رحل المخرج اللبناني جان شمعون عن 74 سنة في بيروت بعد صراع طويل مع المرض. كأن سيرة هذا المخرج الصاخبة وعنفوان الحياة التي عاشها على خطوط التماس مع كل شيء أبت إلا أن تضع نهاية محزنة من النوع الذي لم يكن يرضي صاحب «طيف المدينة» في حياته. لم تكن سيرة حياة جان شمعون ملزمة بتفسير «أهواء» السينما اللبنانية الجديدة التي خاض غمارها مع برهان علوية ومارون بغدادي ورندة الشهال وغيرهم. الواضح من سيرته المهنية أنه ترك كل التفسيرات الجمالية والنقدية لأصحابها وسار على هواه في صنع أفلام خاصة به قبل أن يلتقي بشريكة عمره حياتياً وإبداعياً ومهنياً المخرجة الفلسطينية مي المصري ليقولا أشياء كثيرة لم يكن متاحاً لهما أن يقولاها من دون هذه الشراكة الابداعية، لا لنقص في الأدوات التي اتقنا استخدامها في صناعة الأفلام الوثائقية التي حددت مصيرهما كمخرجين، بل لأن طبيعة الحرب اللبنانية التي انغمس الطرف الفلسطيني فيها انغماساً كاملاً عكست صورة مهمة عن تناقضات وشروخات ما كان يمكن أن تحدث إلا في لبنان، وفي علاقة مع قضية معقدة ظل جان شمعون يؤمن بكونها قضية مستقبلية لا مجال فيها للنقاش أو إبداء آراء تقلل من عدالتها وإنسانيتها. الشيء المغاير لم يكن خط سير جان شمعون (سينمائياً) يختلف عن طبيعة وهموم حياته التي عاشها في لبنان بحثاً عن أفلام يمكن أن تقول شيئاً مغايراً عن الأحداث التي كان يغرق فيها، فالإنشغال بدراسة السينما في باريس التي كانت تعيش على إيقاع ثورة الطلاب ساهمت بتكوين وعيه المهني، فأنجز فيلم «اذاً» عن الطلاب اللبنانيين الدارسين في فرنسا قبل عودته منها الى لبنان عام 1974، وهو سمح بفتح نقاش عن أهلية التعليم في لبنان سرعان ما أغلق بسبب اندلاع الحرب فيه، وهو ما دفع بعد عامين الى تبني الموضوع الفلسطيني ليصبح القالب الذي سيضمن تحقيق معظم أفلامه منه، فكان أن أنجز فيلمه «تل الزعتر» 1976، بالتعاون مع المخرج الفلسطيني الراحل مصطفى أبو علي، وفيلم «أنشودة الأحرار» 1978 قبل أن يغير انتماءه الى مؤسسة السينما الفلسطينية من مصيره نهائياً بالارتباط بالمخرجة الفلسطينية مي المصري الدارسة حديثاً السينما في سان فرنسيسكو. وكان شمعون في تلك الفترة يعدّ مشروع فيلم وثائقي عن انطون سعاده قبل أن يقع اجتياح عام 1982 ويفجر المكنون الوثائقي الذي جمعهما مع بعضهما بعضاً، فخرج الى الوجود باكورة أعمالهما المشتركة «تحت الأنقاض» 1982 الذي شهد فترة لا بأس بها من الانتظار بحكم الظروف الطارئة التي كان يمر فيها لبنان قبل أن يتمكنا من نقل المادة الخام الى باريس لإجراء العمليات الفنية له، وهو الأمر الذي سهل للفيلم العرض في أمكنة مختلفة من العالم، وأمن له عرض ال BBC لوحده أكثر من ستة ملايين مشاهد في حينه، وحصوله على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان فالنسيا – إسبانيا. كان على الثنائي الإبداعي شمعون– المصري بعد هذه التجربة الخاصة الاستمرار بإنجاز الأفلام على أكثر من مستوى وصعيد، فجاء فيلم «زهرة القندول» 1985 عن معتقل أنصار ليضع التجربة على نار أكثر نضجاً وعمقاً، وهو ما سيتكرر في «بيروت: جيل الحرب» 1989، و «أحلام معلقة» 1992. وفي الوقت ذاته أمكن جان شمعون أن يواصل عمل الأفلام منفرداً، لكن بتعاون فني وانتاجي مع مي المصري، فحقق أفلاماً مثل «رهينة الانتظار» 1994 وفيلمه الروائي الطويل الأول واليتيم «طيف المدينة» 2000، وليختتم سيرته المهنية بفيلم «أرض النساء» 2004. لم يحل هذا المسار التصاعدي في تجربة المخرج الراحل جان شمعون من تلمس أهم المواضيع التي كانت تشغل باله كمخرج سمح له وعيه السينمائي المختلف بالانضمام الى تجربة شريكة عمره مي المصري كمنتج فني يمكن أن يقول ما لم يكن متوقعاً على صعيد إغناء هذه التجربة، فجاءت أفلامها «أطفال جبل النار» 1990 و «امرأة في زمن التحدي» 1996 و «أطفال شاتيلا» 1998 و «أحلام المنفى» 2001 لتضيف نكهة مختلفة ومغايرة للتجربة التي ضمتهما سوية، ثم انفردا من خلالها بأعمال خاصة بهما، وكأن ما كان بالإمكان تحقيق كل هذا المنجز الابداعي والسينمائي من دون المرور بهذا المسار الذي ميز تجربتهما عن غيرهما من التجارب المشتركة. بالطبع لا يمكن إنكار أن انحياز جان شمعون للقضية الفلسطينية، وخصوصية انتمائه اللبناني (اليساري) وقضايا التحرر عموماً صنعت الهوية الأساسية لتجربته السينمائية ودفعت به لإغناء القول الوثائقي العربي وتمييزه نظرياً في أحاديث متفرقة عن الهوى التسجيلي الذي كان ينادي به سينمائيون عرب حتى في عز انفجار الحرب اللبنانية وما تبع ذلك من تجديد في الشكل والمضمون لكثير من القضايا الشائكة والمعلقة، ومع هذا ظل صاحب «رهينة الانتظار» يشكل مع شريكته مي المصري صوتاً صارخاً في برية تبدو أحياناً متماسكة ومتوازنة، وأحياناً تبدو أقل تماسكاً وقابلة للانشطار والتعدد. وبرحيل جان شمعون تفقد السينما اللبنانية الجديدة هذا الصوت الذي لعب دوراً مفصلياً في تشكيل هويتها في واحدة من أخطر وأدق المنعطفات التي مرت فيها.