تحنو نفوس شفيقة ومجربة كثيرة على بعض السذج القلائل الذين يزعمون ان سقوط نظام صدام حسين، وعشيرته وحمولته وفخذه وسلفه على حسب إحصائه، بواسطة قوات اميركية وبريطانية، ليس كارثة تحل في الشعب العراقي. وقد يكون سقوطه، على هذا النحو ومن غير ان يرتسم نحو آخر غير "مع الأمين صدام الى الأبد"، باباً "ضيقاً"، شأن باب الإنجيل، يدخل منه العراقيون حياة اكثر يسراً وإنسانية. وترد النفوس الشفيقة والمجربة على اوهام "الديموقراطية على أجنحة الصواريخ" - على قول الديموقراطي العريق والمجرب ايغور إيفانوف وزير خارجية رجل المخابرات السوفياتية السابق في ألمانيا "الديموقراطية" للصدفة فلاديمير بوتين المترئس على الاتحاد الروسي بثلثي اصوات المقترعين الروس وليس بأقل من النصف شأن، المتعصب الجامح والانقلابي جورج دبليو - بالسوابق الأميركية في تشيلي 1973 وغواتيمالا 1953 وإيران 1952 - 1953 وأفغانستان نفسها في 1996؟ ام في 2001؟ والحق ان الحجة لا تخلو من طرافة سوداء و"يسارية" والطرافة قلما تتماشى مع الجد اليساري المقطب. فأصحاب المقارنة، المصريون والسوريون والمغربيون والعراقيون والفلسطينيون واللبنانيون، لا يرون حرجاً في تشبيه صاحبهم اليوم، صدام حسين و"نظامه" او فوضاه المدمرة، بسلفادور أليندي، التشيلي، والرئيس الاشتراكي الذي رأس انتخابات رئاسية فاز فيها على خصم ديموقراطي مسيحي بأقل من 380 في المئة من اصوات المقترعين، ولم توكل إليه غير القيام بتغييرات اجتماعية جزئية، من غير تعديل دستوري، وانقسم حزبه وأنصاره على سعي سياسته في الجمع بين التشريع البرلماني وبين ترك الغارب لمبادرات قاعدية تحركها منظمات غيفارية مناوئة للهيئة النيابية برمتها. فعلى هذا يقارن اصحاب المقارنة الرائجة، والمستقوية ببداهتها، بين ديموقراطي واشتراكي وأليندي لم يكن اشتراكياً الى حين انتخابه رئيساً وربما الى الأشهر الأخيرة من ولايته المقصوفة، حقيقي وسوي، سياسةً وإنسيةً، لم يخرج يوماً عن سنن العمل السياسي المتعارفة والمجمع عليها في الدولة والمجتمع التشيليين، وأراد علناً وجهراً ان تقتصر مجابهته انقلاب القيادة العسكرية المحافظة، والأميركية الهوى في قلب الحرب الباردة، عليه هو فصرف حرسه الأقربين ورفاقه - يقارنون بين من هذا شأنه، وبين رجل ترويع وقتل محترف، الاغتيال والتصفية والحظوة والتبديد والحروب المتهورة "اختصاصاته" البارزة. وما يصح في أليندي يصح بعضه في السياسي الإيراني، الدكتور محمد مصدق. فالسياسي السبعيني المولود في 1882 كان بعضاً من الطبقة الحاكمة الإيرانية. وتقييده سلطات الشاه، في أواخر 1952، عمد إليه بعد عودته الى الحكم مرة ثانية، وتكليف الشاه إياه رئاسة الحكومة، استجابةً لتأييد شعبي وبرلماني عريض. ولم يحظ قراره اقتسام النفط مع الشركات، من غير مفاوضة، بموافقة محكمة لاهاي الدولية، في تموز يوليو 1951. فرفض حكم المحكمة واستقال. وعاد عليه قرار الاقتسام ورفض التحكيم الدولي بشعبية كبيرة، من وجه. ولكن عاد على الإيرانيين، من وجه ثانٍ، بكساد اقتصادي جراء إحجام الشركات عن التسويق وعجز الاتحاد السوفياتي عن الشراء بأسعار السوق، وبأزمة سياسية داخلية، تطاولت الى علاقة الشاه بالبرلمان والناخبين، وإقليمية، تناولت العلاقات الإيرانية السوفياتية، والعلاقات الإيرانية الغربية تالياً. وعندما أقال الشاه محمد رضا بهلوي، العائد بمساندة اميركية، رئيس وزرائه الوطني والمسالم، احاله على محكمة قاضته علناً، وقضت بسجنه ثلاثة اعوام قضاها في اقامة جبرية. وتوفي احد عشر عاماً بعد رفع الإقامة الجبرية، وجهاً تاريخياً اسطورياً، على خلاف خلفائه الذين استعان بهم روح الله خميني في اوائل عهده قبل ان يرمي بهم في السجون، ويسلط عليهم صحافته وتلفزته وخطباء المساجد وباسيجه العادلين والذواقة. وبعض اصحاب مصدق قتل في عهد الإصلاحي محمد خاتمي. وبعضهم الآخر معتقل ومتهم. تشبيهات متعسفة وليس بين مصدق وبين المستولي على حكم العراق بالإكراه والغصب، وناهب ثرواته ومقسمها بين اولاده وأصهاره السابقين، قبل قتلهم ومحظييه، وجه قرب أو شبه. وتأميم العشيرة الحاكمة النفط، في 1972، والسطو على عائداته، وصرف القسط الأعظم منها على اجهزة امنية وعسكرية وتقنية حسبها بعض رفاق صدام حسين و"زملائه" إعداداً علمياً رفيعاً يريد الأميركيون القضاء عليه خوفاً منه الغاية منها بسط سيطرة العشيرة على العراقيين، وتطويعهم وسوسهم في سبيل "المهابة" المارشالية والمجد الصداميين، ليس بينه وبين سعي مصدق في زيادة عائدات ايران، دولة وأمة، من طريق تسويق حر، مقارنة او مقايسة. والوطنية المصدقية بينها وبين القومية الصدامية هوة من غير قرار. فلم يزعم مصدق تجسيد ايران في شخصه، ولم يرد ايقاظ الأهومة والأوهام الامبراطورية والأسطورية، على خلاف الشاه ومن خلعوه وخلفوه، ولم يملك شيئاً غير ما ورث ولم يورث شيئاً. وأما حمل صدام حسين، وابنه قصي قائد الحرس الجمهوري وابنه عدي قائد "فدائيي صدام وابن عمه علي حسن المجيد "الكيماوي"، وسلطان هاشم احمد "البيولوجي" على هوشي منه، الفيتنامي، ونغويين فان جياب، قائده العسكري وصاحب موقعة ديان بيان فو 1954 في القوات الفرنسية والحرب على الأميركيين ثم فاتح سايغون، عاصمة الجنوب في 1975، وقاهرها والحق يقال وهذا شأن غير الذي نحن فيه، فتطاول وافتئات لا يخلوان من البذاءة والازدراء الفاضحين. وينبغي ألا يستوقف مثل هذا الحمل القولَ. وهو لا يدعو الى الرد والاحتجاج، إلا على سبيل الاستعراض والمرور مرور الكرام. وينسب اصحاب النفوس الحانية والشفيقة والمجربة اوغوستو بينوشيه، رئيس اركان الجيش التشيلي المنقلب على أليندي، ومحمد رضا بهلوي، شاه إيران وصاحب "محنة" محمد مصدق، ونغويين خانه الضابط الفيتنامي الجنوبي المنقلب في 1964، على الرئيس الجنوبي ونغويين فان ثيو خليفة السابق وحليف الولاياتالمتحدة من 1965 الى 1975 ونائبه نغويين كاوكي - ينسبون هؤلاء، وكثرة من ضباط الانقلابات، الى السياسة الأميركية. ويقيسون خلفاء صدام حسين المحتملين على هؤلاء. ولا تستقيم النسبة ولا يستقيم القياس، ولا يتماسكان. فليس بينوشيه "وليد" السياسة الأميركية، ولا ربيبها، ولا عميلها على وجه الدقة. فهو وليد المنازعات السياسية والاجتماعية التشيلية اولاً. ولم تبتدع السياسة الأميركية الانقلابات العسكرية في بلدان اميركا اللاتينية حيث تسلط الأسياد المتحدرون، على زعمهم، من الفاتحين والأشراف الإسبان وملاكي الأراضي الشاسعة، على "رقيق" الأرض المعدمين من الهنود والسود والخلاسيين وفقراء المهاجرين الآسيويين. وتوارثت "الطبقتان"، الى وقت لا يعدو "نيفاً" وعقدين، سياسة تترجح بين قطبي الاستباحة القاهرة والانتفاض البدائي. وهذه الحال لا تعذر الميل الأميركي الى ديكتاتور قتل 1300 تشيلي، طوال عهد عرفي دام ستة عشر عاماً، وسجن وعذّب ونفى الآلاف - وتخلى عن الحكم بإيحاء اميركي، فخلفه ديموقراطي مسيحي ثم اشتراكي، وتعقبه القضاء الى وقت قريب -. ولكن إغفالَ ملابسة الديكتاتورية الأحوال التشيلية العامة، وصدور وجوه منها عن هذه الأحوال، تعبئة ودعاوة. وهاتان، بدورهما، تخطئان هدفهما، إذا جرت المقارنة بين صدام حسين وبين بينوشيه وليس بين الأول بين الرئيس المنتخب سلفادور أليندي. فبينوشيه، المنقلب بالقوة على شرعية شعبية وانتخابية، والشديد المحافظة، والنازع الى سوس المجتمع على مثال شبه فاشي من طريق منظمات جماهيرية مسيرة وحلف مضمر مع كنيسة كاثوليكية ساكتة، ولكن من غير قومية وعسكري، بينوشيه هذا لم يستأصل الأبنية الاجتماعية والسياسية التشيلية، ولم ينتصب الحاكم والسجان والمحرر معاً، وصاحب تشيلي ببشرها وحجرها. فلم يحتج المجتمع التشيلي، لينبعث حراً وطليقاً وفاعلاً، إلا لتقييد سلطة قائد الأركان وولاياته الرئاسية المتناسلة على مثال القيادات القومية والتقدمية المعروفة. ولم تكن خاتمة الشاهنشاهية الإيرانية والرئاسة العسكرية الفيتنامية على المثال التشيلي وقبله الأرجنتيني والبرازيلي والدومينيكاني، وبعده البوليفي...، بل كانتا، ولا تزالان، اشد قسوة بما لا يقاس. فالثورة الإيرانية افضت الى الحرب العراقية - الإيرانية، وإلى مقابرها المترامية، وأنهر دمائها، وحقول أشلائها. وأفضت الى عراق صدام حسين، وسجنه الكبير، وعدوانه الداخلي والخارجي، وتقويضه مجتمع العراقيين وسلبه موارده، وإلى ايران روح الله خميني، وانكفائها الخانق، واستبدادها البائد، وامتيازات طبقتها الحاكمة، وفقرها وذوائها المطردين. وتحجرت فيتنام هوشي منه على مجتمع حربي لم يتخفف، في اعقاب اربعة قرون، من وطأة مثال ضيق وآسر، على رغم التغيرات التي عصفت بجنوب شرقي آسيا. وحين عزم النظام الشيوعي على فتح نافذة على آسيا هذه، انضم الى "آسيان"، رابطة الأمن الإقليمي "الأميركية"، احتماء من الجار الصيني وأطماعه. فينتاب الساذج الذي يحنو عليه المشفقون والمجربون ان هؤلاء، ورثة "تقدمية" الستينات السوفياتية وقوميتها العربية و"إسلامية" الثلاثينات الباكستانية والخمسينات الكشميرية، ينتابه احساس بأن المشفقين المتسترين ببينوشيه والشاه وثيو يتعمدون ألا يروا ما صنعت يد اولياء احكامهم، وبعضهم يتربع الى اليوم في رأس سلطات ينعتها بعضهم آسفاً، بالديكتاتورية. فلم تعصم "وطنية" الرأس والقيادة البلدان التي تسلط الرأس الوطني عليها من مرض من الأمراض التي تنسب الى "امبريالية" صنع لينين وستالين صورتها، وأبدلاها ب"نعيمهما" السوفياتي. فلا الاستبداد، ولا الاستئثار، ولا الاستنقاع، ولا الفساد، ولا الفرق الهائل بين الحكام والمحكومين، ولا الأفق المظلم، ولا اليأس والقرف، بخل بها الرأس الوطني والقومي على "مواطنيه" المفترضين المزعومين. وعندما يجري الكلام على التعصب، والعنصرية، والمصالح، والفساد، وغطرسة القوة، والأساطير، فينبغي ألا ينحرف القياس والمقارنة. فماذا عن بابراك كارمل الأفغاني؟ وماذا عن منفستو هايلي مريم؟ وماذا عن عيدي أمين؟ * كاتب لبناني.