بذلت سورية خلال الأيام الماضية جهداً كبيراً في رد الاتهامات الموجهة إليها من صقور الإدارة الأميركية والإسرائيلية، بهدف تطويع موقفها السياسي. وهو جهد بذله عدد من المسؤولين السوريين في شكل إيجابي على رغم صعوبة اقتناع القادة السوريين بفكرة البقاء في حال الدفاع عن النفس إزاء هذه الاتهامات، لاعتبارهم أن السبب الجوهري للحملة على دمشق هو موقفها المبدئي من الحرب ضد العراق، الذي تعتبره بديهياً: اعتبارها غير شرعية ومخالفة للقانون الدولي - العدوان الأميركي على العراق هو احتلال - توقع الرئيس بشار الأسد إلا يتمكن الأميركيين من السيطرة على العراق لان الشعب العراقي سيقاوم الاحتلال... لقد نجحت الحملة السورية المضادة التي قادها وزير الخارجية فاروق الشرع ومديرة الإعلام الخارجي بثينة شعبان وسائر المسؤولين السوريين في تعديل الصورة الإعلامية بعض الشيء بدلاً من أن تبقى الشاشات لصقور الإدارة الأميركية وحدهم. وساعد في ذلك أن الدول الأوروبية حتى الحليفة لواشنطن حرصت على تمييز موقفها عن الموقف الأميركي من دمشق. إلا أن هذا ليس مدعاة للاطمئنان الى أن ما هو "تهويل" أميركي الآن قد لا يتحول بعد مدة الى تهديد جدي. فالجموح الذي يحكم واشنطن الآن لا حدود له. وإذا كانت المرونة السورية تلقى اذناً صاغية لدى معظم دول العالم وحتى ضمن أوساط أميركية كثيرة، فإن أصحاب المشروع الإمبراطوري في إدارة بوش لن يتوانوا بمساعدة إسرائيل وتحريض منها، عن تصعيد جديد لاحقاً. وقد تتطور الأحداث في شكل يدفع هؤلاء الى اعتماد سياسة المراحل تجاه سورية من اجل حشرها، كما فعلوا في تحريض الرأي العام الدولي والأميركي من اجل تحقيق فكرة تغيير القيادة الفلسطينية، ثم الحرب على العراق. ولأن الحجة القائلة بأن سورية ليست مثل فلسطينوالعراق صحيحة، فإن التهيؤ لاستئناف الحملة الأميركية يتطلب أيضاً "تحولاً" في طريقة مواجهتها وفي أسلوب مقاومة "التحولات" التي تطالبها بها واشنطن في سياستها المبدئية في القضية العراقية. تفتقد سورية، الى ما يسميه الأميركيون المعارضون لجموح المحافظين الجدد في واشنطن، "الحد الأدنى من العلاقات العامة". بل يرى هؤلاء غياباً سورياً تاماً عن حلبة الصراع مع إسرائيل واليمين الأميركي المتشدد في مراكز صنع القرار الأميركي. وعلى رغم اعتراف هؤلاء الأميركيين أنفسهم بأن الجهد الذي تقوم به شعبان في العلاقة مع الإعلام الخارجي هو "الخطوة الوحيدة في العلاقات العامة" على الطريقة الأميركية، فما من مسؤول سوري إلا ويعترف أيضاً بأن على سورية أن تزيد انفتاحها الإعلامي. ومع ذلك لم يصدر قرار سياسي في هذا الشان. وقد يكون السبب في أن الانفتاح الإعلامي يفترض أن يوازيه انفتاح سياسي أو على الأقل أن يأتي خطوة، من ضمن برنامج خطوات سياسية. فهو ليس موضوعا تقنيا. وفي هذا المجال فإن تجارب المرونة قي تاريخ القيادة السورية، تحت سقف احتفاظها بموقفها السياسي المبدئي في القضايا المصيرية، يجعلها قادرة اكثر من أي طرف، عربي او أوروبي، أسدى اليها النصائح في هذا السياق،على توقيت أي خطوات يمكن أن تتخذها في تحصين وتحسين موقعها إزاء الحملة الأميركية المرشحة لأن تتجدد عليها. أثبتت الحملة الأميركية على سورية، صحة موقفها القائل، أن حكام واشنطن سيستخدمون العراق "منصة وثب" على المنطقة ككل، بالتحالف مع إسرائيل... وهذا يعطي سورية الحق في موقفها المبدئي الممانع أمام هذا الجموح الأميركي. لكن الصحيح أيضاً أن الحرب على العراق شكلت، وينتظر أن تشكل، منصة للّقاء ما بين القيادة السورية وقوى أخرى بعضها كان على خصومة معها. ومن هذه القوى بعض المعارضين للنظام السوري في الداخل، الذين أيدوا موقف الحكم من الحرب على العراق. هذا بالإضافة الى موقف البطريرك الماروني في لبنان نصر الله بطرس صفير والكنيسة. وهذا يوفر الأرضية لانفتاح سياسي في الداخل وفي لبنان لمناسبة تأليف الحكومة الجديدة. وهو يثبت أن "منصة" العراق ليست حكراً على الأميركيين وحدهم.