بعد انتظار طال أمده، كان العالم يحبس انفاسه بانتظار ساعة الصفر، وإذا بالرئيس جورج بوش يطلق شرارة الحرب منهياً حال التأرجح حرب او لا حرب فتندفع قاذفات الدمار "غير الشامل" لتحسم الموقف في شكل لا رجعة عنه. مما لا شك فيه ان حال الانتظار هذه، على رغم كونها لاستكمال الاستعدادات العسكرية الأميركية، كانت تستغل للتحضير النفسي لشعوب العالم. فهذا "البين النعم واللا" للحرب، جعل الناس تعيش في حال مستمرة من القلق بين الشك واليقين، تتصاعد وتقوى كلما اقتربت من احتمالات الحسم. وقد توزعت الأدوار بين الرئيس بوش وفريق عمله: منهم من رمى بالمسؤولية كاملة على الرئيس صدام حسين لم يتجاوب بصورة كاملة مع المفتشين، ومنهم من ادعى ان اسلحة الدمار الشامل موجودة ولا بد منها في مخبأ ما، ومنهم من قال امام هذه التداعيات ان اللجوء الى القوة اصبح احتمالاً لا مهرب منه، وبعضهم صور للرأي العام ان الرئيس بوش امام خيار مؤلم وصعب يفرض عليه من الخارج اي ان أبوية القرار تعود لصدام حسين. وهكذا تعددت السيناريوات لكي تقول ان قرار الحرب لم يؤخذ بعد، بانتظار ان ينزع صدام حسين اسلحة الدمار الشامل بنفسه، وإلا ستضطر الولاياتالمتحدة الى انتزاعها بالقوة. كل هذا المسرح، كان المقصود منه ان يزيد من قلق الرأي العام العالمي لكي يصبح قرار الحرب مخرجاً من حال الشك الى اليقين. عندئذ يصبح في حكم التسلسل المنطقي قرار الحرب، تلبية لأمنية نضجت بعد ان كوّن القلق مأزقاً. هذا مع العلم ان الأميركيين اتخذوا قرار الحرب منذ ان بدأوا إنزال جيوشهم في الكويت وفي بلدان اخرى. أدى هذا السيناريو السيكولوجي من جانب المستشارين النفسيين للرئيس بوش، الى خلق مأزق نفسي اصطناعي من النوع الرديء، لأنهم اعتبروا الناس سذجاً وقاصرين عن إدراك حقيقة شبه شفافة. فالأميركيون حزموا امرهم منذ فترة طويلة وصمموا على الحرب: سواء ابدى العراق تعاوناً أم لم يبدِ، مع المفتشين، سواء اعلن صدام حسين عن امتلاكه أسلحة الدمار الشامل أم لم يعلن، وحتى إن استقال من الحكم أم لم يستقل، اميركا قررت دخول العراق، وحرّكت جيوشها. ويدلّنا التاريخ الى أنه إذا ما تحركت الجيوش لا تتراجع إلا في حال الانكسار. الظاهرة الحديثة، أنه ما إن اعلنت ساعة الصفر لاندلاع الحرب، حتى انطلقت الفضائيات وعلى رأسها "الجزيرة" وCNN وغيرهما، في سباق ومزاحمة لاصطياد الخبر كما لو كانت في عرس، والحرب اشبه بوليمة يريد كل واحد ان يقتطع اكبر حصة من قالب الحلوى، أو إذا صح التعبير اشبه بأحصنة السباق، حيث ينتظر كل فارس الطلقة الأولى لكي يدخل في حلبة السباق امام هتاف الجماهير. الظاهر ان كل فضائية تريد ان تكسب اكبر عدد ممكن من المشاهدين لمزيد من ايرادات الربح لإعلاناتها، وتحثهم دائماً على "البقاء معنا" وانتظار مزيد من الأخبار على مدى 24 ساعة، كما لو أنها تقول لهم: لا حاجة الى النوم أو الأكل أو العمل. الحدث اصبح مورد رزق، حتى لو كان حرباً على بلد شقيق، شعبه برجاله ونسائه وأطفاله لا يختلف عن شعبنا. الإعلام همه الخبر، ولكن، هل خطر في باله تأثير اصداء هذا الخبر في نفسية الشعوب؟ وهل حصل ان اخذ في الاعتبار المفاضلة بين اخلاق المهنة وتأثيرها وبين مساوئ الخبر إن اقتضت الضرورة وتبين انه منافٍ ويسيء الى الصحة النفسية؟ الواقع المؤلم يبين ان الفضائيات لا همَّ لها سوى استقطاب المشاهد بأي ثمن، حتى لو اضطرت الى استغلال ضعفه وقلقه موصلة إياه الى حال من الاستنزاف والاكتئاب. هذا من جهة الإعلام. اما من جهة المشاهد، فهناك، كما بينت لي التجارب في حرب لبنان، الكثير من السكان المدنيين الذين اصيبوا بعصاب الحرب قلق، اكتئاب، ارق، توتر اعصاب على رغم انهم لم يشاركوا في الميدان القتالي. وأن المقاتلين الميليشيا كانوا في الماضي اقل تعرضاً لعصاب الحرب، على رغم انهم تعرضوا لخطر القتل واقترفوا الكثير من الجرائم والتنكيل والتعذيب. الواقع يبين لنا انه اذا اندلعت الحرب فليس هنالك مسالمون. فالجميع مقاتلون، ويؤلفون قسمين: قسم مقاتل فعلي: وهو الجندي. وقسم مقاتل سلبي: وهو المواطن المسالم القابع امام شاشة التلفزيون. الأول: يقاتل على ارض الميدان ويعرف حدود اللعبة، ويأخذ الاحتياطات اللازمة درءاً للمخاطر، ويعرب عن عدوانية عبر العمل العسكري. أما ذلك القابع امام شاشة التلفزيون، فهو مقاتل في الخيال عبر هواماته تصوراته الواعية واللاواعية العدوانية، ولا حاجز أمامه لأن انطلاق الخيال لا حدود له. اي ان الوضع اشبه بمباراة كرة القدم: اللاعبون الفعليون يعرفون حدود اللعبة. اما المتفرجون والمساندون فينطلقون بخيالهم لإشباع دوافعهم العدوانية اكثر بكثير مما يستطيعه اللاعبون. واذا تعدى هذا الخيال حدوده، يتحوّل الملعب الى ما يشبه ساحة قتال، يقع خلالها الكثير من الضحايا والجرحى. هذا ما اثبتته التجارب الكثيرة. فالحرب تؤجج في نفس كل واحد منا دوافع العداء والقتل على حساب المحبة والتعايش السلمي. ولا يسلم كائن بشري من هذا الهوام - قتل الآخر - اذا تعرض لإثارته. والمشاهد القتالية واجواء الحرب بصورة عامة، تثير في نفوسنا الكثير من النزوات السادية التي تستمد لذتها من مشاهد العنف والتعذيب. وهذا معروف عند هواة افلام الرعب. فوراء الخوف الظاهر والاشمئزاز، تكمن لذة خفية واستمتاع لا واعٍ، يدعوان المشاهد الى تكرار التجربة. وهذه المتعة تدخل في اطار سجل المحرَّمات، التي اصبحت قوانين تؤسس للعلاقة الاجتماعية. فكما ان الاستمتاع بالأم اثم، والقتل اثم الخ. - كما ورد في الوصايا العشر - فهناك أيضاً محرَّم اصبح عرفاً، ولكنه بقي خفياً لم يذكر، وهو الاستمتاع بالموت او القتل. فهذه المتعة المحرمة تقلب علاقة الانسان بالحياة والموت. فبدلاً من ان يكوَّن هذا الاخير حداً لكل عداء وكراهية، يصبح مورداً للذة خفية تشكل خطراً على الحياة نفسها. فلعبة الموت واستغلاله للحصول على المزيد من المال أو الملذات، لا بد من ان تؤدي بصاحبها الى ما اسميه عصاب الحرب. فالحياة لا ثمن لها سوى الحياة نفسها. وهنا يكمن الخطر على المقاتل السلبي القابع امام شاشة التلفزيون أو لاصق الترنزستور في أذنه. نراه مشدوداً نحو استقصاء الخبر بدافع قوة خفية، لكي يبدد المجهول المقلق في ذاته، سيما اذا اصبح الحدث بمثابة شاشة يسقط عليها مخاوف صدمات الطفولة او كل ما تكوّن عنده من هوامات سادية وشغف في الموت. يجد نفسه عندئذ امام منزلق يحتويه، لأنه في كل مرة يخرج باستمتاع محرّم، يشعر في آن واحد بإحباط أو قلق يتسرّب تدريجاً الى وعيه، ولا يعرف اذا كان يأتي من الداخل او من الخارج. والصدمة النفسية إن صح التعبير، تنطلق من هذا التناقض ما بين التداعيات اللاواعية التي تحمل في طياتها النزوة في العنف والكراهية والموت وما بين الأنا المثالي المتمثل بالاخلاق والقيم الاجتماعية، فينتابه نتيجة ذلك الشعور بالذنب والخوف والقلق. واذا استمر في هذا المنعطف من دون توقف سيجد نفسه امام واقع جديد، يجتاح الحدث اكثر اهتماماته الذاتية، ويرزح تحت طغيانه مهزوماً، فيفقد تدريجاً اهتمامات الحياة ومباهجها المتيسرة، لأن الاحباط الناجم عن استئصال القلق الداخلي يجعله اسيراً لتطورات الاحداث. سير المعارك اصبح طاغياً، لا يستطيع الانفصال عنه، يؤرق عليه نومه، ويفقده احلامه. لأن الحلم في مثل هذه الحال هو الوسيلة الفيزيولوجية التي تمكنه من هضم الحدث. وما الكوابيس واليقظة المرعبة الا دليل على نشل وظيفة الحلم. فهو يخاف من ان يبتلعه أكثر. وعندما تتعطل اهتمامات الحياة، امام استقطاب الحدث له وانتظاره المستمر، تحصل الاضطرابات النفسية بدءاً بالقلق وصولاً الى الاكتئاب النفسي بكل عوارضه. اي تتضاءل اهمية الحياة لكي تحل محلها رغبة يأسوية ومأسوية. هل يستخلص من هذا الحديث، اننا كي نتجنب مثل هذا المأزق، يجب أن نتعامل مع الحدث باللامبالاة او حتى التنكر لوجوده؟ الواقع يفرض نفسه، ولا مناص لنا من مواجهته، ولكن الفارق كبير ما بين التواطؤ اللاوعي مع جوانبه المدمرة، وما بين مواجهته بالسبل الفكرية المتيسرة لنا، التي قد تدفعنا الى اعادة النظر بمواقفنا السابقة. لأن الحدث في مثل هذه الحال، يكون نتيجة وليس سبباً. واعتقد ان التظاهرات التي بدأت تعم العالم العربي، هي كناية عن استجابة لنداء الحياة بدلاً من الغوص في هوام الموت. فالتظاهرات ساحة ميدانية يمكن المواطن العربي من خلالها ان يخرج من السلبية التلفزيونية الى الساحة التعبيرية لكي يعبر عن رفضه للساحة القتالية العسكرية. وهي علاج افضل من كل اصناف المهدئات والمضادات للاكتئاب. الحدث يقول كلمته ويمشي. ولا يمكن التعامل معه الا بواقعية منطقية، لأنه مستحيل ولا عودة عنه. المهم، ما يترك من تأثيرات في الجيل المعاصر، والاجيال القادمة. والمطلوب هو استيعابه بالإطار الرمزي اي اعادة النظر في ما كان سائداً قبل الحدث، لئلا نجعل الخيال يتحكم بنا ويضللنا عن رؤيته بكل ابعاده. وهذا يتطلب من المواطن العربي السؤال والاجابة: البترول هبة إلهية، أم هبة شيطانية؟ * بروفسور. رئيس المركز العربي للأبحاث النفسية والتحليلية.