لموسيقار الأجيال الراحل محمد عبدالوهاب أنشودة خالدة تحمل عنوان «دعاء الشرق» يقول في مستهلها: «كانت الدنيا ظلامًا حوله (يقصد الشرق).. وهو يهدي بخطاه الحائرينا.. أرضه لم تعرف القيد.. ولا خفضت إلاَّ لباريها الجبينا»، ثم يتساءل في ألم: «كيف يمشي في ثراها غاصب.. يملأ الأفق صراخًا وأنينًا؟!..كيف من جناتها يجني المنى.. ونراعى في ظلها كالغرباء.. كالغرباء..؟!» هكذا كان حال الشرق «كانت الدنيا ظلامًا حوله.. وهو يهدي بخطاه الحائرينا».. فماذا حدث؟! تقول صفحات التاريخ القديم إن الإمبراطوريات كلها ما كانت تنال مكانتها ما لم يكن الشرق في القلب منها.. فهو قلب كل إمبراطورية، وهو أيضًا قلب التاريخ الإنساني النابض، بإلهام رسالاته، وبعنفوان معاركه، وبجسامة تضحياته منذ عهد الإسكندر الأكبر وحتى اليوم. ولهذا كان قلب روما، وقلب فارس، ومن بعدهما دولة الخلافة الإسلامية (الأموية) في دمشق، و(العباسية) في بغداد، و(العثمانية) في إسلامبول (اسطنبول).. حتى الإمبراطورية البريطانية، ما نالت الشرف الإمبراطوري قبل أن تحتل مكانًا في القلب من العالم العربي، وما فقدت هذا الشرف إلاَّ بخروجها مهزومة منه في حرب 1956. هنا إذن في الشرق القديم كان مكتب قيد مواليد الإمبراطوريات على مر التاريخ، وهنا أيضًا -كما تروي وقائع التاريخ- كان مكتب قيد وفيات الإمبراطوريات.. هنا ماتت إمبراطورية فارس بالفتح الإسلامي على يد الفاتح سعد بن أبي وقاص، وماتت الإمبراطورية الرومانية قطعة قطعة على يد الفاتحين خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ومحمد الفاتح، وماتت الإمبراطورية البريطانية قطعة قطعة بدءًا بالهند، ومرورًا بمصر والعراق، وماتت الإمبراطورية الفرنسية، حيث جرت مراسم تشييع جنازتها من الجزائر مطلع الستينيات من القرن الماضي. الشرق إذن هو قلب العالم، وهو مكتب قيد مواليد الإمبراطوريات عبر التاريخ الإنساني، وهو أيضًا مكتب قيد وفياتها، وما يحدث في القلب الآن متزامنًا مع تحوّلات عظمى، قادتها ثورة العلوم والتطور الهائل في تقنيات الاتّصال، ربما يعجّل بإجهاض أخطر وأقوى حمل إمبراطوري على مر التاريخ الإنساني، هو المشروع الإمبراطوري الأمريكي، الذي بشّر به بيل كلينتون أول رئيس أمريكي بعد سقوط الإمبراطورية السوفيتية مطلع التسعينيات من القرن الماضي، في كتابه « WE SHOULD PREVAIL» أي «أمريكا يجب أن تسود»، حين طالب بضرورة أن يكون القرن الجديد أمريكيًّا بالكامل، مؤكدًا ضرورة أن تسيطر أمريكا على المائة العام المقبلة من 2000 إلى 2100م ، وبقدر ما عكس حلم كلينتون مفهومًا جديدًا للسيطرة الإمبراطورية تهيمن على «الزمن»، وليس على «الأرض» باعتبار أن انفراد أمريكا بإدارة شؤون العالم كقطب أوحد، بات أمرًا مفروغًا منه، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، عكس الحضور الأمريكي الطاغي في منطقة الشرق الأوسط في حقبة جورج دبليو بوش عقب هزيمة صدام حسين، ثم ما أفرزته توابع هجمات سبتمبر 2001م من تكريس للحضور العسكري الأمريكي في العراق وأفغانستان وغيرهما، تأثيرًا واضحًا لنخبة أمريكية ما زالت تتبنى المفهوم الكلاسيكي للفكرة الإمبراطورية، حيث السيطرة على الأرض، وعلى الزمن معًا، فيما تجري إدارة الشأن الإمبراطوري تحت وطأة الأنفاس الثقيلة لجيوش مدججة بالسلاح. مشروع بوش الإمبراطوري أجهز على فائض نقدي أتاحته حقبة كلينتون، ووضع أمريكا على شفا الإفلاس بعد انخفاض سقف الدين، وخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة لأول مرة في التاريخ من A.A.A الى A.A فقط. وفي خضم تراجع حاد لأداء الاقتصاد الأمريكي بعد أزمة الرهن العقاري في 2008، ثم أزمة تراجع سقف الدين في 2011، وبينما تراجع واشنطن التزاماتها حول العالم، وتتطلع إلى خفض وجودها العسكري في أفغانستان والعراق وسائر مناطق «الحضور الإمبراطوري المسلح»، بدا أن خريف الإمبراطوريات ربما يطرق أبواب واشنطن بقوة، منذرًا بنهاية سريعة لإمبراطورية أرادت السيطرة على مائة عام من مستقبل الإنسانية، فإذا بها تتراجع مثخنة بالجراح بعد مسيرة عشر سنوات فقط.! وفيما كانت واشنطن تشهد خريفًا مبكرًا لمشروع إمبراطوري لم يكتمل، لأسباب كثيرة لعل من بين أهمها ما يمكن وصفه ب «قوى العولمة»، طرق الربيع العربي الأبواب، مستخدمًا تقنيات اتصال أفرزت العولمة، وسرعت من إيقاع خطى التاريخ، ليداهم فكر قيادات شاخت في مواقعها، واستعصى عليها استيعاب، تحوّلات إنسانية وسياسية كبرى، من بينها أن العالم قد دخل بالفعل ما يمكن وصفه ب «خريف الإمبراطوريات»، حيث أتاحت ثورة تقنيات الاتّصال، إمكانية هائلة لانتقال الأفكار، وفرصًا غير محدودة أمام قوى التغيير. ما حدث في تونس، ومصر، وليبيا، وما يحدث في اليمن وفي سوريا، هو أحد أبرز تجليات عصر الصورة، حيث تتراجع إمكانيات حجب الوقائع والحقائق، وحيث يكتب الناس التاريخ الإنساني بهواتفهم المحمولة، وعبر مواقع الفيس بوك، وتويتر، ويو تيوب، وإلاَّ فليخبرني أحدكم لماذا أمكن استمرار نظام عائلة الأسد في سوريا بعد قرابة ثلاثين عامًا من مجزرة حماة؟ ولماذا يتعذّر استمرارها الآن رغم أن آلة القتل «الرسمية لم تحصد بعد -طبقا لتقديرات منظمات حقوقية دولية- سوى أقل من 20% من ضحايا مجزرة حماة؟! هو عصر الصورة، عصر ديموقراطية المعرفة، حيث المعلومة حق للجميع، الذين باتوا شهودًا على وقائع لا يحتمل الضمير الإنساني الموجوع، صمتًا إزاءها. خريف الإمبراطوريات، وربيع الشعوب، ليست مجرد فصول جديدة، في كتب التاريخ الإنساني، ولا هي مجرد طور من أطوار التحوّلات، لكنها إيذان بحقبة جديدة للإنسانية كلها، تتزايد فيها سيطرة الآلة على مصير إنسان ظن أنه قادر عليها. ما يحدث الآن في بلاد الشرق القديم، حيث وُلدت الإمبراطوريات، وحيث جرى تحرير شهادات الوفاة لها عبر القرون البعيدة، قد يعني أن الشرق عاد مجددًا ل»يهدي بخطاه الحائرينا».. فقط ينتظر التاريخ ويرقب الناس لحظة يقطع الأداء الإنساني فيه بأن الشرق قد عرف طريقه، وأن بوصلته قد اهتدت إلى وجهة جديدة، سوف يصبح بعدها الحلم حقيقة، والأماني إرادة.