الطاغية صدام حسين سواء كان على قيد الحياة أو قابعاً في أحد الدهاليز، لا يزال طيفه كامناً وراء كل عملية عسكرية، وفي الداخل يعزز الخوف والرعب في ذاتية كل عراقي، لا سيما بعد اكتشاف المقابر الجماعية. وإذا ذكر اسم صدام حسين، طلب المتحدث كما ورد في مقابلات لبعض الصحافيين ألا يذكر اسمه، وبدأ يتكلم عن صدام بصوت مخفوض كي لا يسمعه أحد، أو يتلفت يميناً وشمالاً كي يتأكد من أنه غير مراقب. هذا الخوف الداخلي يطاول مجمل الرجال من مدنيين وعسكريين بعدما تأسس في نفسية كل عراقي خلال 30 سنة من القمع والتعذيب أو الابادة لكل من تسول له نفسه الاعتراض أو الاحتجاج. فكأن نظرات الطاغية تلاحق المواطنين في كل زاوية في كل شارع وفي كل مكتب. لا يفلت منها أي منهم، ولا تخفى عنها أي نية سيئة أو معادية للزعيم وإن كانت امتناعاً عن التصفيق في حفل أو حركات احتجاج. كذلك النساء لم يكن في منأى عن هذه السلطة المطلقة، كما تقول "منسية"، وهي احدى محظيات صدام، فإنها اختيرت من بين زميلاتها في المدرسة عندما تعرضت لنظرات صدام، وكان ذلك كافياً لادخالها في جناح حريمه. وتقول "منسية" انها قد تكون من ضمن مجموعة من الفتيات وقعت عليهن رغبة القائد. وتزيد انها لا تستطيع ان تحصي عددهن، وتخاف ان تكشف أكثر من ذلك لأن خوف صدام حسين لا يزال قائماً في نفسها على رغم غيابه أو ربما موته. السؤال: إذا كان طيف صدام حسين لا يزال يلاحق العراقيين ويحبط عزائمهم على رغم يقينهم انه لن يعود الى السلطة، لا بد لنا من استعراض ما تطرأ اليه سيغموند فرويد في كتايه "التابو والطوطم"، عن الدب البدائي وبزوغ القانون الأول الذي ينسق العلاقات الاجتماعية ويربطها. يقول فرويد: بدأت الإنسانية بالعائلة الأولى المكونة من الأب المتسلط الطاغية وبقية الأفراد من أبناء وبنات ونساء. وإن هذا الأب كان يعطي لنفسه الحق في ممتلكات القبيلة بمن في ذلك النساء، يتمتع بهن حين يشاء ويسخر الرجال ايضاً لخدمته، أما الأبناء فمحرومون من أي مكتسب وبصورة خاصة من أي حق لاشباع نزواتهم الجنسية. الى أن أتى يوم ثار فيه الأبناء على الأب واتفقوا على قتله، والتهموا جسده. لكن هذا الفراغ الناتج من غياب الأب المتحكم، حوَّل الأبناء الى صراع على السلطة ما أدى الى حرب أهلية كانت كما يقول فرويد، بداية الحروب في العالم. وسبب القتال أن الأبناء لم يروا أي فرد منهم معادلاً لسلطة الأب ويمكنه أن يعبئ الفراغ الذي تركه. لذلك عندما أصيبوا بالعجز بعد قتال مرير، اتفقوا على أن يتخلوا عن ملء فراغ هذا الأب المثالي، ونصبوا مكانه القانون الأول الذي يحرم المحرَّم الأول أي الأم. ولئلا يختصموا قرروا أن يتساووا في الحقوق والواجبات. يزيد جاك لاكان تعليقاً على ذلك: ان القانون بمفهومه الرمزي، لا يمكن أن يبزغ الى الوجود لولا قتل الأب، وتجسيداً لسلطة هذا الأب المقتول نصبوا مكانه الطوطم لكي يجسد هيبته ورهبته، يقدمو اليه الضحايا ويقيمون حوله الطقوس ليكفوا شره ويكسبوا رحمته بعد أن استباحوا استعداءه. هذه العائلة الأسطورية يقول فرويد، اعتماداً على ما قال داروين في نظرية النشوء، لم توجد في أي من الأزمان، ولا يمكن تحديدها تاريخياً، فهي كناية عن تصور لما يمكن أن يكون بداية التاريخ الإنساني. فرويد اعتمد على هذا التصور انطلاقاً من الخبرة التحليلية التي تؤكد وجود هذا الهدام في كل بنية نفسانية لأي رجل يتمسك بالسلطة القضيبية. فقتل الأب رمزياً هو عملية نفسية يمرَّ بها كل طفل كي يتخلص من هذا الأب المتخيل الذي يحول بينه وبين متع الحياة. ولولا هذه العملية النفسية لبقي الإنسان في العصر الحجري، ولما كان في امكانه تخطي الأب. نستنتج من ذلك، إذا اعتبرنا ان هذا الهدام مشترك بين الذكور، أمرين مهمين: 1 - بعد قتل الأب رمزياً في الذات يمتنع الشخص عن الحلول مكانه واغتصاب سلطته، وبفضل عامل الخصاء يضع حداً لكل الملذات ولامتلاك كل المكتسبات. 2 - ولكي يضمن ذلك، يعتمد القانون مخرجاً له كسلطة عليا وسيطة تتحكم بأعماله وأخلاقه، ولا تتجاوز حدود الآخرين، وهذا ما يسمى بالضمير الإنساني. ولكن يتبين لنا من خلال التحليل ان الإنسان السوي لا يشفى نهائياً من جاذبية هذا الهدام، لا سيما إذا تهيأت له الفرصة عند وصوله الى سدة السلطة، وأصبحت تمنياته أوامر ينفذها الآخرون. وهذا ما نراه يحصل في الأنظمة الديكتاتورية حيث يتعين الحاكم باغتصاب السلطة. فهو يكون استباح قتل الأب الرمزي حينما يقتل فعلاً من يمثلونه ويستطيع ان يصبح في حل من أي دين خارجي لا سيما ان وجوده في السلطة لم يأت نتيجة انتخابات تلزمه بدين تجاه جماهيره، أو بالمحاسبة واسقاطه ان هو أخطأ. نراه يحكم بفضل سلطته وطغيانه، ويحقق من خلال ذلك نزواته والاستمتاع بلا حدود وبحسب ما يراود ذهنه. هذا الهدام للأب البدائي نجده لدى كل من وصل الى السلطة، ولكن، له حدود في البلدان الديموقراطية بفضل الوعي الشعبي والمحاسبة التي تهدد وجوده باستمرار. أما في بلاد الانقلابات العسكرية، فلا رادع له سوى ضميره لأنه أصلاً يكون قد ألغى المحاسبة الشعبية. والمحيطون به يدينون له بالولاء، لأنه وزع عليهم الرتب والمكاسب والملذات. فهم يعرفون في قرارة أنفسهم ان ولاءهم له مرهون بالخوف منه وبالملذات التي تكرم بها عليهم. صدام حسين، لم يكن يمثل شيئاً قبل وصوله الى سدة السلطة. لذلك نراه منذ البداية حتى النهاية في حال من الحذر والرعب يعممها على كل من حوله وعلى عامة الشعب، فالجميع في خانة الاتهام حتى يبينوا ولاءهم له. وتوصل في النهاية الى كسر قاعدة 99 في المئة ليصل الى 100 في المئة من التأييد، أي بمعنى آخر لم يبقَ معارض واحد ولو كان مقعداً. تحت تأثير هذا الهدام البدائي استطاع صدام حسين أن يكوّن ثلاث صور في مخيلة الوجدان الشعبي. 1- صورة الأب السلطوي الذي لا يرحم أعداءه أو من يخالفه الرأي، وفي آن واحد الأب العادل الخيّر، الذي يوزع المكاسب والملذات على كل من يبدي له الولاء. أي انه أصبح في نظر الجميع المالك الحق لكل البلاد بثرواتها، وان أعطى فكمن يعطي من جعبته الخاصة، فالعراق بأكمله أصبح بحكم الهدام تتحكم به ملكية خاصة، يوزع منها صدام كما يشاء. 2 - صورة المستمتع بكل الملذات - من بناء قصور بجنائنها الغناء، الى اقتناء السيارات والخيول والطائرات واليخوت الخ... أضف الى ذلك الاستمتاع بما يحلو له من النساء من دون أي عائق أو محرم كما حصل ل"منسية"، المتعة من دون حدود، تجعل منه شخصاً لا يخضع لقانون الخصاء الرمزي. أي كما يقال في اللغة المتداولة عند لاكان: يوجد شخص على الأقل فوق القانون، لأنه هو القانون في حد ذاته. 3 - نصب صدام نفسه مثالاً أعلى، انطلاقاً من الأصنام التي بناها في كل ساحة، وهي أشبه بأصنام العبادة أكثر منها بتماثيل، لأنها تبعث الرهبة في نفوس الشعب كطوطم، والصنم كما نعرف لا ينقصه شيء فهو يكتفي بذاته كالجثة الهامدة. واللافت للنظر ان التمثال ينصب تخليداً لإنسان بعد الموت لكن صدام حسين أراد تخليد نفسه في حياته، أي أنه في الصنم قد استبق الموت ليصبح في آن واحد حياً - ميتاً. السؤال في العراق: ماذا بعد صدام حسين؟ هل زال ما بناه صدام حسين في نفوس الشعب العراقي من هدامات طيلة ثلاثين سنة من الحكم؟ وهل شفي الشعب العراقي من عقدة صدام حسين بمجرد دخول قوات الاحتلال الأميركية؟ الواضح ان صدام حسين في سدة الحكم كان يتسبب بشعورين متناقضين: الأول: الخوف منه كرمز لصورة أبوية بدائية رهيبة يريد الأبناء التخلص منه. الثاني: اعجاب ومثال أعلى على غرار الأب المثالي، يتماهى به كل مواطن ويتمنى في لا وعيه ان يصل إليه، لأنه يمثل الموقع الذي يؤمن المتعة المطلقة، كونها لا تطاولها عقدة الخصاء، وهذا الموقع كما نرى عبر الانقلابات العسكرية التي تحصل، يشكل الكمين الذي يقع فيه كل قائد جديد، فسريعاً تستلب إرادة التغيير لكي تغرق في رمال الملذات وشهوة السلطة تاريخ الانقلابات في المجتمع العربي وغيره، خير شاهد. إذا دمرت الأصنام وأزيلت الصور عن الجدران، هل في المقابل تزول صورة القائد والخوف منه من النفوس؟ الواقع الحاضر، يبين لنا الآثار السلبية لهذه التجربة المرة. فزوال صدام حسين، حرر الناس، ولكنه لم يحررهم من الكراهية التي غذاها ونمّاها طوال عهده، وللكراهية هذه وجهان: وجه عمودي باتجاه القائد، فما الخوف إلا قناع يحتمي به من رد فعل هذ الكراهية. ووجه افقي يطاول علاقة المواطن بالمواطن فلا أحد يثق بالآخر وإن كان من افراد اسرته وعشيرته. اي ان الآخر اصبح يشكل خطراً محتملاً، وقد توسع ذلك ليطاول العشائر في ما بينها والمذاهب والطوائف. في عهد صدام كانت الوحدة العراقية تتحقق بالخوف منه، اما الآن فقد تحرر الشعب من الخوف وانطلقت العدوانية أيضاً من خلال الشعارات التي تؤجج التفرقة والتباعد والانفصال. هذه الظروف تشكل المناخ لاندلاع الحرب الأهلية. لأن العداء نزوة موجهة ضد الآخر، فإذا انطلقت كما شهدنا في الحرب الأهلية اللبنانية، لا بد ان تحرق الأخضر واليابس، حتى تصل الى مثواها الأخير، نزعة الموت، كما سماها فرويد. ومن الغريب ان نسأل لماذا اذاً لم تندلع حرب أهلية في العراق؟ هذا امر لم يدركه علماء النفس من مستشاري بوش: وجود القوات الأميركية كعنصر خارجي محتل، حوّل العداء الداخلي الذي كان يمكن ان يتحول الى حرب اهلية، الى عداء خارجي تجاه الاحتلال الأميركي. استطاع الأميركيون بفضل جهلهم الجوانب النفسية للشعب العراقي، ان يستقطبوا هذا العداء ويمتصوا كل جوانبه. فأصبحوا بحكم هذا الموقع إن استمر، عاملاً موحداً للشعب العراقي يتحقق به هدفان: عامل التحرير من ناحية، وعامل تطهير الشعب العراقي من الكراهية التي ورثها من نظام صدام حسين. ولكن هل الأمور ستستمر في هذا الاتجاه وتتحقق وحدة العراق؟ أم اننا سنشهد اقتتال المضطهدين سابقاً بين طوائف وعشائر ومذاهب، ما يؤدي الى تقطيع العراق إرباً إرباً ويحمل طيف صدام حسين في طياته الموت، لكنه ينتصر. * بروفسور. رئيس المركز العربي للأبحاث النفسية والتحليلية.