يتأرجح الوضع الاقليمي بين أقصى الحدين في هذه المرحلة. حد التفاوض لمعالجة الأزمات الكبرى التي يرزح تحتها منذ عقد من الزمن، من أفغانستان مروراً بالعراق وفلسطين وانتهاء بلبنان وسورية، وحدّ استمرار الصدام وتصعيد المواجهات، التي أدناها الحروب بالواسطة أو ما يسمى الحروب البديلة للمواجهات الشاملة، نتيجة فشل فرص التفاوض التي أُطلقت مساراتها بانفتاح ادارة الرئيس باراك أوباما على ايران وسورية وباعتمادها لهجة توحي بمغادرة سياسة التماهي الكامل من قبل واشنطن مع السياسة الاسرائيلية إزاء القضية الفلسطينية. وهو التماهي الذي أنتج ويلات وحروباً واخفاقات أميركية، لا بد من أن يكون بعض المحيطين بأوباما قد استنتجوا أن مسايرتهم للجموح العنصري الاسرائيلي هي التي قادتهم اليها. وبعيداً من التوهم بأن الادارة الأميركية قررت أخذ مسافة فعلية من اسرائيل الحليفة، لا بد من تسجيل واقع يقر بأن الشعور بمدى الضرر الناتج عن التماهي مع اسرائيل دفع الأميركيين الى البحث عن صيغة ما لدفع اسرائيل الى وقف جموحها نحو الحروب التي تأخذ حليفها الرئيسي اليها معها. فأن يشهد مؤتمر «إيباك» حملة من ناشطين يهود أميركيين يتظاهرون داعين قادة الدولة العبرية الى «تحرير غزة» ووقف فظاعاتهم ضد الشعب الفلسطيني، ليس مسألة تفصيلية ومجرد لحظة عابرة. ولعل هذا يرمز الى أن التغيير في مقاربة أزمة المنطقة في واشنطن يستند الى التغيير في توجهات المجتمع الأميركي وحتى في اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة. وهو ما يدفع قادة اسرائيل المتطرفين الحاليين الى استباق الأمر بمطالبة مؤيديها في الكونغرس بالتدخل لدى أوباما من أجل عدم الذهاب الى النهاية في الضغط عليها في عملية السلام مع الفلسطينيين. فأكثر ما أقلق المجموعة الحاكمة المتطرفة في اسرائيل هو تكليف واشنطن الشخصيتين الأكثر قرباً من الدولة العبرية، نائب الرئيس جوزف بايدن ورئيس موظفي البيت الأبيض رام عمانوئيل، مطالبة اسرائيل أمام مؤتمر «إيباك» بوقف المستوطنات والقبول بحل الدولتين... وإبلاغها بأنها والفلسطينيين، «أمام لحظة الحقيقة». يتلخص السجال الأميركي - الاسرائيلي بالمعادلة التي اتفقت أميركا وأوروبا على اقناع اسرائيل بها: من أجل مواجهة الحظر النووي الايراني لا بد لإسرائيل من أن تساعد في اقفال الملف الفلسطيني والتقدم الجدي في عملية السلام العربي - الاسرائيلي، وإذا كانت اسرائيل أمام لحظة الحقيقة فتتخذ قراراً بأي منهما هو الأكثر خطورة عليها، فتسعى الى حل في الثاني للتفرغ للأول، فإن الادارة الأميركية هي الأخرى أمام «لحظة الحقيقة» في مدى قدرتها على حمل اسرائيل على الذهاب نحو حل الدولتين. لكن المفارقة تكمن في أنه مثلما يفترض عدم التوهم كثيراً بالموقف الأميركي، فإن التأرجح الحاصل في المنطقة بين حدّي التفاوض والمواجهة يفترض ألا يدفع أياً كان الى التوهم بأن مسار الممانعة والمواجهة هو الذي يتحكم بسياسات المحاور الاقليمية لا سيما التحالف الايراني - السوري. فتحت ستار توقع الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد وصول «النظام العالمي الى نهايته» كما قال قبل يومين في دمشق تجري مفاوضات قد تطول أو تقصر، بين واشنطنوطهران، وبين الأخيرة والادارة الأميركية. ومثلما احتاج الأمر الى ارسال وزير الدفاع الأميركي بيل غيتس من أجل طمأنة مصر والمملكة العربية السعودية الى أن الحوار مع ايران لن يكون على حساب الاصدقاء العرب، فإن طهرانودمشق في حاجة بين الفينة والأخرى الى طمأنة بعضهما بعضاً الى المدى الذي قد تذهب اليه كل منهما في التفاوض مع واشنطن، والى التنسيق بين مساري التفاوض. وهذا كان أحد وظائف القمة الايرانية - السورية الأخيرة، اضافة الى ترتيب «أوراق» حد المواجهة والتي هي في الوقت نفسه أوراق المفاوضة. ففي كل الأحوال، حين يطول التأرجح بين حدّي التفاوض والمواجهة، تنتج تفاهمات بين الدول المعنية وتفتح مسارات واتفاقات حول جزء من مواضيع التفاوض، مثل التوافق على خطوات في أفغانستان (بين ايران وأميركا)، وعلى تقدم السلام السوري - الاسرائيلي بالنسبة الى دمشق. بين الحدين لا مصلحة للفرقاء الصغار في التصعيد، كما لو أنهم ما زالوا في مرحلة «الحروب البديلة». واذا كانت مرت ذكرى احداها بالأمس في 7 أيار (مايو)، فإن لا مصلحة ل «حزب الله» في أن يعتمد الآن لغة التخوين التي اعتمدها تمهيداً لخوضها.