صدفةٌ ما حملت ثلاثة شبان سوريين على الدراسة في بغداد. كان ذلك في 1949، ولم يكن انقضى غير أشهر على هزيمة فلسطين والمرارة التي نشرتها في عموم العالم الاسلامي. الثلاثة جمع بينهم، عدا الفتوّة، أنهم علويو المذهب من لواء الاسكندرون. عائلاتهم نزحت جنوباً مع استيلاء الأتراك على "اللواء السليب"، فتحلّقوا حول السياسي والمثقف الاسكندروني زكي الأرسوزي الذي قال ب"البعث" طريقاً الى استعادة "مجد العرب". هكذا صاروا جميعاً بعثيين. فحين انتقلوا الى بغداد تكفّلوا نقل الدعوة اليها. أبرزهم كان فايز اسماعيل، طالب كلية الحقوق. والآخران وصفي الغانم، الطالب في معهد المعلمين وشقيق القيادي البعثي وهيب الغانم، وسليمان العيسى الذي غدا لاحقاً شاعر البعث. ما زرعوه في تربةالعراق لقي استجابة متواضعة بين طلاب العاصمة، قبل ان يمتد امتداداً خجولاً الى سائر المناطق شمالاً وجنوباً. لكن فايز اسماعيل سريعاً ما عاد الى دمشق فحمل المهمة، في 1950، عبد الرحمن الضامن. وهذا الأخير، المتحدّر عن أسرة سنية من تجار الأعظمية ببغداد، لم يُكتب إسمه بخط عريض في تاريخ الحزب: ذاك ان المرض ما لبث أن عاجله فانسحب من المجال العام. وفي محله حل في قيادة "قطرالعراق" طالب هندسة شيعي هو فؤاد الركابي لم يكن بلغ العشرين، قيل إنه نسب نفسه الى أمه التي تمتّ بقرابة بعيدة الى صالح جبر، أحد رؤساء الحكومات، كما تسمّى باسم عشيرتها ذات الكعب والمنعة، بني ركاب. ولم يتجاوز الأعضاء في 1951 الخمسين، بقيادة كان الأكبر سناً فيها فخري قدوري البالغ الثانية والعشرين. لكن هؤلاء الذين سمّاهم مؤسس الحزب ميشيل عفلق "الأنبياء الصغار"، تضاعفوا منتصف العام التالي. وفي تلك الاثناء اعترفت بهم "القيادة القومية" في دمشق، مُصادقةً على شرعية الفرع العراقي. يومها كان بعثيو سورية يحتفلون باندماجهم مع "الحزب العربي الاشتراكي" لأكرم الحوراني، واعدين أنفسهم بمستقبل أكثر إشراقاً لا تعيقه الا ديكتاتورية أديب الشيشكلي. إذاً انضاف الى التفاؤل سبب آخر. وجاء معظم المقبلين على الدعوة من الطلاب، على ما كانت حالهم في سورية. البعض منهم كانوا قاربوا "حزب الاستقلال"، القومي العربي، واكتشفوا أن يفاعتهم أسرع من بطئه وتقليديته. وكان أكثرهم يخوض تجربته الأولى في الحزب الذي قالت وثائق الشرطة في أواسط 1955 إنه يضم 289 عضواً، سنة وشيعة، يتأتى معظمهم عن النصف الأدنى من الهرم الاجتماعي. فالبعث، ذو الاشتراكية الشعبوية والانشائية، كان يملك ما يقوله لهؤلاء. لكن إقبالهم المقنّن عليه دلّ، بين ما دلّ، الى ضعف الفئات الوسطى العراقية قياساً بمثيلتها السورية، وتالياً ضعف حراكها السياسي. الا ان دعوة البعث الى العروبة وإحداث "انقلاب" في حياة العرب، هي، لا المسألة الاجتماعية، أمّ مواضيعه. ولأنها كذلك، وقعت على عاصمة الأمويين غير وقوعها على العاصمة العباسية. فأمر الوحدة في سورية يخاطب لاوعياً جمعياً يرى اليها ضمّاً لما سبق أن تجزّأ. أما العراق فالقضية التي لازمت تاريخه الحديث تنظيم ما وحّده البريطانيون في 1920. وإذا كانت أقليات سورية دينية في غالبها، فأقليات العراق مذهبية وإثنية، فضلاً عن الديني منها. ولئن بدت السنيةُ الأكثريةُ هي الراجحة في سياسة سورية، وفي اقتصادها وثقافتها، فإن الشيعية الأكثرية في العراق مهمّشة تقليدياً ومُستبعدة. هكذا حملت العروبة الى بغداد ما تفاوت من معانٍ، وما غاير الدارج الدمشقي والمشرقي الذي تضرب أصوله في "نهضة" القرن التاسع عشر وروّادها المسيحيين. فالبيئة السنية تكنّت بها، ومع اطلاع مثقفيها على القومية الأوروبية، نسبت هذه الكنية الى القومية. لكن ما حاوله على الصعيد هذا مُنظّرون علمانيون أبرزهم ساطع الحصري، السوري الذي عاش في العراق وعلّم ناشئته، لم يذلل الفهم الشعبي للعروبة بوصفها راية من رايات الاسلام. هكذا لم يعرف العراق، مثلاً، حركة أصولية سنية يُعتدّ بها إذ تساكنت نزعته هذه وعروبته في منظومة وعي واحد. لكن البيئة الشيعية، في المقابل، اختلفت. فهي، وإن غازلت العروبةَ وداورتها، ظلت عروبتها أقرب الى اعتداد بالقوم منها الى طلب القومية ودولتها. وغالباً ما انطوى هذا الاعتداد على سعي الى تكافؤ تزول بعده "مبررات" الغبن والإجحاف. وناشد البعث نقطة التقاطُع عند عروبة الحد الأدنى المشوبة بالغموض، والتي لم يزدها الحزب الوافد وإنشاؤه الرومنطيقي الا غموضاً. وفي سياق كهذا انضم اليه من شبان الشيعة، ممن لعبوا بعض الدور في مساره اللاحق، حازم جواد وطالب حسين شبيب وسعدون حمادي ومحسن الشيخ راضي وهاني الفكيكي وابو طالب الهاشمي وغيرهم، فضلاً عن علي صالح السعدي ذي الأصول الكردية الفيلية والشيعية. كما انضم اليه من شبان السنة حمدي عبد المجيد وإياد سعيد ثابت وخالد علي الصالح ومدحت ابراهيم جمعة وفيصل حبيب الخيزران وكريم شنتاف وآخرون. وحفّت بالطريق الى العروبة معالم مميزة عند كل من الجماعتين. فمصادر العروبة السنية تتصل بعهد الملك غازي الذي تبوّأ العرش في 1933 وشاء، بخفّة غير مسبوقة، جعل العراق "بيامونت العرب"، تيمناً بالوحدة الايطالية لماتزيني وغاريبالدي. وهي تعتدّ بالمذبحة التي أُنزلت عامذاك بالأشوريين، "عملاء الانكليز" في الرواية القومية السنية الكارهة لكثرة الملل والنحل. وكان من المصادر "نادي المثنّى"" المؤسس في 1935 لتقوية "الشعور بالرجولة العربية"، وانقلاب رشيد عالي الكيلاني وضباط "المربّع الذهبي" المعجبين بألمانيا النازية في 1941، و"فرهود" العام نفسه، وهو المذبحة التي طالت يهود العراق. واتصلت بمصادر العروبة السنية أيضاً تجارب وأسماء اشخاص كالكاتب والداعية القومي - العسكري سامي شوكت الذي أنشأ منظمة "الفتوة" على غرار الشبيبة الهتلرية، أو السياسي ياسين الهاشمي، أحد ضباط فيصل الأول وأحد رؤساء حكوماته الذي ناوأ نوري السعيد وظل، حتى وفاته في 1937، يرعى التطرف الوطني في مناهضة البريطانيين. وكان حزب الاستقلال المؤسس في 1946 أوضح المعالم التنظيمية قبل خمسينات البعث. ففيه انضوى ضباط وموظفون أسسوا "المثنّى" ثم تقاعدوا بعد انقلاب 1941، وقد حلّ في قيادته فائق السامرائي، المقرب من الكيلاني، وصديق شنشل، صهر يونس السبعاوي الذي عُدّ مُنظّر الانقلاب، وسلمان الصفواني، الصحافي المشهور بمقالات نارية ولاسامية ضد يهود العراق. وعرف البعث بعض نموه في مناطق السكن السني التي انتشر الاستقلاليون فيها، كالأعظمية في بغداد والمدن المحاذية لسورية والقريبة منها كالموصل والفلوجة وعانة وتكريت وسامراء، أو ما سماه البعض "المثلث السني" ما بين الموصل شمالاً وبغداد جنوباً والجزيرة السورية في الغرب. فمن تلك الأنحاء أقبل على الحزب دحام الألوسي وصالح شعبان وإياد سعيد ثابت الذي كان والده من ضباط فيصل الأول السوريين، وكذلك شفيق الكمالي الذي عاشت نصف عائلته في البوكمال السورية. وهذا الانشقاق في العائلات خلّف آثاره السياسية على البلدين. فالمعروف ان الانتدابين البريطاني على العراق والفرنسي على سورية تهاترا وتصادما واحتارا قبل ان يقررا عراقية الموصل بدلا من سوريتها. وبأصولهم يعود كثيرون من سكان دير الزور والرقة السوريتين مثلاً الى مدينتي عانه وراوه العراقيتين، وإنما من هؤلاء تشكلت بلدة حصبة الحدودية. وقد ظهر، من هذا الوسط، أحد أبرز قياديي البعث السوري يوسف زعيّن ذو الأصل العاني، فيما تواضعت الدولتان الاستقلاليتان على منح مواطني تلك المناطق "حق" التوغل ثلاثين كيلومتراً في اراضي الدولة الأخرى من دون تأشيرة دخول. وبدورهم مال بعض دارسي البعث السوري الى ربط مواقف القطب المؤسس، وملاك الأراضي في منطقة الجزيرة، جلال السيد، بهذا العنصر. فهو ما حمله على تفضيل الارتباط بالعراق الهاشمي على الارتباط بمصر الناصرية، والى رفض الاشتراكية لتعارضها مع "قيم القبيلة العربية". وقد انتهى به الأمر مبكراً خارج الحزب الذي حسم أمره لمصلحة مصر والاشتراكية. ذاك أن نشأة الدولتين السورية والعراقية أعاقت الامتداد القرابي لعشائر الحدود، لكنها أدت أيضاً الى كساد اقتصادي تسببت به الحواجز الجمركية التي فصلت العراق عن مناطقه التجارية في سورية، ناهيك عن تدفق السلع الغربية على حساب صناعات قديمة تطغى عليها الحرفة. وكما فعل حزب الاستقلال قبله، دغدغ البعث حساً عشائرياً محبطاً بالدولة الحديثة، مثلما خاطب إحباطاً آخر بالاقتصاد الحديث استوطن أصحاب الدكاكين وسقاطة الحِرف القديمة للمدن وما ترسّب عنها من قبضايات ووجهاء "محلّة" صغار. وعلى اختلاط بيئة كهذه، أبحرت فيها الوطنية والعروبة والاسلام والعشيرة والعداء للغرب وللشيوعية، في مركب واحد صواه التحفظ عن كل وافد جديد من سلع أو أخلاق. أما عند الشيعة، فصدرت العروبة عن افتخار بنسب "أشرف" من النسب الإيراني. وقد تفرّع عنه تعويل على علاقات الدم والقرابة، كما تفرّع انكباب لدى بعض مثقفيهم الأوائل على تبرئة شعراء قدامى من تهمة "الشعوبية" وتوكيد "أصالتهم" في "الدم العربي". وورثت العروبة، في حالة قلة من أبناء "الأُسَر" النافذة عداءً للشيوعية التي عصفت بالجنوب العراقي حتى أخافت المرجعية الدينية ونافستها، في الخمسينات والستينات، على مرجعيتها. ولئن بدا الشيوعيون أقدر من يوظّف المناخ الذي أطلقه محمد مصدّق في حسابهم، استطاع البعث أن يلمّ فتات ذاك الشعور الوطني الذي عبر شط العرب غرباً. والتقاطُع السني-الشيعي عند عروبة غامضة له سوابق ومقدمات في تاريخ العراق الحديث، وإن لم يبلغ أيٌ منها شأو البعث. فأصداء الاعتداد بها وب"نَسبها" ترقى الى الجمعيات الاصلاحية التي سبقت حركة "تركيا الفتاة" في 1908 وواكبتها. وكانت "ثورة العشرين" الشيعية والأهلية محطة تقارب لم تخلُ من توثيق الصلات بين البيئتين على قاعدة العداء لبريطانيا. وبدوره مثّل فيصل الأول نفسه، بأصله ونسبه، لحظة استقرار ما عند عروبية سنية - شيعية جامعة أراد اعادة تدويرها لبناء العراق. ومن موقع آخر وُجد عند جعفر أبو التمّن، مؤسس الوطنية العراقية الحديثة، ما يمكن تأويله على هذا النحو، فكان من ثمار تلك التجربة أن شيعياً من تلامذته، هو محمد مهدي كبّة، أسس حزب الاستقلال وغدا وجهه المعنوي الأول. لكن التقاطُع لم يحل دون محطات تنافُر عريضة، خصوصاً أن الانقسام المذهبي ترافق مع انقسام اجتماعي نافر. فالجيش كانت الأكثرية الساحقة من ضباطه من السنة العرب، ومن أصل 23 رئيس حكومة بين 1921 و1958، تولى المنصب أربعة شيعة فقط، هم صالح جبر ومحمد الصدر وفاضل الجمالي وعبد الوهاب مرجان. والتفاوت نفسه يصح في سياسات الانفاق والاستثمار في المناطق. وهذا كله معطوفاً على سجالات وانشقاقات وطنية تلت أحداثاً أُوّلت طائفياً أو كانت، بهذه النسبة أو تلك، كذلك. فمن هذا القبيل كان الخلاف حول التربية والتعليم وفهم التاريخ الاسلامي مما ارتبط بساطع الحصري وفاضل الجمالي وغيرهما، أو الاغتيال الذي ذهب ضحيته الشيعي اللبناني الأصل رستم حيدر في 1940. بيد أن البعث عبّر أيضاً، حاله في ذلك حال سائر الأحزاب القومية، عن تنافر بعيد في مصالح أفراده. فإذا كانت كثرته من البورجوازية الصغرى الدنيا، فهذا لم يحل دون انضواء متفرعين عن عائلات ثرية وملاكي أراض كبار، وانضمام آخرين معدمين. ويُنسب الى علي صالح السعدي، وقد غادر الحزب واكتسب وعياً طبقياً فجاً، أنه أضحى يتساءل: "هل يعقل ان يجمعني حزب واحد بفيصل حبيب الخيزران الذي كان أبي يشد حذاء أبيه ويربطه؟". لكن اذا كانت الأحزاب القومية تستعيض عن التضارب في مصالح معتنقيها بتشدد عقائدي وتنظيمي، لم يملك البعث العقيدة التي يتشدد فيها. وهذا إذا ما تلافاه بعثيو سورية بالاستغراق في سياسات المتن العريض، وهو ما وفّرته لهم زعامة أكرم الحوراني الشعبية والبرلمانية، ففي العراق عولج الأمر بعبادة التنظيم كهدف بذاته. وكان للتأثّر الضدي بالشيوعيين ان عزز الصرامة الحديدية هذه، فبات "العضو العامل" في البعث العراقي خلاصة حلقات متتابعة أولاها "المؤيد" ف"النصير" ف"النصير المتقدم" ف"المرشح للعضوية". وهي كلها محطات في الممارسة والتحمّل أكثر بكثير مما في النظرية المهلهلة. ولم يكتف بعث العراق بمخالفة بعث سورية المتراخي تنظيمياً والموزّع بين كتل ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني، بل قارب الفِرَق الدينية في تمسكه بضوابط أخلاقية وسلوكية متزمتة. وإذ حضن البعث في دمشق مثقفين أقبلوا على ترجمة الأدب الوجودي والرواية الروسية وبعض أعمال علم النفس، كعبد الكريم زهور وسامي الدروبي وجمال أتاسي وسامي الجندي وعبد الله عبد الدائم وغيرهم، خلت صفوف البعث العراقي من المثقفين الذين دار معظمهم في فلك الحزب الشيوعي، أو انزووا في بيوتهم البورجوازية والأريستوقراطية. ولم يقتصر التحدي الشيوعي على البنية التنظيمية، بل جرّع البعثيين عداءً للشيوعية لم يبلغه مطلقاً رفاقهم في سورية. وامتداداً للتعويل على القوة اهتم الأمين العام القطري، فؤاد الركابي، ببناء موقع للحزب في الجيش، وكانت أصداء الانقلاب المصري في 1952 والدور المتعاظم لضباط البعث السوريين، كعدنان المالكي ومصطفى حمدون، تنمّي هذا الخيار. كذلك نمّاه أن قوة الشيوعيين من جهة، وقوة الولاءات المحلية والمذهبية من جهة أخرى، أقامت سدوداً منيعة أمام انتشار البعث في بيئات شعبية عدة. والمنحى العسكري هذا ليس بالغريب على العراق. فجيشه كان أبكر الجيوش العربية في اقتحام الحياة السياسية عبر انقلابي 1936 و1941، من دون أن تستطيع تقاليد الانضباط الحديثة قطع الضباط عن خلفيات عشائرية ومناطقية صدروا عنها وبقيت تنبض فيهم. وعلى إيقاع الصراع مع سياسات نوري السعيد، هي التي بلغت ذروتها بقيام "حلف بغداد" في 1955، اتسعت صفوف البعث لضباط سنّة عُرف منهم علاء الجنابي ومنذر الونداوي وصالح مهدي عماش وعبد الستار عبد اللطيف وغيرهم. صحيح ان الضباط البعثيين لم يكونوا أساسيين في تنظيمات "الضباط الأحرار" التي ضمت 280 ضابطاً ليس فيهم كردي او مسيحي واحد، وصحيح أن الحزب كله لم يتعدّ ال300 عضو في 1956. بيد ان البعثيين غدوا يملكون، عشية انقلاب 14 تموز يوليو 1958 الذي أقام الجمهورية، محيطاً عريضاً في بيئة سنية راحت تماهيهم بجمال عبد الناصر. ومماهاةٌ كهذه بدت كسباً خالصاً في تلك البيئة التي ألهب خيالها ما فعله الزعيم المصري بتأميم قناة السويس وردّ "العدوان الثلاثي" في 1956. وهكذا فحين تأسست "جبهة الاتحاد الوطني" المعارضة في 1957، نيطت قيادتها بلجنة عليا تشكلت من محمد حديد عن "الوطنيين الديموقراطيين"، وعزيز الشيخ عن الحزب الشيوعي، ومحمد مهدي كبه عن الاستقلال، والركابي عن البعث. وقد مارس الحزبان القوميان حق الفيتو على أية مشاركة كردية: فالمادة الحادية عشرة من دستور البعث، مثلاً، والتي لم تُلغ الا مع المؤتمر القومي السادس في 1963، دعت صراحة الى ان "يُجلى عن الوطن العربي" كل داعٍ الى "تكتل عنصري" يناهض العرب. ولم يطل الانتظار. فانقلاب تموز الذي أقرّ بالوزن البعثي وشرعيته، وزّر الركابي، كما أتاح للحزب حضوراً سياسيا وصحافيا، تنظيميا وتعبيريا. مع هذا بدا الثقل الهائل للشيوعيين تذكيراً دائماً لمنافسيهم بقزمية لا براء منها. والى الحسد الحزبي انضافت عناصر أخرى. فقبل أشهر على الانقلاب، وفي 22 شباط فبراير 1958، كانت الوحدة بين مصر وسورية وأُعلنت "الجمهورية العربية المتحدة". ولئن عجّل الحدث في تفجير الملكية العراقية، التي حاولت عبثاً تطويقه ب"الاتحاد الهاشمي" مع الأردن، فإنه عجّل أيضاً في تفجير الائتلاف الجمهوري الجديد. فقد رفع البعثيون والرجل الثاني للانقلاب، عبد السلام عارف، شعار الوحدة الفورية الذي زكّاه عفلق بزيارته الى بغداد لتهنئة انقلابييها في 24 تموز. أما الشيوعيون ورجل الانقلاب الأول، عبد الكريم قاسم، فتجمعوا تحت راية الوطنية العراقية وشعار الاتحاد بدل الوحدة. وجعلت هتافات المظاهرات تلخّص الانقسام هذا وتؤججه في الشوارع. فإذا هتف القوميون بآلافهم "الوحدة الوحدة باشر باشر/ مع الأسمر عبد الناصر"، رد الشيوعيون بعشرات آلافهم "ماكو زعيم/ إلا كريم". وإذا ردد الأولون "نحنا جنودك يا ناصر"، أجابهم الأخيرون "عيني كريّم للأمام/ ديموقراطية وسلام". وراحت الأجواء تتوتر مع إعفاء عارف من مناصبه، ثم حكمه بالاعدام، الذي لم يُنفّذ، إثر محاولة الانقلاب المسرحي التي أقدم عليها رشيد عالي الكيلاني. وفي شباط 1959 استقال الوزراء القوميون والمحافظون، وفي عدادهم الركابي. وبالفعل كان العام المذكور عام محنة البعثيين. فهم، أصلاً، كان حل الحزب في سورية قد أحزنهم بقدر ما أفرحهم قيام الوحدة. هكذا شعروا، في العام التالي، بأنهم فقدوا مرجعيتهم النظرية والسياسية وهم في أمسّ الحاجة اليها. وما زاد بؤسهم ان علاقة رفاقهم السوريين بالقيادة الناصرية شرعت تتردى فيما كان الصدام مع قاسم يصل الى نقطة اللاعودة. وجاءت، في آذار مارس من ذاك العام، انتفاضة الضابط القومي العربي عبد الوهاب الشواف في الموصل، فانتهى أمرها بمذبحة نمّت عن حقائق عدة. فالجمهورية المتحدة التي وعدت الشواف بالطيران والاذاعة والإسناد، تخلت عنه تماماً. وبدا، من جهة أخرى، حجم الموقع الذي تحتله العشائر السنية المحافظة في المُجمّع القومي، تبعاً لدور أحمد عجيل الياور، شيخ عشائر شمّر، في الانتفاضة. ذاك ان القومية العربية تبدّت، والحال هذه، وعاءً للاستياء من قانون الاصلاح الزراعي الجديد معطوفاً على استياء أقدم من نشأة الدول وحدودها. وفي هذه الغضون درّج الشيوعيون، وقد ولغوا في دماء القوميين وانتهكوا حرمة بيوتهم، ممارسة "السحل" وتعبيره فيما كانوا يهاجمون مدينة الموصل بذريعة عقد مؤتمر ل"أنصار السلم" فيها. وغذّى النزاعُ هذا نزاعَ عبد الناصر ودولة الوحدة مع السوفيات والشيوعيين السوريين، وتغذّى منه، فاكتملت عناصر القطيعة بين الشيوعي والقومي. وزاد في إضعاف البعث العملية التي نظّمتها قيادته، بالتنسيق مع قيادة العربية المتحدة، لاغتيال قاسم، فأفصحت بذاتها عن ذاك الشعور بالعزلة الذي يدفع الى أعمال كهذه. ففي 7 تشرين الأول أكتوبر حاولت شلّة قتل "الزعيم الأوحد"، كان في عدادها البعثي ابن الثانية والعشرين، صدام حسين التكريتي. وفشلت المحاولة وأصيب بعض منفّذيها فيما قُتل أحدهم عبد الوهاب الغريري. وفي النهاية هرب معظم القادة والمنفذين الناجين الى سورية. واستطراداً لتلك الاحداث بدأت تهب رياح العسكر البعثي. فإعدام بعض كبار الضباط القوميين السنة كناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري، زعيم أهم تنظيمات "الضباط الأحرار" قبل الانقلاب، وغيرهما، وضع الضباط البعثيين في صدارة لم يتمتعوا بها قبلاً. وتحت وطأة العداء للشيوعية، بين 1959 و1962، انضم الى الحزب، أو سايره، ضباط في مراتب وسطى-متقدمة كان في عدادهم أحمد حسن البكر وطاهر يحيى التكريتي وذياب العلكاوي وخالد مكي الهاشمي وحسن مصطفى النقيب وحردان التكريتي. وفي المقابل، تشتتت قيادة الحزب المدنية، ولم يلبث أن انحاز الركابي، في الخلاف البعثي-الناصري، الى القاهرة. وقد ترافق خروجه من البعث مع اتهامه عناصر من القيادة القومية بصلات مع المخابرات البريطانية. وحين أخرج قاسم، في 1962، بعض القياديين الآخرين من سجونه، حذا إياد سعيد ثابت وخالد علي الصالح حذو الركابي والهاجرين الى الناصرية. هكذا اكتمل انهيار القيادة المدنية فسدد بعث العراق ثمناً غالياً لأصله السوري، واندفع نحو علاقة بالعسكر سوف يُكتب لها أن تحوّله، في السنوات التالية، تحويلاً كاملاً. الحلقة الثانية الثلثاء المقبل.