تتجه انظار العالم الى ما سيحدث في العراق، وأصبح بوش وصدام شخصيتين تستفردان بالإعلام العالمي، حتى يخال المرء ان العالم تقلص الى ساحة مبارزة في لحظاتها الأخيرة بين بطلي الشاشة. والمشاهدون من رؤساء العالم انقسموا ما بين مؤيد ومعارض لمبدأ الحرب، لأن ما سيحصل على الشاشة من قتل ودمار ومآس سينتقل الى المتفرجين على خلاف ما يحصل في افلام الفيديو. فجميع سكان المعمورة، وجدوا انفسهم على غير علم منهم في حلبة المصارعة، إذ ستعم الفوضى ويختلط المتفرج مع المقاتل، والعكس صحيح. والسبب الأساس لهذه الفوضى، بخلاف ما كان يحصل في الماضي من اجتياحات قوى عظمى لبلدان ضعيفة، ان مبادئ هذه الحرب ودوافعها غير واضحة الى الآن على رغم كل الكتابات والتحليلات. المؤكد ان الحرب المقبلة قائمة على أساس الالتباس. في الماضي كانت الأمور واضحة. كلما قويت دولة وبلغت القدر الكافي من الشدة، اجتاحت البلدان الأخرى، فإن كتب لها النصر أسست امبراطوريتها، الى ان تتآكل من الداخل فتضعف، عندئذ تتحرر منها البلدان المحتلة، أو يأتيها غازٍ آخر ويؤسس على أنقاضها امبراطورية اخرى، كما شهد التاريخ الامبراطوريات الفارسية واليونانية، كما الرومانية والعربية الخ... اي ان مبدأ القوة يبرر نفسه ولا يحتاج الى من يبرره. الضعيف يخضع للقوي، بغض النظر عن حقوقية القتال ومشروعيته. لكن الإنسان كي يحافظ على انسانيته، يحب دائماً ان يبرر القتل. لا يمكن ان يستمر في انسانيته إذا لم يبرر ذلك، وإلا يكون اقدم على عمل انتحاري. في الماضي كان يطلب من الضعيف ان يستسلم لمشيئة القوي، فإذا اعترض، يستبيح هذا قتله لأنه يشكل خطراً على قوته، ويمكن ان تتحول العملية الى العكس. في هذه المعادلة يحتاج القاتل الى ان يضع نفسه في خانة الدفاع عن النفس، ولو كان الأمر كذباً، وإلا لا يعطي نفسه حق القتل. الضمير الإنساني بعد الحروب القومية في القرن التاسع عشر والحربين العالميتين الأولى والثانية، تطور وأدرك الخطر الذي يهدد الإنسانية، إذا لم تشرَّع الحروب ويسمح بالقتل، حتى تخرج النيات الإجرامية المبيتة من ضباب الالتباس. عبر التاريخ الإنساني، لا احد يستطيع ان يتحمل ابوية العنف والقتل. والظاهر ان كل إقدام على هذا العمل غير الإنساني يحتاج الى مبرر كرد فعل على اعتداء حصل سابقاً. اميركا تريد غطاء الأممالمتحدة، وتصر على ذلك وتستعمل كل الوسائل التي تملكها من عسكرية الى اقتصادية، الى إعلامية الخ... كي تجبر الدول، على رغم عدم قناعتها، على إعطائها غطاء انسانياً للحرب والقتل. فمن دون هذا الغطاء ستجد نفسها في عمل عسكري، لا تستطيع ان تتحمل نتائجه، خصوصاً اذا اضطرت لارتكاب الكثير من المجازر التي تخل بمفاهيم روابط السلام، فتدخل حينئذ في عداء ليس فقط مع دول العالم، انما مع المفاهيم والقيم الإنسانية. لأن ذلك ينعكس على الأجيال القادمة. الهدف الأساس عند اصحاب القرار الأميركي، ان يحصلوا على شرعية الحرب، وفي آن واحد تحت غطاء الحفاظ على القيم الإنسانية التي انبنى عليها المجتمع الأميركي وحقوق الإنسان والحرية والديموقراطية. فإذا حصلت على هذين الشرطين ستطلق يدها بحرية في العمل العسكري من دون اي اعتبار للجرائم التي يمكن ان ترتكب، وفي الوقت نفسه على راحة الضمير. هل من قوة في العالم يمكن ان تمنع اميركا من خوض الحرب؟ الجواب السريع: ليس من قوة في العالم قادرة على ردع اميركا عن حرب العراق. إذا كان لا بد من الحرب، وهذا ما تقرر حتى الآن وقد حصل عملياً، فما يقارب من مئتي ألف جندي على الأرض هو اعلان حرب احتمالية لا محالة، فإذاً يجب علينا ان نتعامل معها على اساس حدث يدخل في احداث التاريخ للشعوب القاهرة. لكن الفارق بين الآن والماضي، اننا نعرف حقوق الإنسان، بينما كنا في الماضي لا نعرف. وهذا الحق المتمثل في الضمير الإنساني الحضاري هو سلاح في حد ذاته، لا يستطيع أحد ان يدعي ابويته، لأنه مؤسس العلاقات الإنسانية وتعايشها وليس العكس، فهذا اساس وجود النظام الأميركي وأساس الثورة الفرنسية وقيم الأديان السماوية. وفي اعتقادي: إذا أعطت الأممالمتحدة هذا الغطاء الإنساني للحرب الأميركية على العراق، قد تكون نتائجه اسوأ بكثير من الحرب نفسها على علاقات البشر مستقبلاً. فالعالم لا يستطيع منع اميركا من الحرب، لكنه قادر ان يحرمها من الشرعية الدولية. وإذا ما تحقق هذا الحكم، ستجد اميركا نفسها ضعيفة امام قوتها العسكرية، لأنها ستخلق عندها ازمة ضمير لا يمكن ان يتحملها المجتمع الأميركي. وخلافاً لما يتصور عامة الناس، لا توجد حرية في العمل العدائي وقتل الآخر، إلا عند المصاب بالبارانويا. والآن، كما يقال، غادر قطار الحرب المحطة، فركب من ركب وبقي في المحطة من بقي. ما هي احتمالات اللحظة الأخيرة. وهل هنالك من مفاجآت؟ بالنسبة الى الإدارة الأميركية ولجورج بوش بالذات، الأمور حسمت و"اللعبة انتهت". إذاً، ماذا ينتظر من صدام حسين؟ هناك احتمالان: إما ان يستقيل وإما ألاّ يستقيل ويقرر المقاومة. احتمال الاستقالة مفاجأة قد لا تحملها إلا الساعات الأخيرة او حتى اللحظات الأخيرة... وهذا القرار قد يكون نتيجة اتصالات ووعود، وحماية تؤمنها الدولة الأميركية. القرار مرتبط بواقعية صدام حسين وتقديره كقائد لحساباته على الأرض. ولكن بالدرجة الأولى لبنيته النفسية، ومدى تعلقه بالحياة. وهذا يتطلب منه التخلي عن كل احلامه ومثله العليا التي عمل لها طوال حياته، والقبول بالهزيمة النهائية على غرار هنيبعل ونابوليون وهتلر وغيرهم من قادة التاريخ، اي يلحق بركاب المهزومين. وهذا مخالف تماماً لمثاله الذي كان دائماً يتماهى بصورة صلاح الدين الأيوبي الى حد الاعتقاد انه من سلالته. والسؤال الثاني: هل وضع امامه احتمال الشهادة على غرار الإمام الحسين؟ فهذه لحظة حاسمة يتخللها صراع نفسي عنيف ما بين ضياع المثل التي انبنى عليها، وما بين الدخول في ضمير التاريخ. لا أعرف شخصية صدام حسين، لكي أتنبأ بما سيفاجئنا به. لكن الذين يعرفونه يؤكدون ان صدام حسين لن يتراجع وقد وضع في احتمالاته استشهاده واستشهاد كل افراد عائلته، لأنه اولاً تماهى بالسلطة، ففقدانها يعني زواله وموته النفسي قبل الجسدي. وقد لا يكون عنده تصور مسبق للعيش في المنفى، ملاحقاً من كل استخبارات العالم، ولذلك يستبعدون استقالته. وفي حال حصلت، تكون اميركا حققت حرباً ناجحة مئة في المئة لأنه نصر مثالي في "صفر" موت، لم يكلفها سوى حرب إعلامية، ويكون ابطالها علماء النفس المستشارون، والفريق السياسي المحيط ببوش، وأتصورهم في حال اعلان ذلك كعلماء nasa يقفون فرحاً ويصفقون ويقبلون بعضهم بعضاً مهنئين عند نجاح انطلاق صاروخ الى الفضاء. وستتعزز ثقتهم بسياستهم واستراتيجيتهم في العالم. لكن هنالك عاملاً اضافياً قد يذهب الرئيس العراقي باتجاه الاستقالة إذا ما تحقق. وهو ان صدام حسين اذا اقدم على الاستقالة قد لا يكون ذلك حباً في الحياة، إنما كرهاً وانتقاماً من زعماء العرب والمسلمين. فهو يضمر في طياته حقداً عليهم لا حدود له، بعدما تأكد له خذلانهم إياه وسكوتهم امام الأميركي. فعندئذ يستقيل لكي يقول لهم انه هو البداية وهم اللاحقون. فما تحقق على رغم انه اكبر قوة بينهم سيطاولهم واحداً بعد الآخر، وهو يكون اعطى اميركا الأسبقية والمرجعية للاقتداء بهذا النموذج. ويتحول امله في البقاء على قيد الحياة، فقط بدافع الانتقام، لكي يرى تلك الرؤوس تسقط على مرأى منه الواحد تلو الآخر. وهذا فقط يكون سبباً للحياة. ويكون في آن واحد دخل مع اميركا في عقدة الانتقام. وهي اصلاً ايديولوجية اميركية. الاحتمال الثاني: المقاومة إذا اختار صدام حسين البقاء في السلطة والمقاومة، يكون حسم امره باحتمال الاستشهاد هو وعائلته وأفراد قبيلته وكل اصدقائه وأحبائه والمخلصين له. وهنا تكون المفاجأة كبيرة. فإما ان تنجح القوات الأميركية في القضاء عليه سريعاً، اي في الأيام الستة الأولى ويحسم الأمر بسرعة ويكون درساً كافياً لكل من تخول له نفسه في المستقبل معاداة اميركا. وإما ان تخطئ الحسابات الأميركية، وتحصل مقاومة لم تكن في الحسبان وتطول الأزمة الى اكثر من اربعين يوماً اي وقت استنفاد الذخيرة الصاروخية. عندئذ تبدأ اميركا الغرق في رمال الصحراء. وإذا حصل - وهذا محتمل في حال العجز - ان استعملت اميركا اسلحة الدمار الشامل وارتكبت المجازر ونقلها الإعلام، فستعم عندئذ التظاهرات انحاء العالم حتى في اميركا نفسها. اضافة الى ان الحدث يشكل صدمة كهربائية للمجتمع العربي، فيهب من سباته، ويتحول الإرهاب المقيت الى استشهاد مباح ومحبب مهما كان مصدره اصولياً او علمانياً. والفوضى - كما يتنبأ الإعلام - ستعم العالم العربي بأجمعه، وتطاول كل المصالح الأميركية، والحكومات ستجد نفسها في مأزق لم تشهده من قبل. فهي لا تستطيع ان تحتوي هذا الهياج ولا تستطيع في آن واحد ان تحمي نفسها من ردود الفعل. وما يصب الزيت على النار إذا تحركت اسرائيل، وأشعلت النار في شرائح المجتمع العربي، من المثقف الى الرجل العامل، لأن الوضع يختزل بوجود، او عدم وجود. والخطر الأكبر هو ان التفتيش عن اسلحة الدمار الشامل لا تظهر حقيقته إلا في اللحظات الأخيرة، إذا ما تأكد لصدام حسين انه اصبح هو وعائلته وأصدقاؤه على حافة الاستشهاد، فلا يهمه ماذا سيحصل، أيخرب العالم او تعم الفوضى والدمار فهذا آخر همه؟ عندئذ إذا كان يملك فعلاً اسلحة الدمار الشامل فسيطلقها من دون تأخر، وتكون المفاجأة كبيرة بالنسبة الى تعدد نوعيتها وكميتها. ويكون دخل التاريخ من باب شمشون الثاني. وإذا كان لا يملك اسلحة الدمار الشامل فإنه سيستشهد هو وعائلته بريئاً من التهم التي وجهت إليه، ويدخل التاريخ عندئذ من مثال الإمام الحسين بن علي. وعلى رغم ان الإدارة الأميركية تملك القدرة على تلفيق كل هذه الحقائق، وأن وسائل الإعلام قادرة على توجيه الأضواء على ما يخفيها، الا ان الضحايا الأميركيين سيظهرون حقيقة لا يستطيعون اخفاءها، وهي، كما قال احدهم إن الشعب الأميركي ساذج يذهب الى الحرب للدفاع عن اميركا ويموت من اجل المصانع الأميركية. * محلل نفسي لبناني.