الحرب التي ينتظرها الجميع مقبلة خلال الأيام أو ربما الساعات القريبة كما لم يسبق. كل شيء معد لهذه الحرب، بما في ذلك اسمها "التاريخي" الذي تتناقله وسائل الإعلام منذ بداية الحشودات الأميركية والبريطانية. الرهانات والتأويلات تتعدد في نتائج هذه الحرب بعدد المعلقين الصحافيين والسياسيين في معسكري الحرب والسلم، ولكل فريق حججه وتوقعاته. غير ان النتيجة المتفق عليها في كلا المعسكرين هي ان قوات الحرس الجمهوري الخاص وفدائيي صدام، وهي القوات التي ستدخل ميدان المعركة المرتقبة، لن يصمدوا طويلاً أمام "الارمادا" الأميركية التي تبدو اليوم في أوج عنفوانها منذ حرب الخليج الثانية. "البويز" the boys أو الجنود الأميركيون يتعجلون العودة الى بيوتهم قبل الصيف المبكر للشرق الأوسط، كما يصرحون للصحافيين، وهم يأملون حرباً خاطفة تطيح صدام حسين ونظامه في أيام لن تكون تمنياتهم بعيدة من الواقع. فالحرب ستكون خاطفة عسكرياً لاعتبارات منطقية واضحة من وجهة النظر العسكرية بحكم التفوق الأميركي والتحييد المسبق للطيران والبحرية وثلثي قطعات الجيش العراقي، اضافة الى عامل النقمة اللامحدودة في أوساط الشعب العراقي تجاه الرئيس العراقي ونظامه. قد نشهد عودة لسيناريوات، كانت لسنين قريبة تبدو ضرباً من الخيال كإنزال القوات البريطانية في البصرة وتمركزها في قاعدة الشعيبة، بالضبط كما حدث في العام 1915. كل شيء محتمل في بلاد يبدو أنها تكرر تاريخها لولبياً. غير ان مسودة قدر العراق المرسوم في المكتب البيضوي للبيت الأبيض، لم تأخذ في الاعتبار جملة ثوابت سيكولوجية - تاريخية تتعلق بالعراقيين خصوصاً، قد تجعل من الحرب أطول من لحظة سقوط بغداد تحت ضربات العساكر الأميركية. لن يرضخ العراقيون بسهولة لقدرهم المكتوب في المكتب البيضوي. الانتقادات العلنية للخطة الأميركية في احتلال البلاد لأمد ولو محدود، بدأت في لب المعارضة العراقية القريبة من الولاياتالمتحدة للمخطط الأميركي عبرت عنها مقالات لأقطاب محسوبين على هذا الخط وانتقادات عنيفة غير علنية في أكثر من صف. الانشقاقات في المواقف بدأت والمواقف ذاتها ستتكرس على الأرض، منذ اللحظة التي قررت في الإدارة الأميركية الانفراد بالعمل العسكري مع البريطانيين واستبعاد "تحالفي الشمال والجنوب" الكردي والشيعي. تطورات الحرب على الأرض لحظة نشوبها واحتمال استعمال أسلحة غير تقليدية من الطرفين قد تضيف أسباباً لتوسيع الخلاف بين الأميركيين والعراقيين وبالتالي خروج العداء التقليدي للولايات المتحدة من قمقمه الذي أخفته لحين مصالح العراقيين وتقيتهم التقليدية. ولعل توسع الحملة العراقية التي تطالب بتنحي صدام حسين ونفيه، هي آخر تعبير عن الأمل في تجنب الحرب. من الواضح اليوم ان الخطة الأميركية ستستثني غالبية المعارضة العراقية، أي بقدر وآخر، الغالبية المطلقة للعراقيين. والاحتلال الأميركي سينجر لتبرير واقع الأمر بتنصيب حكومة مدنية وهمية من طراز حكومة فيشي التي نصَّبها الألمان مع الماريشال بيتان لحكم فرنسا لحظة الاحتلال النازي. ليس بعيداً من التصور أن يلجأ الحاكم الأميركي القادم لبلاد النهرين الى تنصيب حكومة في منطقة "الدباش" منطقة في وسط بغداد قرب حي الكاكمية، فيها بستان ومطحنة وسائر ممتلكات عائلة الجلبي التي صادرتها السلطة وسط بغداد برئاسة أقرب الشخصيات العراقية للولايات المتحدة تكون واجهة مدنية للاحتلال. وبحكم الخلافات العائلية والتاريخية والسياسية والشخصية أيضاً فلن تستطيع هذه الحكومة أن تلم شمل أحد من العراقيين بقدر ما ستكرس حالاً من الفوضى تجعل الاحتلال مبرراً لكبح جماح هذه الفوضى. ومنذ هذه اللحظة، فإن المثل الصيني "الأزمة هي خير الحظوظ" سينطبق على الحال العراقية، التي بعد أن تحررت من عقدة الخوف من النظام الصدامي ستمضي الى مديات جديدة. وسيساهم الاحتلال من دون شك في اعادة صهر الشخصية العراقية التي مزقتها ثلاثة عقود من القمع والتهميش، في قالب جديد أكثر واقعية ووطنية يقربها من الهوية القديمة، هوية أوائل القرن العشرين، مطعمة بثلاثة عقود من خبرات القمع والمنفى. وسيجد الحافزان الديني والقومي عنصرهما المشترك والمعقد في المكان المغيب طويلاً: العراق التاريخي، بتضاريسه المتشابكة وخصوصيته كبلد محاددة عرقياً وثقافياً. ولعله في زمن قياسي سيجد العراقيون حالهم في وضع أكثر انسجاماً مع أنفسهم للاعتراض على الاحتلال الأميركي ومن ثم مقاومته عبر رموزه المحلية أولاً ثم في شكل مباشر لاحقاً. لن يكرروا "ثورة العشرين" التي لن تتكرر في العام 2003. فالعراق أصبح أكثر تعقيداً بعد قرن من هذه الثورة. لكن الحال النادرة المتمثلة في "احتلال العراق وفقدانه السيادة" سيكون لها من الأثر المعنوي السلبي على العراقيين وجيرانهم، ما سيذكي "نعرة قومية عراقية" لم يعرفها أهل العراق حتى في الحمى القومية للقرن العشرين. ان حال البحث عن الهوية العراقية التي أذكتها سنوات صدام حسين عبر ادعاء ملكيتها بعد تمزيقها على النحو الذي نعرفه، ستجد صداها المضاد في فكرة الاحتلال ذاته لبلد مثل العراق. لن يكون غريباً ان أول الأهداف الرمزية التي سيحرقها العراقيون هي العلم الأميركي الذي ستوزعه قوات الاحتلال لحظة دخولها المدن العراقية! في الوقت ذاته، فإن حال الانشقاق العالمي، التي بدأت لحظة تقرير بليكس أمام مجلس الأمن الشهر الفائت والتوجهات الدولية الجديدة المختلفة، ستأخذ منحى آخر، أكثر حدة، سياسياً على الأقل. وسيكون الانشقاق العالمي عوناً للعراقيين في استراتيجية المقاومة، اضافة الى الغليان في المنطقة الذي ستؤجحه تطورات الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي في منحاها المأسوي، وانسحاب العراق المتوقع من منظمة أوبك واصطفافات العالم الإسلامي - الآسيوي المقبلة وعوامل أخرى أقل شأناً. كل هذا سيجعل موضوع الاحتلال مادة لتشكيل فحوى المصير المقبل، خصوصاً مصير منظمة الأممالمتحدة، وجودها أو عدم وجودها كمنظمة دولية. كما ان التطورات التي ستمتد الى المنطقة، بحكم الموقع الاستراتيجي للعراق في حلقة بلدان الشرق الأوسط ستجعل من موضوع الاحتلال بنداً أول في الانتخابات الأميركية المقبلة التي ستقرر مصير الإدارة الحالية ومصير الولاياتالمتحدة لعقد مقبل. خلال ذلك فإن تحالفات جديدة، محلية وإقليمية وعالمية، ستجعل من الاحتلال المباشر أمراً غير ممكن، خصوصاً ان حكومة "الدباش" لن تكون قادرة على الإيفاء بوعود الديموقراطية والفيديرالية والمجتمع المدني. بل أكثر من ذلك قد ينحصر مشروعها في البقاء على حساب عملية اعادة البناء، ما سيزيد من هشاشتها وتحولها الى "جمهورية خوف" جديدة. في حال كهذه، فإن آذار مارس "الذي يسميه العراقيون شهر الهزات والامطار" لن ينتهي بعد سقوط القنابل الذكية أو القنابل الذرية غير المشعة التي، بعد تجربتها في كاليفورنيا، ستسقط على بغداد. بل ان هذا الشهر سيكون الأول في سنة جديدة لن يستطيع أحد عد شهورها ولو كان من الراسخين في العلم. * كاتب عراقي مقيم في فرنسا.