعتان صادرتان عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. وتتم تلك المصادرات بالتوازي مع استمرار مصادرة أو حظر نشر كتاب الدكتور عبدالرحمن بدوي "شخصيات قلقة في الإسلام"، فإذا تذكرنا شهادة الحكيم، سوف تستدعي الذاكرة كتاب اسماعيل أدهم "لماذا أنا ملحد"، الذي صدر في الثلاثينات، وكيف تم الرد عليه بشكل "محترم" في تلك الفترة. * كاتب مصري.