في السادس عشر من تشرين الثاني نوفمبر الماضي، اعتقل الديكتاتور التشيلي السابق أوغستو بينوشيه في لندن، بناء على مذكرة اسبانية تتهمه باصدار أوامر بالقتل الجماعي، وانتهاك حقوق الانسان. استغرق البحث عن وثائق الإدانة أربع سنوات، وكانت الملفات تجمع خلالها في المركز الرئيسي لحزب اليسار الموحّد في مدريد، ويهتم بها المسؤولون عن سكرتارية حقوق الانسان، مثل ايزابيلو هيريروس، فرنسيسكو بيريز، وغريغوريو دياز، ونائبة الحزب في المجلس فرجينيا دياز، وخوان غارثيس، المستشار السابق للرئيس سلفادور الليندي الذي أطاحه اوغستو بينوشيه بمساندة الولاياتالمتحدة الاميركية. ومنذ السادس عشر من تشرين الثاني وحتى اليوم، انشغل العالم كله بأخبار الديكتاتور العجوز، وفيما ولد بصيص أمل بالعدالة الانسانية الغائبة أو المغيبة في القرن العشرين الذي تسود فيه شريعة الغاب، خصوصاً منذ الستينات، حين نبتت الديكتاتوريات العسكرية كالطحلب السام في كثير من عواصم العالم الثالث. فالصور التشيلية عن تلك المرحلة كان من الصعب على المرء ان ينساها: أجساد فتية محروقة بالسجائر، نساء مشوهات الوجه والجسد، عينان جاحظتان، نظرتهما في غاية المأسوية لم يلغ الموت شحنة العذاب المرير المتكومة في اعماقها، شفتان مفتوحتان عن شهقة آلام احتبست في الحنجرة، عاجلها الموت قبل ان يرتاح معها صاحبها. كل تلك الصور الأليمة كانت تطفو على سطح الذاكرة، حين يقرأ المرء خبراً أو عنواناً عن محاكمة بينوشيه بطل "عملية كندور" التي كانت تهدف الى تصفية زعماء اليسار وأنصاره في الجزء الجنوبي من أميركا اللاتينية. وكان توقيف بينوشيه قد قسم البلاد قسمين، لم يوفر أنصار بينوشيه الحجارة والبيض في رشق سفارتي بريطانياواسبانيا في سانتياغو، وقد تظاهروا في لندنومدريد مطالبين باطلاق سراح الجنرال العجوز، كما تظاهر أنصار اليسار والديموقراطية مع أمهات المفقودين في العواصم الثلاث، ورفعوا لافتات تطالب بالعدالة، وادانة جرائم الديكتاتورية، في أي مكان من العالم. وصرحت الأديبة النائبة ايزابيل الليندي - ابنة سلفادور الليندي - في مدريد بأن العدالة يمكن ان تتأخر خمسة وعشرين عاماً، لكنها تتحقق في النهاية. فقضية محاكمة بينوشيه ليست مسألة ثأر، وإنما قضية عدالة، يمكن ان تهيئ فرصة للتشيليين ليكونوا أكثر صدقاً مع ذاتهم، فيذكرون الجرائم باسمها. وما بين مظاهرات اليمين واليسار، تحرّك الجيش في التشيلي لمساندة "قائده" العجوز، فأصدر بيان اعتراض على محاكمته، وطلب من الرئيس ادواردو فراي ان يقوم بعمل ما ليعود الجنرال الى وطنه، وأدان تحركات النائبين الاشتراكيين ايزابيل الليندي وخوان بابلو لوتيليه اللذين قاما بمساع في لندن تعطي زخماً لادانة بينوشيه. وتحركت "العائلة" العسكرية المدركة ان الأمور تتغير في بلادها التي سيطرت عليها طوال خمسة وعشرين عاماً، فاعتبرت ان اعتقال بينوشيه موجه ضدها، وحثت الرئيس فراي على قطع العلاقات الديبلوماسية مع لندنومدريد، وأرفقت ضغوطها بانزال بحري على شاطئ صغير في فالباريسو، حيث استعرضت اربع دبابات سريعة قوتها، فقامت بعدة دورات في المكان قبل ان تختفي مجدداً في البارجة الضخمة التي انزلت منها. وإن قلل بعض زعماء اليسار - مثل ايزابيل الليندي وريكاردو لاغوس صاحب الحظ الأوفر في الوصول الى سدة الرئاسة في الانتخابات المقبلة - من إمكانية قيام الجيش بانقلاب عسكري، فإن ذلك لم يلغ خوف حكومة مرحلة الانتقال الى الديموقراطية، من تحرك الجيش للعودة بالبلاد الى قفص الحكم العسكري، كما من تحرّك مجموعة "وطن وحرية" اليمينية: فبالرغم من الحكم المدني الذي اختاره الشعب، فإن العسكر يدرك ان نفوذه المدني واسع جداً وقوي جداً، ولا يترددون في القيام بالاستفزازات حين يستطيع ذلك، ومساندون بقوة النفوذ الاقتصادي لليمين المتطرف. أما مجموعة "وطن وحرية" التي كانت مسلحة في عهد الليندي، وهادنت الدولة بعد قيام بينوشيه بالانقلاب العسكري، فعادت تهدد النواب الاشتراكيين، واعضاء في الحزب الشيوعي، بالرغم من ان زعيمهم استبعد قيامهم بما يمكن ان يزعزع الاستقرار في البلاد. ولم تكن الحكومة التشيلية في وضع تحسد عليه، وقد انقسم الشعب فريقين متنازعين، فأنشأت "لجنة أزمة" تعمل لعودة الديكتاتور الى وطنه ليحاكم فيه: رئيس اللجنة هو وزير الخارجية خوزي ميغيل انسولسا، الذي نفته الدكتاتورية طوال ستة عشر عاماً قضاها ما بين المكسيك وايطاليا، ومات خلالها ابنه المراهق المريض لأنه لم يكن يملك مالاً لانقاذه. ومن أعضاء اللجنة البارزين خايمي لاغوس، الذي كان أيام الحكم الديكتاتوري المدير العام للسياسة الخارجية. وما بين الاستفزازات العسكرية، وصرخات أمهات وزوجات المفقودين، وتصريحات اليسار المطالبة بالعدالة، حاولت الحكومة التشيلية ان تسيطر على الوضع الذي يشبه الزلزال، فسحبت بضغط من العسكر سفيريها من لندنومدريد - ما لبثا ان عادا الى مركزي عملهما - ووضعت في الميزان ثقل المصالح الاقتصادية التي تربطها ببريطانياواسبانيا، وسافر وزير خارجيتها انسولسا الى لندنومدريد، وصرح لجريدة "فانغوارديا" البرشلونية في 27 من تشرين الثاني نوفمبر، انه كان يتمنى ألا يكون في الموقع الذي هو فيه. لكنه، كما أضاف، لا يدافع عن بينوشيه، وإنما عن وطنه. فهو يبحث في عودة الديكتاتور العجوز والمريض إلى التشيلي لأسباب إنسانية، ولأن محاكمته يجب ان تتم في وطنه. وهو مع أنه يعرف بالتأكيد ان محاكمته في سانتياغو غير ممكنة، يرى ان اسبانيا غير مؤهلة لمحاكمته... وبين المطالبة بعودة بينوشيه إلى بلاده، وبين مطالبة اسبانيا بمثوله أمام محاكمها أكثر من خمسين هو عدد الاسبان المفقودين في التشيلي في العهد الديكتاتوري تلعب بريطانيا ورقة رابحة في قضية الديكتاتور العجوز: ان تكسب الوقت اللازم، بانتظار ان ينسى العالم هدير الزوبعة، ليكون الحل الذي اتفقت عليه حكومات لندنومدريد وسانتياغو وواشنطن مقبولاً ينقذ ماء الوجه، فيما يتيح لبينوشيه العودة ويجنبه المثول أمام القاضي الاسباني بلتسار غارزون، لأسباب اقتصادية وسياسية: فبريطانيا لا تستطيع ان تغامر بمصالحها الاقتصادية في التشيلي، ولا تستطيع ان تمضي خطوة جديدة في ورطة محاكمته في 24 آذار مارس اسقطت هيئة قضائية بريطانية 27 تهمة عنه من أصل 30، بنى عليها الادعاء العام الاسباني مطالبته بتسلمه. فبريطانيا لم يختف أي من مواطنيها في التشيلي، وهي لم توقّع على الوثيقة العالمية ضد التعذيب إلا عام 1988. وبالنسبة لاسبانيا، التي تدفع بريطانيا كأس المحاكمة المرّة الى شفتيها، فهي لا تريد ان تغامر ايضاً بمصالحها الاقتصادية في التشيلي، وتخسر في عملية بناء الغواصة البحرية التشيلية "سكوربين" بليون بيزيتا هي قيمة الاستثمارات الاسبانية في التشيلي - ولا تريد اسبانيا، وليس من مصلحتها، ان ترى نفسها متورطة في محاكمة تزيد من ثقل التعقيدات الدولية. وعودة بينوشيه "الى البيت" قرار تدعمه واشنطن التي ترى في رجوع الديكتاتور السابق، عامل تهدئة في أميركا اللاتينية. ويمكن ان نضيف في هذا الخصوص، ان الرئيس ادواردو فراي قد توصل الى اقناع الاشتراكيين التشيليين بأن المصلحة الوطنية تقضي بانقاذ شرف وسيادة الوطن، بحيث يحاكم بينوشيه في سانتياغو. هكذا طلب منه الاشتراكيون ان تسمي هيئة القضاء العليا قاضياً مختصاً ليحقق في عشرات التهم الموجهة إليه ألف ومئتا مفقود في التشيلي وانتهاكه حقوق الانسان بكل الوسائل. وهم بطلبهم هذا، يريدون الا تنتقل القضية الى المحكمة العسكرية المتحيزة. وبالرغم من حرص اليسار على ان تأخذ العدالة مجراها، فإن جداراً شرعياً يمنع حكومة الانتقال الى الديموقراطية من ان تقوم بأي اجراء لمحاكمة الديكتاتور السابق في وطنه: هذا الجدار بناه بينوشيه قبل ان يغادر الحكم في 1990، وهو يحمي جرائم الديكتاتورية العسكرية كما تحمي السلحفاة نفسها في قشرتها. فأوغوستو بينوشيه عضو في مجلس الشيوخ، وما زال يتمتع بحصانة قوية، وقد أصدر منذ 1978 قانون عفو عن كل انتهاكات حقوق الانسان التي وقعت منذ 1973. واذا كان القاضي التشيلي خوان غوزمان يريد ان يمضي في التحقيق في 11 من التهم الموجهة الى الديكتاتور، فإن العدالة العسكرية هي في وضع يمكّنها من ان تمسك كل القضية بين يديها، ان الجيش بمعظمه ما زال وفياً لمن كان قائده طوال خمسة وعشرين عاماً، وقد نجح هذا الجيش خلال حكم الرئيس باتريشيو ايلوين 1990-1994 في وقف محاكمة بينوشيه وابنه بتهم تورطهما في الفساد. وربما لذلك صرح خورخي لافانديرو، الشيخ الديموقراطي - المسيحي، بأنه يتوجب على انسولسا، وقبل ان يفكر في محاكمة بينوشيه في وطنه، "التوصل الى اتفاق أو الى التزام اليمين بتغيير بعض القوانين". أما النائب الاشتراكي خوان بابلو لاتوليه، الذي اغتالت الديكتاتورية والده في واشنطن، فهو لا يثق باليمين، ويذكر ان القضاة المدنيين لا يستطيعون ان يدخلوا الى مكاتب العسكر ليحققوا في أمر ما، ولذلك يجب ان تشرح الحكومة قوانين جديدة، تتيح للقضاة المدنيين تحقيق العدالة. وعلى هامش واقع العدالة في التشيلي، والامنيات الاشتراكية، يبدو خورخي شلاوسوهن النائب السابق عن الحزب الديموقراطي، الأكثر معرفة ودراسة لمجريات الأمور. ولذلك فقد صرح لمجلة "كي باسا" أي: ما الذي يجري بقوله: "إن العالم كله يعرف ان بينوشيه لن يحاكم اليوم في التشيلي، وانه لن يحاكم أبداً". ويشاطره المحامي الفونسو اينسونسا الرأي، فيقول انه ليس هناك اية إمكانية لمحاكمة الديكتاتور، لأن براءته مكرسة في التشيلي. اليوم، وبعد مضي حوالي ستة اشهر على اعتقال أوغستو بينوشيه في لندن، وبالرغم من اجتماعات مجلس اللوردات، ومطالبة اسبانيا بتسليمها الديكتاتور العجوز، والمساعي التشيلية لاعادته الى البيت، استعداداً لمحاكمته، يبقى السؤال المطروح في العالم: من يحاكم الديكتاتوية؟