ينتمي جان شمعون الى جيل السينمائيين اللبنانيين المخضرمين الذي بدأ قبل اندلاع الحرب الأهلية ترسيخ أساليب جديدة تتناقض مع ما كان سائداً من سينما لبنانية. وراهن شمعون منذ البداية على أهمية الفيلم الوثائقي وأخرج عدداً من هذه الأفلام عرضت على أكثر من مئة محطة تلفزيونية ونالت جوائز عالمية، ومع هذا بقي حلمه تحقيق فيلمه الروائي الأول فكان له ما أراد عام 2000 حين أبصر النور "طيف المدينة" حاصداً ثلاث جوائز هي: لجنة التحكيم الخاصة لمهرجان "كان جونيور 2001" وجائزة امتياز من لجنة التحكيم في مهرجان قرطاج السينمائي 2000 فضلاً عن جائزة فضائية "الأندلس" في مهرجان تطوان لأفلام البحر المتوسط 2001. ومنذ ذلك الحين غاب صاحب "رهينة الانتظار" و"أحلام معلّقة" و"أنشودة الأحرار" و"تحت الأنقاض" عن السينما وغاب جديده معه الى أن بدأ أخيراً تصوير فيلم جديد حول الخيام. فما سبب هذا التوقف ولماذا لم يبدأ بفيلم روائي جديد بعد "طيف المدينة"؟ يجيب شمعون: "لم تكن الغيبة شللاً في الأعمال بقدر ما كنت أريد أن أعطي "طيف المدينة" حقه. من هنا كنت في هذه الفترة أتابع قضية الفيلم الروائي وتوزيعه الى حدّ ما نجح الفيلم وعرض في كندا في ثلاث صالات وسيعرض قريباً في نيويورك وواشنطن وسان فرانسيسكو، ونال جوائز عدة وكتبت عنه الصحافة في شكل جيد. أما رد الفعل في لبنان، فجاء إيجابياً جداً، إذ قمنا بجولات في المدن والقرى وعرضنا الفيلم وناقشناه. واللافت في الأمر أن جيل ما بعد الحرب كان لديه الفضول ليتساءل ويسأل أكثر عن الحرب. فهو اكتشف، ولو جزئياً، أنه لا يعرف شيئاً عنها وهذه مسؤولية مشتركة من الأهل والمدرسة والمؤسسات التربوية. ففي بلدنا لا تزال قصة الحرب مغيبة وهذه جريمة في رأيي ترتكب بحق الجيل والتاريخ، إذ من الضروري التكلم عن الحرب، ومن الضروري أيضاً أن يكتشف هذا الجيل ما حدث في الماضي لئلا يقع في الخطأ نفسه". ويتابع شمعون قائلاً: "طيف المدينة" لم يكن قمة ما أريد تحقيقه، إذ اعتبره تجربة من هذه التجارب وحلمي أكبر من ذلك بكثير، كما آمل أن أصنع في المستقبل شيئاً أفضل. حالياً في رأسي مشاريع عدة ولا شك في أن الحصول على التمويل صعب، إلا أنه بعد كل هذه التجربة بتّ أدرك أين أتجه لأجد تمويلاً لأفلامي. هذا من جهة، لكن في الحقيقة عندما تطرحين الموضوع ولا يكون عندك النية في المساومة تصطدمين بعقبات شتى، ما يوجب عليك المحاربة للصمود في وجه كل المعوقات. أما اليوم فأنا أعمل على فيلم تسجيلي جديد حول معتقل الخيام تحت عنوان "في عيون العاصفة" وهو اسم قابل للتغيير عن قصة أسيرة فلسطينية عاشت وعانت في هذا المعتقل وانعكاساته عليها". تجربة كفاح لكن هل هناك بعد فعلاً ما يمكن قوله حول "الخيام"؟ "أمور كثيرة بإمكانك التكلم عنها في هذا الإطار"، يجيب شمعون معلقاً على السؤال ويتابع قائلاً: "من جهتي تناولت تجربة "كفاح" ونقلت نمط عيشها قبل أن تعتقل، ومدى عذابها قبل الأسر وبعده، كما بيّنت كيفية تعامل السجانين معها وممارساتهم العنصرية ضدها كونها فلسطينية، وصورتها وهي على شفير الموت وكيف استشهد الكثيرون في الخيام نتيجة العذاب الذي تكبدوه في هذا المعتقل، أردت أن أنقل وجهة نظر منظمة العفو الدولية التي كتبت تقريراً عن الخيام واصفة إياه بأوحش السجون في أواخر القرن العشرين وبأنه مناف لأبسط حقوق الانسان. وهذه مسألة كبيرة، فأنا لا أتكلم فقط عن "الخيام" إنما أيضاً عن جيل "كفاح" وارتباطه بالجيل الذي قبله. فهي فلسطينية ولدت في شاتيلا وتربت هناك، وما أفعله اليوم هو تصوير تجربتها منذ الطفولة بكل معاناتها والسبب الذي دفعها الى تلك العملية التي أدّت الى اعتقالها. كما أصوّر كيف بدأت تفكر وهي في السجن بالجيل الذي سبقها بقدر ما هي واعية لذلك التواصل بينها وبين الأجيال النسائية التي جاءت قبلها في فلسطين وما قدمت لمجتمعها. وهذا ما أعبر عنه في التكامل بين الأجيال. فالمقاومة لم تعد تتلخص بالمقاومة العسكرية فحسب، إنما هناك نوع آخر من المقاومة. ولعل مقاومة "كفاح" ومثيلاتها في الحياة العادية دليل الى ذلك. من هنا أردت، ربما، في هذا الفيلم نقل دور المرأة الرمز في مجتمع يعاني ويعيش تحت الاحتلال في أجواء مصيرية من خلال تلك الشابة". وسينما جان شمعون ملتزمة حمل رسالة إنسانية تصور الظلم ومعاناة الشعوب المقهورة وتحديداً تلك القابعة تحت نير الاحتلال الإسرائيلي. واللافت في الأمر كله أنه وبعد مجموعة كبيرة من الأفلام حول فلسطين ابتعد شمعون من هذا منذ سنة 1995 مع تكاثر مواضيعها. فلمَ فك الارتباط هذا؟ "أبداً" يجيب شمعون ويقول: "إن تكلمت عن جنوبلبنان أو عن فلسطين، فالقصة هي نفسها في ظل عدو مشترك. وعلى هذا إن لم أعالج المشكلة الفلسطينية في شكل رئيس في أفلامي منذ ذلك التاريخ فهي لا شك موجودة في شكل دائم إنما ثانوي في فيلم "بيروت - جيل الحرب" و"أحلام معلقة" و"رهينة الانتظار" أو "زهرة القندول". والفيلم الذي أعمل عليه حالياً هو عن فلسطين حتى لو كان جغرافياً في جنوبلبنان. فالمسألة لم تحسم بعد". شراكة متواصلة ومعظم أفلام شمعون كانت مشتركة. إذ كانت له سنة 1976 تجربة "تل الزعتر" مع مصطفى أبو علي ومنذ عام 1982 بدأ تعاونه مع مي المصري شريكته في الحياة، فأخرجا معاً: "أحلام معلقة" و"بيروت - جيل الحرب" و"زهرة القندول" و"تحت الأنقاض" الى أن توقف مع بداية التسعينات عن الأعمال المشتركة وبدأ تحقيق أفلامه وحده. وعن هذا يقول شمعون: "مع مصطفى أبو علي كانت لي تجربة يتيمة وهي "تل الزعتر" ثم كانت لي مجموعة كبيرة من الأعمال التي لم يشاركني فيها أحد. وعندما التقيت ميّ أكملنا معاً في المنحى والتوجه نفسيهما. وإن تكلمت عن فك الارتباط، فلعل ذلك ينطبق على العمل وميكانيكيته ولا ينطبق أبداً على الرؤية المشتركة. ففي البداية كنا نحن الاثنين نركز على موضوع واحد، أما اليوم فقسمنا العمل ووزعناه: أنا أنتج وهي تخرج الفيلم والعكس صحيح". ويشعر شمعون بنقمة كبيرة على التلفزيونات التي لا تقوم بأي خطوة لدعم السينما في لبنان وصولاً الى قيام صناعة سينمائية كما في بقية الدول، إذ يقول: "في نظري بإمكان المحطات التلفزيونية أن تلعب دوراً كبيراً في حل أزمة السينما من خلال تمويل الأفلام، لكن للأسف لا أحد يهتم وهذه مسألة خطيرة كون المحطات تتحايل على القوانين وتضع المقابلات تحت باب الانتاج المحلي الذي تكلم عنه قانون تنظيم الإعلام، وبالتالي من مسؤولية الدولة إعادة النظر في هذا القانون وإخضاع المحطات لشروط حقيقية لا مجرد شكليات. والمؤسف في الأمر غياب الجدية عند هؤلاء، فأين الاحصاءات التي تتعلق بما يريده الجمهور؟ وهل فعلاً يحبذ المشاهد تلك التفاهات التي يقدمونها له؟ فارق شاسع يوجد بيننا وبين الغرب، ولا أنسى مثلاً حين عرض فيلم "بيروت - جيل الحرب" على قناة BBC1 كيف أنهم وضعوه في أكثر الأوقات إقبالاً من الجمهور أي تماماً بعد نشرة الأخبار وكيف أرسلوا لنا في اليوم التالي فاكساً يحدد عدد المشاهدين الذين تابعوا الفيلم والذي قدّر يومها بستة ملايين مشاهد. من هنا إن هذه الجدية في العمل تعطي السينمائي دفعاً الى الأمام وترفع معنوياته، أما في بلدنا فلا شيء من هذا القبيل، فقط استيراد أفكار وتقليد أعمى في غياب أي مجال للإبداع". وعن جيل السينمائيين الشباب في لبنان يقول شمعون: "في شكل عام توجد هناك مجموعة جيدة تحاول أن تترك أثراً وهي تعبّر عن نفسها في شكل ذكي وحساس والأهم بصدق تام. شباب موهوبون لم يتمكنوا إلا من القيام بأفلام قصيرة لكن الإرادة موجودة. وما آمله بالنسبة الى هؤلاء ألا يتعذبوا كما تعذبنا نحن. لكن، ما لا شك فيه انه لا بد من ذلك على رغم أن الأمور باتت اليوم أسهل إذا نظرنا الى انتشار وسائل الاتصال وكيف أصبحت وسائل صناعة الفيلم أسهل من السابق. فالديجيتال حلّ مشكلة أساسية وأنا كنت من أوائل الذين استخدموا هذه الطريقة سنة 1992 من دون أن أنكر حنيني الى السينما التقليدية حيث نوعية الصورة أجمل وأهم، إلا أن الديجيتال كان الحل لمشكلتين تواجهان السينمائي: المشكلة الاقتصادية والمشكلة التقنية في الوقت نفسه. السينما وسيلة لا هدف ويختتم شمعون كلامه قائلاً: "السينما وسيلة تعبير عن الأفكار وليست الهدف. فهي عليها أن تضع التقنية في خدمة المضمون وهذا ما أقوم به. فعندما تختارين موضوعك يولد الشكل تلقائياً من دون أي افتعال، إذ عليك أن تتجهي نحو الموضوع بسلاسة وهو بدوره يصنع الشكل: الإطار، الإيقاع، المكان، الحالات، الشخصيات... كل ذلك هو الذي يخلق شكل الفيلم. وفي رأيي كما اعتاد الناس على السينما لا شك في أنهم سيعتادون على الديجيتال. فالمستقبل كله لهذا النوع من السينما. وفي النهاية لا بد من الإشارة الى ذلك الزخم القوي الذي نلامسه في مجتمعنا. وما أتمناه هو إيقاف ذلك الجو العام الموجود على صعيد سياسة البلد في عملية تنفيس الزخم كونها مسألة خطيرة وليس من بوادر ايجابية للمستقبل".