تكمن إحدى مفارقات العلاقة ما بين دمشق ومجلس الحكم الانتقالي العراقي، في أنها قد اتخذت موقفاً سلبياً يصل إلى درجة العدائية من مجلس الحكم، ما لبث ان قارب الايجابية منذ اسبوع على الأقل، علماً ان دمشق تربطها علاقات تاريخية بثمانية عشر عضواً من أعضائه الخمس والعشرين، الذين اتخذوا على مدى ثلاثين عاماً من العاصمة السورية نوعاً من إقليمٍ - قاعدة في نشاطاتهم المختلفة ضد النظام العراقي. ولقد تمكنت دمشق بفضل هذه العلاقة الوثيقة التي تتأسس تاريخياً على حقيقة أن كلاً من دمشق وبغداد قد شكلتا إقليماً - قاعدة لمعارضة كلٍ منهما على مدى خمسين عاماً ونيفٍ على الأقل، من أن تشكل أحد أبرز اللاعبين في المسرح السياسي العراقي، وهو ما تجلى باعتراف واشنطن بهذا الدور في محاولتها في عام 1986 تغيير النظام العراقي من طريق دعم إيران لإلحاق هزيمةٍ عسكريةٍ بالجيش العراقي في منطقة الفاو، ودفع الجيش للانقلاب على صدام، والتخلص منه وليس من نظامه، وتشكيل حكومةٍ عراقيةٍ جديدة يكون لسورية دور أساسي فيها، رفض الدكتور خير الدين حسيب أن يكون رئيساً لها. جاء موقف سورية من حرب الخليج الثانية التي نتجت من الغزو العراقي للكويت وضمه لها، ليكرّس اعتراف واشنطن بالدور السوري في مجالها الإقليمي الجيو-سياسي، وتحديداً في كلٍ من لبنانوالعراق، وتعهد واشنطن بالضغط على إسرائيل في ما سيسمى بعملية مدريد للسلام، لإعادة الجولان السوري المحتل حتى آخر إنشٍ فيه إلى سورية، والتي شكلت نقطة البيكار في كل السياسات البراغماتية السورية. ولقد حرصت دمشق في إطار هذه العلاقة البراغماتية أن تواجه الدعوات المرتفعة في البنتاغون لوضعها بعد هجمات الحادي عشر من أيلول سبتمبر في محور دول الشر، على تعزيز العلاقة مع واشنطن، عبر التعاون الأمني الفعال ما بين أجهزتها الاستخبارية والأجهزة الاستخبارية الأميركية والبريطانية في شكلٍ خاص، غير أن هذه العلاقة البراغماتية القائمة على تبادل المصالح تعرضت إلى أخطر تصدعاتها إثر وضع واشنطنالعراق على لائحة الهدف الثاني بعد أفغانستان، وقيامها باحتلاله. إذ عاقبت واشنطن سورية بسحب اعترافها بالدور الإقليمي السوري، وإشهار البطاقة الحمراء في وجهها. يكمن جوهر هذا التغير، في تغيير واشنطن بعد احتلال العراق، لاستراتيجيتها في المنطقة من استراتيجية إدارتها إلى استراتيجية قيادتها، وطرح مشروع إعادة تنظيمها على أساسٍ جديدٍ ينسجم مع مصالح الأمن القومي الامبراطوري الأميركي. ولقد لعب الموقف السوري المقاوم بشتى الأشكال الممكنة لعملية الاحتلال دوراً حاسماً، في إعادة التعريف الأميركي لسورية، ووضعت عملية إعادة التعريف هذه كل قضايا الخلاف المزمنة والراهنة على الطاولة في شكلٍ مكشوف، وصولاً إلى وضع تغيير النظام السوري في صلب الأهداف الاستراتيجية النهائية التي عبر خطاب الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش أمام الوقفية القومية للديموقراطية في واشنطن. ومن هنا يجب قراءة سياسة الإدارة الأميركية من سورية ليس في ضوء الحركة اليومية لسياسات الإدارة بل في ضوء تلك الأهداف، ومدى تقدير الإدارة لأوانها، وأشكال تنفيذها التي لا يفترض فيها بالضرورة تكرار السيناريو العراقي. وفي هذا السياق فإن سياسة واشنطن لا تقوم على إعادة الاعتبار للدور السوري في المجال الإقليمي أو في مجال عملية السلام بقدر ما تقوم على تطويقه ومحاولة عزله، بهدف إرغام سورية على الانغماس الإيجابي في أجندة السرير الاستراتيجي الأميركي، حتى وإن تناقض ذلك مع ما تعتبره سورية من ثوابت فرضياتها ومصالحها الاستراتيجية الوطنية والإقليمية كدولة. وبلغة الأميركيين فإن ما هو مطلوب من سورية هو أن تعود إلى وضعية الدولة "العادية"، أي فعلياً إلى وضعية الدولة - الوظيفة وليس وضعية دولة سياسات إقليمية في لبنانوفلسطينوالعراق. فزمن واشنطن في المنطقة هو زمن قيادتها وليس إدارتها. يمكن فهم إشهار واشنطن للبطاقة الحمراء في وجه دمشق إزاء أي محاولة للتدخل في العراق، أو البقاء طويلاً في لبنان، أو التدخل في فلسطين، على أنه يقع في سياسة تحويلها إلى دولة "عادية". لكن شطب الدور الإقليمي السوري ليس عمليةً بسيطة تتوقف على مجرد قرار واشنطن، بل على كيفية استجابة دمشق له. ولم تكن مبادرة دمشق لتصدر اجتماع دول الجوار العراقي، سوى محاولة تذكير لواشنطن بمكانتها الإقليمية التي لا تستطيع سياسات الاحتواء الأميركية أن تنتزعها بيسر منها. إن سياسة دمشقالعراقية بعد الاحتلال تعكس إلى حدٍ كبيرٍ هذه المحاولة، إذ ينطلق التصور السوري كما تعبر عنه حركة وزارة الخارجية، من أنه ليس صحيحاً أن دمشق هي "الخاسر الاستراتيجي" الأكبر من عملية الاحتلال، بل يمكن أن تكون الرابح الأكبر على المستوى البعيد. وهو ما يفسر تكرار التأكيد السوري بأن سورية تنظر إلى دورها في العراق في إطار سياسة طويلة الأمد. فتنفرد عن سائر دول الجوار بالعلاقة التاريخية التشابكية سياسياً وبشرياً واقتصادياً، مع مختلف مكوّنات الاجتماع العراقي الثقافية والاثنية والسياسية. ويمكن لها أن ترى أن واشنطن تحتاج إلى دورها في العراق أكثر مما تحتاج دمشق إليه. يفسر ذلك عدم اكتراث دمشق بالتحذيرات الأميركية العلنية أو غير العلنية من مغبة تدخلها في العراق، بقدر ما أن واشنطن تنظر في هذه المرحلة إلى السياسة السورية ببناء علاقات واتصالاتٍ وثيقة مع مختلف التكوينات الاثنية والسياسية العراقية، على أنه لن يترجم بالاعتراف بدور عراقيٍ لها. ومن يراقب مجريات هذه السياسة يلحظ بوضوح أن دمشق إلى جانب علاقتها الاقتصادية المتنامية مع العراق، لم تكتف بعلاقتها التقليدية مع معظم أعضاء مجلس الحكم الانتقالي، بل حاولت تطوير اتصالاتها وعلاقاتها مع مجمل التكوينات الاثنية والسياسية المعارضة للمجلس ولقوات الاحتلال على حد سواء، في شكلٍ يكون لها نفوذ في أي عملية توسيع محتملة لعضوية المجلس أو احتمال تشكل حكم ذاتي عراقي انتقالي أو على المستوى البعيد في إطار ما بعد خروج الأميركيين. في مجال العلاقة مع مجلس الحكم الانتقالي وحكومته، ظلت دمشق متمسكة بموقف الاعتراف به من نوع اعتراف الأمر الواقع DeFacto وليس الاعتراف القانوني من نوع اعتراف DeJure، وخلقت المشكلة معه في اجتماع دول الجوار على أساس أنها موجهة ضد الأميركيين وليس ضده، على طريقة "الكلام لك يا كنة واسمعي ياجارة". ولقد كانت الهزة الوحيدة هنا هي الهزة مع جلال الطالباني الرئيس الدوري لمجلس الحكم يومئذ وزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي قرأ بطريقةٍ خاطئة حدود الخلاف التقليدي ما بين نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام ووزير الخارجية فاروق الشرع، ووتّر العلاقة مع وزير الخارجية السوري في شكلٍ يصب في حساباتٍ عدة أميركية وشخصية سياسية، يعتبر حساب المجلس من أضعفها، وفي عداد ذلك تنامي قناعة الطالباني بتفضيل دمشق العلاقة مع خصمه الكردي التقليدي البارزاني زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني على العلاقة معه، وحرص دمشق على إبراز البارزاني مقابل تهميشه. فحين زار الطالباني آخر مرة دمشق استقبل من قبل الرئيس ونائبه والأمين العام المساعد لحزب البعث، غير أنه لم ينشر أي خبرٍ رسميٍ عن هذه اللقاءات، بل إن زيارة الطالباني لضريح الرئيس حافظ الأسد التي ربما أمل منها الاهتمام به، لم تلق أي اهتمام. ولقد كانت حسابات الطالباني خاطئة إذ سحبت دمشق فعلياً أو جمّدت دعوة نائب الرئيس له، من دون أن ينفي ذلك قدرة دمشق على الالتفاف لاحقاً على المشكلة مع الطالباني، الذي هو في تنافس مع البارزاني حول المكانة في دمشق. وفي مجال العلاقة مع التكوينات المعارضة لمجلس الحكم وللاحتلال، انفردت دمشق عن سائر دول الجوار بعلاقتها العلنية معها، ودعمها المعنوي، من مجلس عشائر وقوى سياسية أخرى، وحاولت أن تعطي لهم في اجتماع دول الجوار من الناحية الفعلية المكانة التي افترض بمجلس الحكم أن ينالها، حيث حضروا كنوع من ممثلي الظل، كما أن موقفها السياسي الرسمي من عمليات المقاومة يصورها تحبيذياً كعمليات مقاومة وطنية مشروعة ضد الاحتلال، لكن من دون "التورط" العملي بدعمها بقدر ما أن دمشق تمكنت من بناء جسر علاقات مع المجال الشيعي السياسي الجديد المتكون، حيث يلعب حزب الله هنا دوراً مفتاحياً في تنسيق العلاقة، فضلاً عن العلاقة التاريخية مع كلٍ من حزب الدعوة المتشظي في الواقع إلى تنظيمات عدة يجمع بينها التيار الدعوي والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي تنامت العلاقة التاريخية معه. كل ذلك يشير إلى أن دمشق تحاول بناء مواقع نفوذ لها، تتسق مع الطرح الدولي والإقليمي في استراتيجية تعجيل خروج الأميركيين، ونقل السلطة إلى حكومة منتخبة. ويمكن للبراغماتية السورية أن تضع هذا النفوذ في خدمة استراتيجية خروج الأميركيين، على أنه من قبيل مساعدتهم على الخروج من المستنقع، والاعتراف بآلية إقليمية لدول الجوار في حل المشكلات الناتجة من الاحتلال، ومن هنا فإن الموقف السوري يتغذى تلقائياً من مزيد من "تبهدل" الأميركيين في العراق، بقدر ما يحتمل ذلك في إطار حزمة البطاقة الحمراء المشهرة في وجه دمشق تشديد الضغط الأميركي عليها، الذي يبدو أنه قد دخل في ملفه في الجلسات المغلقة بين المندوبين الأميركيين الرسميين والسوريين، قضية اتهام سورية بتهريب أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة، كمحاولة لتبرير عدم العثور عليها، والتي تم الاحتلال بذريعتها أمام الرأي العام الأميركي والدولي. يتوقف مستقبل هذا التوتير في المنظور القريب أي خلال ولاية الرئيس بوش واحتمال فوزه بولاية ثانية، على عنصرين أميركي وسوري، ويأتي في طليعة العنصر الأميركي مدى قدرة صقور البنتاغون ومكتب نائب الرئيس تشيني في مزيد من انتزاع الملف السوري من يد باول ووكالة الاستخبارات الأميركية التي دخلت في خلافٍ "ضارٍ" مع البنتاغون حول برنامج التسلح السوري، إذ أن هؤلاء سيعارضون أي دورٍ سوريٍ ليس في العراق وحسب بل في المنطقة، وهم عموماً من هواة منظر الصواريخ الجوالة تضيء سماء دمشق. في حين يأتي في طليعة العنصر السوري مستقبل الاتجاه الذي يتكون في سورية بطرقٍ مواربة غير معلنة ويمكننا تسميته باتجاه "سورية أولاً" أي اتجاه تحول سورية إلى دولة عادية، في حين أن مدرسة وزارة الخارجية تقوم على رؤية أولوية المصالح السورية، وعنصرها المركزي في استعادة الجولان المحتل، في إطار الحفاظ على الدور الإقليمي النشط، في ظل تعطل عملية السلام. إن الدور السوري المتنامي في العراق خلافاً ل"إنذارات" الأميركيين بعدم التدخل في الشأن العراقي يقوم هنا على محاولة فرض نفسه، وإمكان استخدامه ورقةً براغماتيةً أو "جزرةً" مغريةً لواشنطن في شكلٍ براغماتيٍ أيضاً في تخفيف الضغط على دمشق، وتحول واشنطن من استراتيجية شطب الدور السوري إلى الاعتراف به في عملية بناء النظام الشرق أوسطي البديل عن النظام الراهن، غير أنه يحتمل أيضاً سيناريو تشديد الضغط، في إطار الهدف الاستراتيجي الأميركي الذي عبر عنه خطاب بوش بتغيير نظاميْ دمشق وطهران. إن تنامي "النفوذ" السوري في العراق هو مفترق طرق في مستقبل الدور الإقليمي السوري. تكمن إحدى مفارقات العلاقة المعقدة بين دمشقوواشنطن، أنه في الوقت الذي وصلت فيه العلاقة الأمنية الفعّالة بينهما في ميدان تفكيك شبكة القاعدة إلى أعلى مستوياتها، فإن العلاقة السياسية تردت إلى مستوى غير مسبوق في تاريخها منذ ثلاثين عاماً ونيف على الأقل. ولقد شكلت سياسة دمشقالعراقية قبل احتلال العراق وبعده أحد أبرز عوامل تردي العلاقة السياسية بينهما، الذي وصل إلى درجة إشهار واشنطن البطاقة الحمراء في وجهها، والتهديد ب"احتوائها" أي تطويقها ومحاولة عزلها إقليمياً. * كاتب سوري