هل انتهى زمن الشك والتشكيك بين الجزائروفرنسا بعد زيارة الرئيس بوتفليقة لباريس؟ وهل طويت صفحة الماضي بصداماتها وخيباتها وظلالها المستمرة في الذاكرة الجماعية هنا وهناك؟ ليس من السهل الانتقال من مرحلة الحوار الصعب الى ايجاد طريق سالكة للتفاهم وتسوية الملفات الحرجة العالقة بين البلدين، فالعلاقة بين باريسوالجزائر هي أعقد علاقة بين بلد عربي وبلد أوروبي بالنظر الى ثقل الإرث التاريخي والعاطفي الطاغي عليها والذي لا نلحظه حتى في العلاقة المريرة بين العراق وبريطانيا. أثبتت زيارة بوتفليقة ان التاريخ ما زال يكيف الحاضر وربما المستقبل بين الضفتين، وليس أدل على ذلك من عدد الزيارات المتبادلة في أعلى المستويات منذ استقلال الجزائر الى اليوم، أي طوال نحو أربعة عقود. فعلى عكس البلدان المغاربية الاخرى التي تبادل زعماؤها الزيارات مع الرؤساء الفرنسيين مرات كثيرة خلال الاربعين عاماً الماضية، لم يزر باريس من الرؤساء الجزائريين قبل بوتفليقة سوى الشاذلي بن جديد العام 1982، فيما كان فاليري جيسكار ديستان الرئيس الوحيد الذي زار الجزائر العام 1975 من أصل خمسة رؤساء حكموا فرنسا منذ استقلال الجزائر. ومعنى ذلك انه لم يزر رئيس فرنسي الجزائر منذ ربع قرن على رغم ان باريس تأتي في مرتبة الشريك الاقتصادي والثقافي الأول للجزائريين. في هذا السياق شكلت زيارة بوتفليقة أهم مصافحة سياسية بين الجانبين بعد برود استمر عقداً من الزمن وحققت أهدافاً مهمة، إلا انها أشارت الى عناوين الخلافات من دون فتح الملفات. والثابت ان بوتفليقة ذهب الى باريس سعياً الى كسر عزلة الجزائر الطويلة وترميم الجسور مع المستثمرين الفرنسيين والحصول على شهادة حسن سلوك ديموقراطي من المنظمات غير الحكومية الفرنسية بما فيها اليهودية، لكنه لم يفوت الفرصة لطرح مشروع معاودة بناء العلاقات السياسية الثنائية على أسس جديدة في لقاءاته مع نظيره شيراك، وكذلك في خطابه في الجمعية الوطنية. كانت الملفات التي تطرقت لها محادثات بوتفليقة مع كبار المسؤولين طُرحت سابقاً في زيارات قام بها خمسة وزراء جزائريين لفرنسا. ويمكن القول ان هناك خمسة ملفات عالقة بين البلدين يخص الأول مشكل منح تأشيرات للجزائريين لزيارة فرنسا ومعاودة فتح المراكز الثقافية الفرنسية في المدن الجزائرية الرئيسية، وتحقق تقدم ملموس على هذا الصعيد ليس فقط بمعاودة فتح غالبية القنصليات والمراكز الثقافية وانما بمنح 150 ألف جزائري تأشيرات العام الماضي، أي بزيادة تعادل ثلاثة أضعاف ما كانت تمنحه فرنسا قبل ثلاثة أعوام. ويتعلق الملف الثاني باستعادة الأرشيف الجزائري الذي نقله الفرنسيون الى مدينة اكس أون بروفنس بعد نيل الجزائر استقلالها والذي كان نقطة الخلاف الجوهرية اثناء زيارة بن جديد لفرنسا في الثمانينات، ولم يتوصل الجانبان الى صيغة لحلها رغم كونهما اقتربا من تسوية باتت الآن بعيدة المنال. ولعل الملف الثالث المتعلق بالاعتراف الفرنسي ب"حرب الجزائر" وما يترتب عليه من تغييرات في المقررات الدراسية الفرنسية وتعديل الرؤية الرسمية لأكثر من قرن من الوجود الاستعماري في الجزائر، يشكل الخطوة التي ما زال الفرنسيون يتهيبون قطعها على رغم كونها باتت طبيعية في ظل التغييرات الكبيرة التي مرّ بها البلدان والعالم بأسره. ورابع الملفات يتصل بمعاودة الطائرات الفرنسية رحلاتها العادية الى الجزائر، ويعود سبب الخلاف الى إصرار الفرنسيين على ان يقوموا هم بتفتيش المسافرين الجزائريين على طائراتهم مخافة تكرار عملية الخطف التي تعرضت لها طائرة فرنسية العام 1994. وعلى رغم ان الفرنسيين اضفوا على المسألة طابعاً فنياً ونزعوا عنها طابعها السياسي، فالثابت انه لو توافرت ارادة سياسية لبتّ الخلاف لوَجد الطرفان الحلول. أما الملف الخامس فيخص ديون الجزائر تجاه فرنسا والتي حصل بوتفليقة في شأنها على وعد ضبابي بتحويلها الى استثمارات... اذا ما وافق "نادي باريس" على الصيغة! وهذا ما حمل بوتفليقة على القول انه عاد من فرنسا صفر اليدين. قصارى القول ان العلاقات الثنائية يمكن ان تنتقل سريعاً من حال الى حال، لكن شريطة ان تتوافر الإرادة السياسية لدى الجانبين. وما لم يتحقق ذلك ستبقى الريبة وظلال الماضي مخيمة على العلاقات.