وصفت الزيارة الرسمية للرئيس جاك شيراك للجزائر ب"التاريخية" كونها أعادت الحرارة الى العلاقات الثنائية بعد جمود استمر منذ تعليق الدور الثاني للإنتخابات الجزائرية في كانون الثاني يناير عام 1992 وأقفلت قوس عقد من الخضات المريرة. وعلى رغم السياق الدولي المساعد للتقارب العربي - الفرنسي الذي أتت فيه الزيارة، فإنها تتويج لمسار ثنائي من التطبيع التدريجي الذي سيعيد لفرنسا بعض ما انتزعته منها الولاياتالمتحدة في المغرب العربي طيلة عقدين من حكم الإشتراكيين في باريس. من المفارقات اللافتة أن الزيارة الحالية للرئيس جاك شيراك إلى الجزائر تأتي في ذكرى مرور 30 عاماً على زيارة أول وزير جزائري إلى باريس بعد الإستقلال، وكان الوزير الزائر عبدالعزيز بوتفليقة وزير الخارجية آنذاك، والذي كان الفرنسيون يعرفونه أثناء حرب التحرير باسمه المستعار "المقدم سليمان". الشاذلي وجيسكار ديستان ومهد بوتفليقة في باريس لزيارة قام بها الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان للجزائر عام 1975 كانت الأولى لرئيس فرنسي الى هذا البلد. أما أول زيارة لرئيس جزائري إلى باريس فلم تتم سوى بعد سبعة أعوام عندما قام الشاذلي بن جديد ب"زيارة عمل" لفرنسا في كانون الأول ديسمبر 1982 وأردفها ب"زيارة رسمية" بعد نحو عشرة أشهر من الأولى. وعكس ذلك الإنعطاف انتقال العلاقات من حال إلى حال بعد توخي الجزائر سياسة انفتاح اقتصادي وسياسي في أعقاب رحيل الرئيس هواري بومدين. ويمكن القول إن شهر العسل في العلاقات الثنائية تجسد بتوقيع اتفاق ضخم بين "الشركة الوطنية للمحروقات" سوناطراك ومؤسسة "غاز دي فرانس" عام 1989 وتعهد باريس في الوقت نفسه منح الجزائر مساعدة قيمتها سبعة بلايين فرنك فرنسي. إلا أن التقارب لم يلغ خلافات ظلت عالقة في شأن ملفات شائكة يمكن تلخيصها بمحورين رئيسيين، تعلق أولهما بأوضاع الجالية الجزائرية في فرنسا، وهي الجالية العربية الأكبر عدداً إذ يقدر أفرادها بنحو مليون مهاجر طبقاً لإحصاءات غير رسمية، فيما تعلق الثاني باستعادة الوثائق الجزائرية التي نقلتها السلطات الفرنسية إلى مدينة أكس أون بروفانس جنوبفرنسا بعد استقلال الجزائر عام 1962، ورضي الجزائريون بالحصول على نسخ من تلك الوثائق إلا أن الموضوع ما زال يشكل حتى اليوم أحد المحاور المطروحة على بساط البحث بين الجانبين. شظايا حرب أهلية وبعد أقل من عشر سنوات على انطلاق مسار التطبيع الذي افتتحه بوتفليقة، انتكس التقارب بين البلدين مطلع عام 1992 في أعقاب الأزمة التي ثارت بسبب إقدام حكومة سيد أحمد غزالي على تعليق المسار الإنتخابي. وكان فوز "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" بزعامة الشيخ عباسي مدني بالأكثرية في الدور الأول أثارت خشية المؤسسة العسكرية التي حملت الرئيس بن جديد على الإستقالة من منصبه. وألقى تدهور الأوضاع الداخلية في البلد بظلال كثيفة على العلاقات مع فرنسا بسبب تداعيات الصراع الدموي بين الجيش والجماعات المسلحة الذي امتدت ألسنة لهيبه إلى التراب الفرنسي، فشهدت باريس ومدن فرنسية أخرى سلسلة من التفجيرات والإغتيالات التي تبنتها "الجماعة الإسلامية المسلحة" شملت اغتيال رجال دين فرنسيين في وهران وتيزي وزو والجزائر. وأدت الإجراءات "الوقائية" المتشددة التي اتخذتها السلطات الفرنسية في حق المواطنين الجزائريين وحتى في حق شركة الطيران الجزائرية إلى احتقان شديد في العلاقات الثنائية لم يتمكن الطرفان من تنفيسه سوى في عام 2000 بعد معاودة فتح المركز الثقافي الفرنسي الذي أقفل في 1993 والقنصلية الفرنسية في عنابة شرق، وبخاصة بعد زيارة الرئيس بوتفليقة لباريس. رب ضارة نافعة ويمكن القول إن التطبيع تكرس من خلال مبادرة ذات دلالة رمزية أقدم عليها شيراك عندما رافق بوتفليقة إلى حي باب الوادي، الذي كان أحد معاقل "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، لمواساة ضحايا السيول التي غمرته نهاية عام 2001. وأتت تلك الخطوة بعد أشهر من توصل الحكومتين الى اتفاق اقتصادي مهم بقيمة بليوني دولار بين "سوناطراك" و"غاز دي فرانس". وهكذا كان الغاز دائماً وقود المصالحات الفرنسية - الجزائرية. وأتاحت تلك النقلة في العلاقات الثنائية معاودة رحلات الطائرات الفرنسية إلى الجزائر بعد انقطاع استمر ستة أعوام .إلا أن الأمور لم تكن دائماً على أحسن ما يرام، إذ أشارت أوساط جزائرية إلى "أصابع فرنسا" في الإنتفاضة التي اندلعت في منطقة القبائل في ربيع العام الماضي اثر وفاة الشاب ماسينيسا قرماح في مخفر للدرك الوطني، وعجزت الأحزاب عن احتواء العصيان العارم الذي تزعمه وجهاء العروش القبائل. وفتح الجدل في شأن الإشتباه بوجود دور فرنسي في الحركة جروح التاريخ التي لم تندمل بمرور الزمن. ومن العلامات التي دلت على بقائها مفتوحة الحملة التي أقامتها أخيراً في الجنوبالجزائري جمعية غير حكومية لمطالبة فرنسا بالتعويض لضحايا التجارب النووية التي أجريت في الصحراء الجزائرية مطلع الستينات، والتي أكد مسؤولون في الجمعية إن إشعاعاتها ما زالت مستمرة حتى اليوم. "سنة الجزائر" وفي خطوة بدت عنواناً عريضاً للصداقة العائدة بين باريسوالجزائر انطلقت مطلع السنة الجارية فعاليات "سنة الجزائر في فرنسا" في حضور وفد رفيع قاده رئيس الحكومة علي بن فليس. واعتبرت المبادرة بمثابة رد على التوقعات القائلة بأن كفة الميزان الجزائري أخذت تميل لمصلحة الولاياتالمتحدة على حساب فرنسا بعد التطور السريع للعلاقات السياسية مع واشنطن، إذ كان بوتفليقة من أوائل الزعماء الذين زاروا الولاياتالمتحدة بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر، وتكثيف الإستثمارات الأميركية في الجزائر بخاصة في قطاع المحروقات، إضافة إلى تنامي التعاون العسكري على خلفية التنسيق في مكافحة الإرهاب والذي جسده إجراء مناورات عسكرية مشتركة في شكل دوري. استحقاق 2004 وأتت زيارة شيراك إلى الجزائر على خلفية الحديث عن صراع بين الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة ورئيس حكومته علي بن فليس رأى مراقبون أنه طفا على السطح لمناسبة الإضراب العام الذي شل البلد الثلثاء الماضي قبل أيام من زيارة شيراك، إذ وجه زعيم "الإتحاد العام للعمال الجزائريين" عبدالمجيد سيدي سعيد سهامه إلى وزيرين قريبين من بوتفليقة هما وزير المساهمات عبدالحميد تمار ووزير الطاقة والمناجم شكيب خليل ولم يوجه أي نقد لرئيس الحكومة. ويرجح أن أسهم بن فليس في صعود مستمر يؤهله ليكون المرشح الأوفر حظاً في الإنتخابات الرئاسية المقررة للسنة المقبلة كونه ضخ دماء جديدة في حزب "جبهة التحرير الوطني" وقاده إلى نصر انتخابي في الإستحقاق الأخير. وهناك من يربط المناكفة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة بمراكز القوى الإقتصادية التي يقال إن حلقاتها تتداخل مع قيادات المؤسسة العسكرية التي تظهر عدم ارتياح لأداء بوتفليقة على رغم النفي الصادر غير مرة من الجانبين. دور فرنسي متنام ورأى محللون اقتصاديون أن فرنسا باتت تلعب دوراً اقتصادياً متنامياً في الجزائر، فهي الشريك الأول للبلد إذ تستأثر ب23 في المئة من السوق المحلية متقدمة على الولاياتالمتحدة وايطاليا اللتين لا تزيد حصتاهما على 5.9 في المئة، إضافة الى الإهتمام المتزايد الذي أبدته وفود رجال الأعمال ورؤساء المصارف الفرنسيين الذين ترددوا على الجزائر بحثاً عن فرص الإستثمار في ظل سن قوانين إنفتاحية وعرض منشآت عمومية للتخصيص. وفي هذا السياق لاحظ محللون أن الشركات الفرنسية المتخصصة بتصنيع الأدوية والسيارات حققت اختراقاً في السنتين الأخيرتين واستعادت زمام المبادرة من المنافسين الآسيويين ويستدلون على ذلك بكون شركات السيارات الفرنسية باتت تسيطر على 64 في المئة من السوق المحلية التي تعتبر مهمة بالمقاييس الإقليمية 31 مليون نسمة. ومن هذه الزاوية يرجح المراقبون أن تعطي زيارة شيراك دفعة قوية للإستثمار الفرنسي في الجزائر وتعيد للغة الفرنسية بعضاً من المكانة التي فقدتها في العقدين الماضيين، وربما الأهم من هذا وذاك أنها سترسي محوراً استراتيجياً ثنائياً ينهي الرهان الأميركي على جعل الجزائر الحليف الأول لواشنطن في شمال أفريقيا.