صعب على نفسي ان اعترف بالتشفي والسرور إذا حلت بأحد مصيبة، فما بالك ان كانت هذه المصيبة قد حلت برجل طاعن في السن يناهز الثانية والثمانين من العمر؟ فتلك صعوبة اكبر إنسانياً ونفسياً، ولكن لم أستطع التخلص من شعور بشيء من التشفي عندما أعلن خبر القبض على بينوشيه وهو راقد في سرير المرض ينتظر جراحة معقدة تجرى له في الظهر وهو خارج بلده. وقد يكون تسرعاً ايضاً ان اعترف بأني غير مكترث كثيراً بما يردده أنصار هذا الرجل العجوز المريض، من ان عملية القبض عليه خارج بلده التي كان رئيساً فظاً لها، يعد انتهاكا لقواعد الحصانة المتعارف عليها دوليا، ويعد كذلك إهانة للبلد الذي كان يرأسه هذا الرجل العجوز المريض الآن. قد يكون كل ذلك غريباً وغير منطقي اذا أخذنا في الاعتبار كبر سن الرجل ومرضه وحصانته الديبلوماسية المفترضة، ولكن تلك النظرة هي نصف الحقيقة، وبمعزل عن النصف الآخر، وهي ان هذا الرجل قاتل سفاح، وديكتاتور وحشي، تساوى لديه الإنسان في بلده بالذباب أو اقل، لذا فإن حصانته المزعومة لا تتيح له ولا لغيره التنصل من تلك المذابح، وحتى كبر السن هنا ليس حجة. فالمذابح لا تتقادم والدماء لا تجف رغم مرور السنين. تحت قوة السلاح وبمعزل عن أي قانون في بلده وفي عالم البشر قام هذا السفاح بارتكاب اكبر الجرائم في حق الإنسانية ولا تزال اعداد الذين ذبحوا والذين فقدوا والذين تيتموا بلا حصر، وعندما نعرف ذلك يكون غريباً حقاً ان نترك الرجل رغم سنه طليقاً من غير عقاب على ما اقترف، حتى لو كان مريضاً على سرير الآلام. الرجل المريض العجوز والرئيس السابق الديكتاتور الوحشي الذي أعلن عن توقيفه أخيراً هو الجنرال اوغوستو بينوشيه رئيس تشيلي الاسبق الذي حكم في الفترة من عام 1973 وحتى عام 1990. وهي فترة أليمة في حياة الشعب التشيلي، وحياة البشر جميعاً، خصوصاً حياة البشر في البلدان التي حكمها ولا يزال يحكمها نظام على رأسه ديكتاتور مثل بينوشيه، وهذه البلدان لا تزال شعوبها تعاني مع الأسف من مثل الوباء السياسي لبينوشيه. في ايلول سبتمبر سنة 1973 وصل الجنرال اوغوستو بينوشيه الى قمة السلطة في بلاده تشيلي، عبر انقلاب عسكري دموي أطاح فيه حكم الرئيس المنتخب ديموقراطياً، وهو سلفادور الليندي. كان ذلك في قمة الحرب الباردة، ورغم ان الليندي كان شيوعياً ملتزماً، وكان الخوف من الشيوعية هاجساً مرضياً في السياسات الغربية، وقد ساعدت على القيام بمجموعة من الانقلابات ضد من كان له مثل هذا التوجه في بلدان آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية. ورغم ان الليندي كان منتخباً من الشعب التشيلي، فإن شركات النحاس والموز وخلفها أصابع المخابرات المركزية الاميركية لم يمنعها ذلك من تدبير واحد من أكبر انقلابات القرن العشرين، إلا أن ما قام به الانقلاب العسكري من مذابح دموية فاق حدود الصراع السياسي والحرب الباردة، وبدا كأن القتل الجماعي مطلب لذاته، فلم يقتل الرئيس المنتخب في ذلك الانقلاب ولا مؤيدوه وحدهم، بل اغرقت تشيلي من أقصاها الى أقصاها بحمام من الدم المتفجر، وذاكرة الأدب التشيلي الذي لا يزال يتذكر تلك المذابح، تركت لنا وللإنسانية صوراً قلمية غارقة في الدماء لا يمكن ان تتجاوزها الذاكرة الإنسانية او تنساها. إنها صور تذكر لنا طوابير العراة من الجنسين الذين اعدموا رمياً بالرصاص على أيدي العسكريين اتباع بينوشيه، ان المحصودين بالطلقات في الاستاد الرياضي الكبير في سنتياغو لم تصل صيحاتهم لأحد ولم تهز ضمائر مطلقي الرصاص، فلأنهم ان لم يفعلوا ويقوموا بالقتل فسيلاقوا مصير ضحاياهم، لقد اختفت الى حين آثار كل أولئك القتلى وعندما ظهر الأمر للناس والعالم تبين أية مجازر ارتكبها نظام بينوشيه وباسمه. ولا أزال أتذكر تلك الرعدة التي انتابتني وأنا أقرأ الصفحات التي كتبتها ايزابيلا الليندي في روايتها "منزل الاشباح" عن كوابيس هذا الانقلاب. وعلينا ان نذكر ان هذه الأديبة عاشت كل أحداث هذه المحنة لأن رئيس الجمهورية المغتال سلفادور الليندي كان عمها. لم يكتف بينوشيه، الذي لقب الديكتاتور الكئيب، بقتل وتصفية ونفي معارضيه، بل مارس عمليات اغتيال المعارضين خارج تشيلي، ومن هذه العمليات حادثة اغتيال "اورلاندو لتوليه" وزير الدفاع التشيلي السابق في عهد الليندي في انفجار قنبلة زرعت تحت سيارته في واشنطن العاصمة الاميركية عام 1976، وقد ثبت للمحقق الاميركي فيما بعد ان قرار الاغتيال اتخذ من قمة الهرم السياسي في تشيلي، أي من بينوشيه نفسه. كان ذلك الاغتيال مبرراً لتعكير المياه بين بينوشيه وبين السلطات الاميركية في عهد الرئيس الديموقراطي جيمي كارتر، بعدما ضاقت هذه السلطات ذرعاً برغبته غير المنضبطة في القتل السياسي، ما وضع ملف حقوق الإنسان المنتهكة في تشيلي على بساط البحث وتحت أضواء الاعلام العالمي، وكان ذلك مثار انزعاج الكثير من الأوساط في الولاياتالمتحدة الى درجة انها حضّت بينوشيه وحكومته على السير على طريق الديموقراطية، لأنها أصبحت قضية أساسية في داخل الولاياتالمتحدة وخارجها. ومع ذلك لم يصغ بينوشيه الى تلك الاصوات العالمية المتصاعدة التي تطالبه بالانفتاح، بل لم يتخل عن السلطة إلا مكرها عام 1990 وهو عام التحول الكبير في العالم، وبعدما أحاط نفسه ومساعديه بسياج واقٍ من انتقام الشعب التشيلي عبر تكريس قوة المؤسسة العسكرية التي منحته حصانة غير مخترقة بالالتفاف على الدستور والبرلمان التشيلي وعلى القواعد المرعية. وغاب الديكتاتور الكئيب بينوشيه عن الساحة السياسية وتوارى عن الانظار، وكاد العالم الواسع ينسى جرائمه، وان ظل في ذاكرة شعبه وكل المهمومين بحقوق الإنسان في العالم رمزاً ومثالاً بشعاً للأنظمة العسكرية وشبه العسكرية الدموية والمتوحشة، وصورة حية نابضة وحديثة لمعاداة الحياة والجمال وكل ما هو إيجابي. ولكن، فجأة، بعد ثمانية عشر عاماً من وجوده المظلم في منطقة الظل، عاد اسم بينوشيه يتردد وسط ضجة عالمية تعلن ان اوغوستو بينوشيه رئيس تشيلي السابق العسكري الدموي قد تم توقيفه في لندن العاصمة البريطانية أواسط الشهر الحالي بناء على طلب من السلطات الاسبانية التي ترغب في الاستماع الى أقواله في شأن الاتهامات الموجهة اليه بالمسؤولية عن مقتل عدد من مواطنيها في تشيلي خلال الفترة من 11 ايلول سبتمبر 1973 حتى 31 كانون الثاني ديسمبر 1983، وهي تهم محددة في الوقت وفي الفعل. وفي تفصيل للخبر الذي نشر يوم السابع عشر من هذا الشهر نقل عن ناطقة باسم سكوتلنديارد البريطانية ان القبض على بينوشيه قد حدث قبل يومين من ذلك التاريخ بناء على طلب الدائرة المركزية الخامسة في محكمة مدريد الوطنية وان السلطات البريطانية تبحث أمر تسليمه الى السلطات الاسبانية لاستجوابه حول التهم الموجهة اليه. من الغريب ان تأتي هذه الضربة من انكلترا البلد الذي كان الجنرال معجباً به كثيراً لدرجة انه قدم للانكليز المساعدة الحاسمة خلال معاركهم ضد جارته الارجنتين في حرب الفوكلاند. كانت معاودة اسم بينوشيه الظهور الى السطح من جديد رداً من القدر على تاريخه الدموي البشع منذ ربع قرن، وكأن التاريخ ودماء الضحايا لا تريد ان تهدأ قبل ان تأخذ بثأرها، هذه المرة لم تظهر له صورة في وسائل الاعلام العالمية، اذ مكث مختفياً وراء باب انكليزي موصد يقف على جانبيه حارسان من رجال الشرطة البريطانية المدججين بالسلاح والمدرعين بالقمصان المضادة للرصاص، أحدهما تعلو وجهه ابتسامة واسعة كتعبير صامت عن رأيه في ما يحدث، ومن ثم رأيه في العجوز ذي التاريخ الدموي النائم وراء الباب الموصد، بعكس ضحاياه الذين واجهوا الرصاص وجلودهم عارية. توالت ردود الأفعال على ذلك الظهور الدرامي الأخير للديكتاتور الدموي الكئيب، فعاصمة بلاده الرسمية سنتياغو احتجت على ما أسمته خرق حصانة بينوشيه، وتذرعت بالقانون الدولي والاعراف المرعية، ورفضت لندن الاحتجاج وهو رد حكومي بيروقراطي يحاول ان يحمي نفسه أولاً قبل ان يحمي ماضيه التعس، وهو يثبت ان صوت العسكر لا يزال عالياً في تشيلي رغم ادعاءات الديموقراطية. وفي مدريد أشارت الصحف الاسبانية الى القبض على بينوشيه بفرحة أعادت الى الأذهان ذكريات ما أسمته بالحرب القذرة التي شنها بينوشيه على معارضيه إبان انقلابه الدموي. ووصف الرئيس الكوبي كاسترو القبض على عدوه القديم بأنه تواطؤ دولي بدأ بالتعاون مع الديكتاتور وانتهى بالانقلاب عليه، وفي سنتياغو نظم اربعمئة من أنصار الديكتاتور تظاهرة احتجاج امام السفارة البريطانية بينما كان المعادون له يتظاهرون ضده وانتهت التظاهرتان بالاشتباك. المحصلة العامة لردود الفعل في ظني هي الارتياح بل الشماتة بهذا "البطريرك" العجوز الملطخة يداه بدم أبرياء قضوا من دون محاكمة، ومن دون من يسمع صراخهم بالبراءة، وقد عبرت عن ذلك في فيينا العاصمة النمساوية المسؤولة التشيلية في منظمة العفو الدولية فيرجنا شوبي التي قالت "ان توقيف الديكتاتور السابق يشكل إنذاراً للطغاة الآخرين ودرساً بالغ الاهمية لمحتقري حقوق الإنسان، وسيدرك سائر الطغاة في العالم الذين ينظرون الى اوروبا كمكان آمن لهم، إنهم مسؤولون عن أعمالهم السابقة مهما طال الزمن". وحيث انني اتفق تماماً - عاطفة وعقلاً - مع ما قالته السيدة فيرجنا شوبي، فإن علي ان أضيف انه يبقى على العالم كله ان يتحول الى مكان لا يجد فيه الطغاة أو أي ديكتاتور مجرم مكاناً آمناً يختبئ فيه عندما تحين ساعة طرده خارج ترسانة حمايته السلطوية. وهذا الرأي ليس نداء جديداً يوجه للضمير العالمي، بل هو نداء قديم رددته في شأن الديكتاتور العراقي صدام حسين الذي أباد من العراقيين وغيرهم مثل ما أباده بينوشيه من التشيليين وغيرهم. والفرق ان الأخير لا يزال يفعل ذلك وتذهب أصوات الضحايا سدى في الفضاء، وقد نشرت هذا النداء في أكثر من مكان، كان آخرها ما طرح أمام مجموعة من السياسيين البريطانيين في تشرين الأول أكتوبر من العام الماضي. لقد نجح العالم في ملاحقة مجرمي الحرب من أفريقيا الى البوسنة، وقد قامت مؤسسات عالمية بالدعوة لذلك، ومن ثم بادرت دول لإطاحة بعض الأنظمة الديكتاتورية التي كانت وبالاً على شعوبها، وليس اكثر وبالاً على الشعب العراقي من النظام الحالي في بغداد. الدعوة لملاحقة صدام حسين عالمياً، وكذلك المتورطين معه في جرائمه ومحاكمتهم باعتبارهم مجرمي حرب، سوف تقدم للعراقيين أنصع وأوضح رسالة بأن نظاماً كهذا لم يعد مقبولاً من الاسرة العالمية، وهو حديث لا ينطبق على صدام حسين فقط، بل على كل مستبد مجرم أضاع حق الحياة وشرف الحياة لمواطنيه باستبداده وقهرة في أي مكان في العالم. التدخل القضائي الدولي النشط - كما حصل لبينوشيه - هو التحصين الحقيقي ضد التصرفات الخرقاء التي تعبث بالقوانين الدولية والإنسانية، خصوصاً في الدول التي يعتقد القابضون على الأمر فيها أن شعوبها مجرد قطيع قابل للذبح والسلخ متى شاءت إرادة الديكتاتور وأبنائه ومعاونيه. اعترف بسعادتي بنبأ القبض على الديكتاتور الكئيب، وستتكرر سعادتي وتزداد مع كل نبأ عن قبض جديد على ديكتاتور آخر. فحق الحياة الذي يهدر على أيدي الطغاة ليس من الحقوق التي تسقط بالتقادم، كما يقول أهل القانون الجنائي، وينبغي ان لا يكون كذلك. * كاتب كويتي.