كان ابن ابي الحديد أحد شهود دخول المغول بغداد، وهو الحدث المأسوي في تاريخ العراق والدولة الإسلامية. وهناك من اتهمه، مع الوزير العلقمي، بالتواطؤ مع الغزاة، فقد عُدّت نجاتهما من القتل، ومساعي الوزير الديبلوماسية، دليلاً على الخيانة. وفي أول المطاف نذكر ما كتبه ابن ابي الحديد بشأن الغزاة وما كان يفعله الوزير العلقمي وهم يقاتلون عسكر الخلافة بعيداً عن بغداد: "كان مدبر أمر الدولة والوزارة في هذا الوقت هو الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد العلقمي، ولم يحضر الحرب، بل كان ملازماً ديوان الخلافة بالحضرة، لكنه كان يمد العسكر الإسلامي من آرائه وتدبيراته بما ينتهون إليه ويقفون عنده، فحمل التتار على عسكر بغداد حملات متتابعة ظنوا بأن واحدة منها تهزمهم، لأنهم قد اعتادوا أنه لا يقف عسكر من العساكر بين أيديهم وان الرعب والخوف منهم يكفي ويغني مباشرتهم الحرب بأنفسهم فثبت لهم عسكر بغداد، وأنزل بعد أحسن ثبوت ورشقوهم بالسهام ورشق التتار أيضاً بسهامه وأنزل الله سكينته على عسكر بغداد وأنزل بعد السكينة نصره، فما زال العسكر البغدادي تظهر عليه امارات القوة وتظهر على التتار أمارات الضعف والخذلان، إلى ان حجز الليل بين الفريقين ولم يصطدم الفيلقان، وإنما كانت مناوشات خفيفة لا تقتضي الاتصال والممازجة، ورشق بالنشاب. فلما أظلم الليل، أوقد التتار نيران عظيمة أوهموا أنهم مقيمون عندها وارتحلوا في الليل راجعين إلى جهة بلادهم، فأصبح العسكر البغدادي، ولم ير منهم عيناً ولا اثراً، وما زالوا يطوون المنازل ويقطعون القرى عائدين حتى دخلوا الدربند ولحقوا ببلادهم. وكان من دلائل النبوة، لأن الرسول صلى الله عليه وآله، وعد هذه الملة بالظهور والبقاء إلى يوم القيامة، ولو حدث على بغداد منهم حادث، كما جرى على غيرها من البلاد، لأنقرضت ملة الإسلام، ولم يبق لها باقية"15. ويسترسل ابن أبي الحديد في مذكراته عن الغزو مطمئناً من عدم دخولهم العراق، ويطمئن الدولة في ما ذهب إليه من شروح لنهج البلاغة، ورد ذلك بقوله: "وقد لاح لي من فحوى كلام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، أنه لا بأس على بغدادوالعراق منهم، وان الله تعالى يكفي هذه المملكة شرّهم، ويرد عنها كيدهم، وذلك من قوله علي السلام: ويكون هناك استحرار قتل. فأتى بالكاف، وهي إذا وقعت عقيب الاشارة أفادت البعد، تقول للقريب: هنا، وللبعيد هناك، وهذا منصوص عليه في العربية ولو كان لهم استحرار قتل في العراق لما قال: هناك، بل كان يقول هنا، لأنه عليه السلام خطب بهذه الخطبة في البصرة، ومعلوم ان البصرةوبغداد شيء واحد وبلد واحد، لأنهما جميعاً من اقليم العراق". وقال مغتبطاً بتراجع المغول عن العراق، وشاكراً دور الوزير العلقمي في هذا النصر، كما عبر عنه: "كتبت إلى مؤيدالدين الوزير عقيب هذه الوقعة التي نصر بها الإسلام، ورجع التتر المخذولون ناكصين على أعقابهم ابياتاً انسب إليه فيها الفتح، واشير إلى أنه هو الذي قام بذلك، وإن لم يكن حاضراً له بنفسه، واعتذر إليه عن الغياب بمديحه، فقد كانت الشواغر والقواقع تصد عن الانتصاب لذلك"، ثم نظم مادحاً: أبقى لنا الله الوزير وأحاطه بكتائب من نصره ومقانب ما غبت ذلك اليوم عن تدبيرها كم حاضر يعصي بسيف الغائب عُمرُ الذي فتح العراق وإنما سعدّ حسام في يمين الضارب لكن كل توقعات ابن ابي الحديد كانت مغلوطة، فحدث الغزو و"الاستحرار بالقتل"! وقال ابن تغري متعماً الوزير العلقمي، وروايته نفسها عند معظم المؤرخين من أصحاب نظرية المؤامرة: "كان وزير الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين العلقمي ببغداد، وكان رافضياً خبيثاً حريصاً على زوال الدولة العباسية، ونقل الخلافة إلى العلويين، يدبر ذلك في الباطن، ويظهر للخليفة المستعصم خلاف ذلك، ولا زال يثير الفتن بين أهل السنة والرافضة حتى تجالدوا بالسيوف". ومن غير هدف نقل الخلافة إلى العلويين يذكر ابن تغري سبباً طائفياً وراء تواطؤ العلقمي مع المغول، جاء بقوله: "وقتل جماعة من الرافضة ونهبوا، فاشتكى أهل باب البصرة إلى الأمير مجاهد الدين الدّوادار، وللأمير ابي بكر ابن الخليفة فتقدما إلى الجند بنهب الكرخ، فركبوا من وقتهم وهجموا على الرافضة بالكرخ، وقتلوا منهم جماعة وارتكبوا معهم العظائم فحنق الوزير ابن العلقمي ونوى الشر في الباطن وأمر أهل الكرخ الرافضة بالصبر والكف عن القتال، قال لهم: أنا اكفيكم فيهم"؟ ومن الأمور التي يعتقد أصحاب نظرية المؤامرة بأن العلقمي مهد بها للغزو المغولي أنه أشار على المستعصم ان يستغني عن عدد كبير من الجنود من أيام والده ومراسلته للغزاة. كذلك ذكر المؤرخون المذكورون أنه عند اشراف المغول على بغداد اقترح العلقمي التفاوض، قائلاً للخليفة، بعد نزولهم على شاطئ دجلة بجهة الكرخ مقابل دار الخلافة بالرصافة: "اخرج إليهم أنا في تقرير الصلح، فخرج إليهم واجتمع بهولاكو، وتوثق لنفسه، ورد إلى الخليفة، وقال: إن الملك قد رغب في أن يزوج ابنته بابنك الأمير ابي بكر، ويبقيك على منصب الخلافة، كما صاحب الروم في سلطنته، ولا يطلب إلا ان تكون الطاعة له، كما أجدادك مع السلاطين السلجوقية، وينصرف هو عنك بجيوشه! فتجيبه يا مولانا أمير المؤمنين لهذا، فإن فيه حقن دماء المسلمين ويمكن ان تفعل بعد ذلك ما تريد! والرأي ان تخرج إليهم"16. لكن ما حصل لم يكن بحساب الوزير، فقد قتل الخليفة وولده، رفساً بعد أن وضعا في كيسين، كذلك قُتل الوجهاء من الذين طلبوا لحضور زفاف ابن الخليفة وابنة هولاكو، واستباح الغزاة بغداد مدة أربعين يوماً، وعدد القتلى عد بمئات الآلاف، ولم ينج إلا "من اختفى في بئر أو قناة". وكتب الطهراني ناقداً تلك الروايات والتهم الموجهة للوزير العلقمي: "إن أهالي بغداد المختلفين في ما بينهم طائفياً والمترفين في العيش مع قلتهم، لم يكونوا قادرين على المقاومة أكثر مما عملوه بيد ابن العلقمي، في قبال مهاجمين متخلفين حضارياً، وقليلي المؤونة اقتصادياً مع كثرة عددهم، وأمثال هذه الحوادث كثيرة في التاريخ، فقد حصلت لروما امارة برابرة الشمال وفي بغداد أيضاً قبل ستة قرون ما قيل عن الخلافة العلوية فافتراء، ولم يكن للشيعة أي مرشح لذلك، ان انكروا الخلافة العباسية لكنهم لم يكونوا يعارضون مملكة إذا كانت تضمن الحريات الدينية". وبعد شهادة ابن ابي الحديد لصالح العلقمي، وما قاله اغا بزرك الطهراني، الذي استند على الرواية الشيعية لصالح الوزير، ثم ما رواه ابن تغري والسيوطي وغيرهما من المؤرخين السنّة، نذكر رواية مؤرخ ورجل دين مسيحي، راقب أحداث الغزو من حلب، ثم وصل إلى بغداد في ما بعد. قال غريغوريوس بن العبري ت 685ه: "في شهر شوال رحل هولاكو عن حدود همذان نحو مدينة بغداد، وكان في أيام محاصرته قلاع الملاحدة هكذا وردت قد سيّر رسولاً إلى الخليفة المستعصم يطلب منه نجدة، فأراد ان يسيّر ولم يقدر، ولم يمكنه الوزراء والأمراء، وقالوا: إن هولاكو رجل صاحب احتيال وخديعة، وليس محتاجاً إلى نجدتنا، وإنما غرضه اخلاء بغداد عن الرجال فيملكها بسهولة، فتقاعدوا بسبب هذا الخيال عن ارسال الرجال. ولما فتح هولاكو تلك القلاع ارسل رسولاً آخر إلى الخليفة وعاتبه على إهمال تسيير النجدة، فشاوروا الوزير فيما يجب أن يفعلوه فقال: لا وجه غير ارضاء هذا الملك الجبار ببذل الأموال والهدايا والتحف له ولخواصه. وعندما اخذوا في تجهيز ما يسيرونه من الجواهر والمرصعات والثياب والذهب والفضة والمماليك والجواري والخيل والبغال والجِمال، قال الدويدار منصب حكومي يتعلق بتقديم الوفود الرسمية، بما يشبه مهام دائرة المراسيم اليوم، الصغير وأصحابه: إن الوزير إنما يدبر شأن نفسه مع التتار، وهو يروم تسليمنا إليه، فلا نمكنه من ذلك، فبطلَ الخليفة بهذا السبب تنفيذ الهدايا الكثيرة، واقتصر على شيء نزر لا قدر له. فغضب هولاكو وقال: لا بد من مجيئه الخليفة هو بنفسه، أو يسيّر أحد ثلثة نفر: إما الوزير، وإما الدويدار، وإما سليمانشاه. فتقدم الخليفة إليهم بالمضي فلم يركنوا إلى قوله، فسيّر غيرهم مثل ابن الجوزي وابن محي الدين فلم يجديا عنه"17. بعدها تحرك هولاكو نحو العراق حتى وقف على مشارف بغداد، "فسيّر الخليفة الوزير العلقمي وقال: أنت طلبت أحد الثلثة وها أنا قد سيرت إليك الوزير وهو أكبرهم، فأجاب هولاكو: انني لما كنتُ مقيماً بنواحي همذان طلبت أحد الثلثة والآن لم أقنع بواحد". وروى ابن العبري ان المغول رموا بغداد بسهام كُتب عليها بالعربية: "ان الاركاونية والعلويين والداذنشمدية، وبالجملة كل من ليس يقاتل فهو آمن على نفسه وحريمه وماله". لا نجد في رواية ابن العبري أي إشارة إلى اتهام الوزير العلقمي، بل بالعكس، كشفت عن حنكته السياسية، أما عدم قتله وقتل من دخل داره مثل ابن ابي الحديد، فلعله يعود إلى أمرين: الأول معرفة هولاكو بموافقة الوزير على تنفيذ ما طلبه وهو ما زال في إيران، والثاني انه دخل داره، وكان العفو قد شمله. وعمل ابن الحديد، في أواخر حياته، مع نصيرالدين الطوسي على انقاذ ما يمكن انقاذه من الكتب، بعد ان "فوض إليه أمر خزائن الكتب ببغداد مع أخيه موفق الدين، والشيخ تاج الدين علي بن أنجب ... وكان أهل الحلة والكوفة والمسيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة فانتفع الناس بذلك، وكانوا يبتاعون بأثمانها الكتب النفيسة"18. وهناك من الآراء التي حملت مهمة الطوسي وابن ابي الحديد في حماية الكتب أكثر مما تحتمل من تفسير وتأويل، فما اعتقده، من دون انحياز، ان الرجلين من رجال العلم والثقافة، ومثل هذه المهمة هي سلاحهما في مقارعة الغزو، وتصفية آثار همجيته ولولا تلك الجهود ما وصلنا كتاب من خزائن بغداد النفيسة، ومنها "شرح نهج البلاغة". ألف صاحبنا، غير "شرح نهج البلاغة" وديوان شعره "السبع العلويات"، الكتب الآتية: "شرح الفصيح لثعلب"، "شرح المحصل للرازي"، "شرح غرر الأدلة"، "شرح الياقوت للنوبختي"، "العبقري الحسان"، "الاعتبار على الذريعة"، "منظومة فتح خيبر" "الفلك الدائر على المثل السائر"، "اعتبار الذريعة للمرتضى"، و"تقرير الطريقتين" وغيرها. توفي سنة 656ه بعد اجتياح بغداد ووفاة شقيقه موفق الدين بن ابي الحديد، وصاحبه الوزير مؤيد الدين العلقمي. وكل هذا حدث في السنة المذكورة. الهوامش 1- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، 7 ص 51. 2- العذيق النضيد بمصادر ابن ابي الحديد، ص 69، عن مصطفى جواد، نسخة مخطوطة من تلخيص مجمع الآداب لابن الفوطي، 1 ص 292. 3- فوات الوفيات. 2 ص 259. 4- العذيق النضيد 49-50. 6- تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب، 4 القسم الأول ص 250. 6- شرح نهج البلاغة 16 ص 109. 7- المصدر نفسه 1 ص 250. 8- العذيق النضيد، ص 65. 9- طبقات أعلام الشيعة المئة السابعة ص 88. 10- شرح نهج البلاغة 9 ص 307. 11- المصدر نفسه 1 ص 140. 12- العذيق النضيد، ص 69 عن نسخة من شرح نهج البلاغة 13 ص 50-52، و20 ص 349. 13- شرح نهج البلاغة، 5 ص 129. 14- المصدر نفسه نسخة دار الحياة 5 ص 969. 15- المصدر نفسه نسخة عيسى البابي الحلبي 8 ص 240-241. 16- السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 376-377. 17- تاريخ مختصر الدول، ص 269-372. 18- حسن الأمين، الاسماعيليون والمغول ونصيرالدين الطوسي، ص 49. * باحث عراق