الصراع على بلاد ما بين النهرين له جذوره التاريخية. وتبدو صراعات اليوم على ارض العراق رجع صدى لصراعات الماضي بقوى جديدة. ففي شهر شباط فبراير عام 1228 حوصرت بغداد، وطالب هولاكو الخليفة المستعصم بالاستسلام من دون قيد أو شرط قائلا: "لا بد أنك علمت بما فعلناه بممالك خوارزم والسلاجقة، وقد نصحناك دائماً بأن تلقي السلاح وتسلم بغداد. وعليك أن تهدم الحصون وتطمر الخنادق، وسنرسل لك من يفتش مملكتك ويتأكد من تدمير الأسلحة وهدم الحصون، وإلا سنعتبرك داعية حرب وبالتالي سنقتلعك من طريقنا". لكن رسول المستعصم رفض مطالب إمبراطور المغول بتفكيك دفاعات بغداد من أسلحة الدمار الشامل! قائلا: "عندما تخلعون الحوافر من أقدام فراسكم سندمر قلاعنا". واستبعد المستعصم أن يتمكن هولاكو من اختراق عاصمة العباسيين على رغم هزيمة الحشاشين الاسماعيليين على أيدي المغول، ولم يكن يدرك تماماً مطامع النظام العالمي المغولي الجديد، بعدما أعلن هولاكو حفيد جنكيز خان نفسه حاكم الكون على رؤوس الأشهاد وزحف بجيشه إلى بغداد بهدف واضح وهو السيطرة على إمبراطوريات الشرق والغرب، بعدما أمر منكو خليفة جنكيزخان أخاه هولاكو ببسط القوة المغولية من فارس شرقاً وبلاد النهرين حتى سورية غرباً، وولى أخاه الآخر كوبولا المسؤولية العسكرية عن ضم جنوبالصين إلى إمبراطورية المغول. كانت عقبتان رئيسيتان تقفان أمام الطموحات المغولية هما حصون الحشاشين الاسماعيليين في بلاد فارس وخليفة المسلمين في بغداد. وبحلول القرن الثالث عشر أشرفت إمبراطورية الخلافة العربية الإسلامية التي كانت تمتد من أسبانيا إلى جنوب شرق آسيا على الأفول، على رغم استمرار الخلفاء العباسيين ببسط سيادتهم من بغداد على بلاد ما بين الرافدين التي كانت تنعم بالرخاء، لكن الدولة العباسية وهن عضدها من تسيب حكامها، وكان المستعصم يقتر على جنوده ولم يهتم بأمور جيشه، ولم يكن القواد العسكريون لآخر خليفة عباسي مؤهلين حربياً فسخر بعضهم من المحاربين المغول المحيطين بمشارف بغداد لأنهم "يمتطون جياداً تشبه الحمير ويحملون اسهماً أشبه بمغازل القطن من دون ملابس قتالية". ومن جهة اخرى كان بعض أعوان الخليفة يزودون هولاكو معلومات عن مواقع الدفاعات العسكرية في بغداد، وشجع ابن العلقمي وزير المستعصم هولاكو على الهجوم على بغداد "فهناك الكثير من الكنوز المدفونة والأرزاق والعلماء الذين يمكن تسخيرهم". أحكم القائد المغولي خطة للاستيلاء على الخلافة بقوات متعددة الأعراق من مقاتلين جورجيين ومهندسين صينيين أتقنوا فن تدمير أسوار المدن بكرات النار، يقودهم البدو المغول من صحارى أواسط آسيا وعلى رأسهم الفاتح هولاكو الذي حذر خليفة بغداد قائلاً: "إذا لم تنتصح فإننا اعددنا العدة والحلفاء لمحاربتك وسنأتيك من كل الجهات ولدينا أصدقاء في الشمال والجنوب سوف يساعدون في محاصرتك". أغوى هولاكو جيش المستعصم بالانسحاب إلى مستنقعات تبعد 50 كلم عن العاصمة ثم فتح سدود الفرات واغرق معظم جيش الخليفة وذبح من بقي منهم على قيد الحياة، ودك بعد ذلك السور الشرقي لبغداد واخترقه فسقطت المدينة. وزيّن ابن العلقمي للخليفة عرض الصلح على هولاكو "فهو لا يريد سوى بعض الهدايا الثمينة"، وما أن وصل المستعصم وأتباعه الى معسكر هولاكو حتى نصح ابن العلقمي هولاكو بقتل المستعصم من دون إراقة دمائه لأنها ستجلب له الثأر، فأمر هولاكو بحبس الخليفة وقطع أعناق اتباعه ال700 ثم لفه وابنه احمد في سجادة وقتلهما رفساً من دون اسالة قطرة دم. الا ان معاناة أهل بغداد لم تنته بسقوطها، إذ تبعت ذلك مذبحة مروعة، فسالت دماء غزيرة بعدما وضع المغول البلد تحت حكم السيف. وفي رسالة إلى ملك فرنسا لويس السادس قال هولاكو أنه ذبح مئتي ألف عراقي. لكن روايات أخرى أكدت ان سكان بغداد الذين وصلوا في قمة مجدها الى مليون ونصف المليون، تقلصوا إلى 800 ألف بعد مذبحة هولاكو، كما نهبت معظم مقتنيات المدينة التي جمعت على مدى 500 عام، وطالب هولاكو ابن العلقمي بكنوز الأرض التي مناه بها قائلاً "أريد الذهب المدفون في الأرض ولا فرق بين أسود أو اصفر"! لكن المفارقة أن هولاكو نكث بوعده لابن العلقمي بتنصيبه ملكاً على بغداد. ويروي التاريخ كيف تحولت مياه دجلة والفرات سوداء داكنة من حبر كتب جامعاتها التي ألقيت في النهر، وكيف حول المغول بلاد الرافدين جرداء فدمروا نظام الري الذي كان عصب الزراعة. وآذن سقوط بغداد بنهاية الوحدة الإسلامية العربية وقارنه المؤرخون بسقوط روما، وإن اعتنق حكام بغداد الجدد من المغول الإسلام إلا أنهم حوّلوا عاصمة الخلافة إلى بلدة هامشية مهدمة وهدفاً للغزاة والطامعين. وبعد مئتي عام دمّر تيمورلنك في 1401 ما تبقى من أوائل الحضارات الإنسانية وتحولت بغداد إلى منتجع لسلاطين آل عثمان وشاهات فارس لتدخل في سبات التاريخ تتنازع مع البصرة على زعامة بلاد الرافدين. * كاتب سوري.