يثير التقارب العراقي - السوري قدراً واسعاً من الجدل وردود فعل متضاربة في الأوساط الاقليمية والدولية. فهذا التقارب يؤثر على الصراع العربي - الإسرائيلي وعلى أوضاع الخليج وعلى منطقة حوض المتوسط. البعض يتجه إلى التقليل من أهميته، مشيراً إلى أنها ليست المرة الأولى التي تلوح فيها احتمالات التحسن في العلاقات بين بغدد ودمشق. برز هذا الاحتمال عندما وصل الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى الحكم عام 1970، ثم تجدد خلال حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 عندما انضمت القوات العراقية إلى القوات السورية في حربها ضد إسرائيل، وكذلك في منتصف السبعينات بعد فك الاشتباك الثاني بين مصر وإسرائيل، وتفرغ الأخيرة لدول الجبهة الشرقية، وبعد توقيع معاهدة "كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل عندما دخلت قيادتا سورية والعراق ميثاق العمل القومي المشترك. ولكن هذه الاحتمالات والمحاولات انقلبت إلى مناسبات لشحذ الصراع بين بغدادودمشق بدلاً من تهدئته. ففي كل مناسبة من هذه المناسبات، كان كلاً من الطرفين يخرج بتحفظات جديدة على الطرف الآخر، يضيفها إلى تحفظاته السابقة، فتنقلب محاولات اصلاح العلاقات بين الطرفين إلى محطات لتصعيد الصراع بينهما. في ضوء هذا السجل يتساءل الذين يقللون من أهمية خطوات التقارب السوري - العراقي: لماذا تنجح محاولة اصلاح العلاقات السورية - العراقية الآن بعدما عانت المحاولات الماضية من الاخفاقات المتوالية؟ الذين يتوقعون أن تنجح المساعي الراهنة لتحسين العلاقات بين دمشقوبغداد يشيرون إلى جملة مستجدات تجعل احتمال نجاح هذه المساعي اليوم أوفر منها في الماضي، وفي مقدم هذه المستجدات ما يأتي: أولاً، أن البلدين يعانيان من أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة. معاناة العراقيين باتت شأناً معروفاً في السياسة الدولية، أما الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها السوريون فقد تناولها الرئيس السوري بشار الأسد في خطاب القسم. كما تتناولها التقارير الدولية أيضاً. فبحسب تقارير البنك الدولي، يعيش أكثر من 22 في المئة من السوريين تحت خط الفقر ويبلغ الحد الأدنى لمتطلبات المعيشة بحسب دراسة أعدها "المركز الاقتصادي السوري"، وهو مؤسسة مستقلة، حوالى ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور. ومن مراجعة تاريخ البلدين خلال العقود الثلاثة الماضية، يلاحظ أنهما لم يمرا في أزمات اقتصادية واجتماعية من النوع الذي يعانيان منه اليوم، ولم يكونا في الماضي في حاجة إلى التعاون مع بعضهما البعض كما هما الآن. بالعكس، كان البلدان في الماضي يتمتعان بنوع من "الاكتفاء الذاتي"، بينما كان التعاون الاقتصادي بينهما خياراً تملك الحكومتان الاستعاضة عنه ببدائل أخرى. الآن لم تعد هذه البدائل متوافرة كما كان الأمر سابقاً، وبات التعاون الاقتصادي أقرب ما يكون إلى الضرورة التي يصعب الاعراض عنها. ثانياً، بروز نتائج التحالف الإسرائيلي - التركي. صحيح ان هذا التحالف نشأ قبل سنوات، ولكنه، مثل كل التحالفات، يحتاج إلى وقت قبل أن يترسخ وقبل أن تظهر نتائجه ويأخذه الآخرون في الاعتبار. ووصل التعاون التركي - الإسرائيلي إلى هذا المستوى من التطور، خصوصاً على مستوى العلاقات بين المؤسستين العسكريتين في تركيا وإسرائيل، فهما يتبادلات الخبرات والمعونات في تحقيق أهدافهما الاقليمية والاستراتيجية. المؤسسة العسكرية التركية تستخدم في شمال العراق الأساليب نفسها التي استخدمتها القوات الإسرائيلية في جنوبلبنان وقبلها في الأردن. المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وجدت في الطريقة التي استخدمها الأتراك من أجل حمل دمشق على اخراج عبدالله أوجلان من الأراضي اللبنانية وسيلة مناسبة يمكن استخدامها مستقبلاً لتحقيق بعض الأهداف السورية. التعاون بين الطرفين ساهم في تمكين تركيا من إلقاء القبض على أوجلان وعلى تفكيك حزبه وانهاء عمله المسلح. وتزداد خطورة التحالف التركي - الإسرائيلي، خصوصاً مع تقدم مشاريع بناء السدود على نهري الفرات ودجلة. العراقيون والسوريون اتفقوا في مطلع شهر شباط فبراير الماضي على تصور موحد لقسمة مياه النهرين بين الدولتين حتى يكون أساساً للتفاهم بين الدول المتشاطئة الثلاثة، كما ناشدوا تركيا دخول مفاوضات من أجل الوصول إلى حل "اصولي وعقلاني" لقسمة المياه. هذا الموقف الثنائي يمثل مقترباً سورياً - عراقياً جديداً للتفاوض مع تركيا حول مسألة المياه، وهو المقترب الأكثر فعالية. إلا أن العراقيين والسوريين يعرفون أن حظ هذا المقترب من التأثير يقترن بمدى تطوير العلاقة بين دمشقوبغداد، أي أنه على حكومتي البلدين توجيه رسالة قوية إلى أنقرة مفادها أن المصالحة العراقية - السورية الحالية تختلف عن المصالحات السابقة. ثالثاً، انه لا توجد بين الرئيسين العراقي والسوري الحاليين تعقيدات كثيرة، مع تقلص مساحة هذه التعقيدات. يتحدث المسؤولون في البلدين للمرة الأولى عن "مصالحة ايديولوجية" بين الحزبين الحاكمين. رابعاً، كان هناك في الماضي اعتقاد بإمكان استرجاع الجولان عن طريق "عملية السلام"، إلا أن هذا الانطباع تلاشى إلى حد بعيد، بعد فشل قمة الأسد - كلينتون في جنيف، وبعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوبلبنان. والآن وبصرف النظر عن نظرة المسؤولين السوريين والعراقيين إلى العلاقة بين تحرير الجولان وتطور العلاقات بين البلدين، فإنه في التحليل الموضوعي يمكن القول بأن كل خطوة تخطوها دمشق صوب بغداد تعتبر أداة ضغط على الولاياتالمتحدة وعلى إسرائيل من أجل الاستجابة إلى المطلب السوري بالجلاء عن الهضبة المحتلة. ولكن حتى تكون لهذه الخطوات مصداقيتها، فإنه من الضروري أن تتواصل لفترة طويلة، وأن تبدأ آثارها في الظهور على العلاقات بين البلدين، وإلا فإنه من الطبيعي ألا يأخذها صاحب القرار الإسرائيلي أو الأميركي في الاعتبار. إن هذه العوامل تساهم في جعل محاولات تطبيع العلاقات وتحسينها بين العراق وسورية تختلف اليوم عنها في السابق، ويزيد في احتمال بلوغها الغاية التي استعصت على الطرفين آنفاً. إلا أنه لا بد من الأخذ في الاعتبار أن ثمة عوامل وصعوبات منها ما هو قديم ولكن منها ما هو مستجد أيضاً، ما يعرقل نمو العلاقات بين البلدين، ويضع سقفاً منخفضاً له. فهناك عوامل من الحذر التاريخي بين دمشقوبغداد الذي لا يعيده البعض إلى ما قبل وصول حزب البعث إلى الحكم فيهما بكثير، أي إلى أيام الصراع الأموي - العباسي. يضاف إلى ذلك، أن تطور العلاقات السورية - العراقية قد يتحول في أعين الآخرين إلى محور يثير القلق والخوف. ومن بين الآخرين قوى عربية اقليمية تخشى من اختلال الموازين داخل النظام الاقليمي العربي لغير صالحها، فتندفع إلى تكوين تحالفات مضادة مع فتح الباب أمام احتمالات نشوب تنافس شديد بين الجهتين يؤدي إلى نزف في الطاقات العربية. ثم أن تطور العلاقات بين سورية والعراق سيصطدم، على الأرجح، بردود فعل إسرائيلية، وبمعارضة إسرائيلية - أميركية مشتركة. إن إسرائيل بدأت، منذ أن لاحت ارهاصات التحسن في العلاقات بين بغدادودمشق، تلوح ب"الحرب الاقليمية". ايهود باراك، رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، أعطى أوامره في نهاية العام الماضي إلى القوات المسلحة الإسرائيلية لكي تبدأ مناورات موسعة، وتعد لمثل هذه الحرب. في هذا السياق نفذت السلطات الإسرائيلية خلال شهر كانون الثاني يناير الماضي مناورات واسعة للدفاع المدني للوقاية من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية التي يعتقد الإسرائيليون أنها في حوزة السوريين والعراقيين. المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أثارت ضجة حول ما تردد عن وجود حشود عراقية عسكرية على الحدود السورية. أفرام سنيه، الوزير العمالي في حكومة ارييل شارون، حذر من وقوع حرب "سورية والعراقوإيران" ضد إسرائيل. كل ذلك يصب في خانة الضغط على السوريين والعراقيين كي لا يندفعوا على طريق تطبيع العلاقات بين البلدين. ردود الفعل الأميركية - الإسرائيلية المشتركة كانت موضع بحث مطول في مطلع شهر شباط فبراير بين باراك ودونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي، وتبعتها المناورات المشتركة في صحراء النقب بقصد توجيه انذار إلى السوريين والعراقيين. رد الفعل الأميركي السياسي على التطور في العلاقات بين بغدادودمشق جاء خلال جولة كولن باول الشرق أوسطية. في نهاية المطاف، كان الموضوع الأهم الذي ركز عليه وزير خارجية الولاياتالمتحدة خلال جولته هو عرقلة تصدير النفط العراقي عبر الأراضي السورية. إن واشنطن لا تقيس نتائج انسياب النفط العراقي عبر الأراضي السورية بالمقياس الاقتصادي وحده، ومن زاوية اثره على العراق فحسب، ولكنها تقيسه أيضاً بالمعيار الاستراتيجي الشامل ولاثره على العراق وسورية معاً. إن أنبوب النفط قد لا يؤدي إلى تعميق الاعتماد المتبادل كما أدى انسياب نهر الدانوب إلى تعميق الاعتماد المتبادل بين دول السوق الأوروبية المشتركة، ولكنه من المتوقع أن يساهم في ارساء علاقات أفضل بين دمشقوبغداد. من هنا كان الاعتراض الأميركي القوي على بقائه "خارج مراقبة هيئة الأممالمتحدة"، أي خارج المراقبة الأميركية. فعبر تلك المراقبة يمكن، في الحسابات الأميركية، ضبط تطور العلاقات النفطية فالاستراتيجية بين العراق وسورية وعرقلة نموها إلى مستوى يؤثر على مصالح واشنطن وحليفها الإسرائيلي في المنطقة. إن حجم الصعوبات التي تعترض تطبيع العلاقات السورية - العراقية كبير بأي حساب، ولكنه ليس من النوع الذي لا يمكن التغلب عليه. ويستطيع العراقيون والسوريون التغلب على هذه العقبات أو التقليل من وطأتها على البلدين عبر اتخاذ عدد من الخطوات على الصعيدين الداخلي والاقليمي. تستطيع بغداد توفير مناخ أفضل لتطور العلاقة مع دمشق، إذا عملت على تطوير علاقتها مع سائر الدول العربية من دون استثناء، خصوصاً مع السعودية والكويت. البعض قد يرى استحالة في تحقيق مثل هذا التطور في السياسة العراقية، ولكن ينبغي التذكير هنا بأن بغداد أظهرت مرونة في علاقتها مع الآخرين كما حدث مع إيران التي خاضت معها حرباً لمدة ثماني سنوات، ومع دمشق التي خاضت ضدها حرباً غير معلنة. وإذا أصبح من غير المستغرب الآن الحديث عن تعاون وثيق بين سورية والعراقوإيران في وجه التصلب الإسرائيلي، فإنه ينبغي عدم استبعاد حدوث تقدم على محور علاقات بغداد مع الرياض والكويت. إن مثل هذه التحولات ستخفف من وطأة التدخل الأميركي في العلاقات العربية - العربية، وتحد من فاعلية العراقيل التي تضعها واشنطن أمام إعادة ترميم النظام الاقليمي العربي. كذلك، فإن الانفتاح الداخلي في كل من دمشقوبغداد سيساعدهما على تطوير العلاقة بينهما. إن موقف الحكام تجاه الجماعات السياسية وتجاه المواطنين يعتبر مؤشراً مهماً على مجمل سياستهم. الحكومات التي تسير على طريق الانفتاح الداخلي تعطي اشارات قوية إلى الحكومات الأخرى بأنها على استعداد لتقديم التنازلات الضرورية التي تقتضيها الاعتبارات السياسية. أما الحكومات التي تتصلب في الداخل ويتسم النظام الذي تقيمه بالمركزية الشديدة توحي، مهما كانت نوايا مسؤوليها، بصعوبة تنازلها أمام الحكومات الأخرى. من هذه الزاوية، فإن تقديم التنازلات في الداخل يقدم مؤشراً قوياً على الاستعداد لتقديم التنازل في الخارج، وبهذا المعيار فإن الانفتاح الداخلي في بغدادودمشق سيخلق مناخاً أفضل للتعاون بين بلدين كان التعاون بينهما في التاريخ القديم والحديث مناط آمال عربية كثيرة. لقد سارت دمشق خطوات على طريق الانفتاح هذا، فإذا اكملت السير عليه، وإذا لحقتها بغداد، يمكن توقع التحسن في أوضاع البلدين وتطور في العلاقة بينهما وانفراجاً في الأوضاع العربية العامة. * كاتب وباحث لبناني.