امضِ صدام إمضِ... لأن الوضع "سوريالي" يختلط فيه الوضوح بالغموض والضحك بالبكاء، والضيق بالفرج، والأمل بالقنوط. واستكمالاً لهذه الصورة، تقفز أمام ناظري صورة قيس بن الملوح مجنون ليلى كما صورته السينما المصرية، وهو يرتجف أمام صراخ عمه والد ليلى: "امضِ... قيس... امضِ/ جئت تطلب ناراً/ أم ترى جئت تُشعل البيت ناراً؟". فيسرع رجل من القوم الى قيس بقلم وورقة قائلاً: "امضِ قيس امضِ..."، أي وقّع يا قيس و"خلصنا". تداعت هذه الصورة أمام مخيلتي وكأنني أشاهد رجلاً، أو رجالاً يطلبون من صدام حسين أن يوقع لهم على ورقة تنحٍ أو تنازل. هذا الرجل، أو هؤلاء الرجال لا يتبرعون أو يتطوعون من تلقاء أنفسهم، كما فعل الرجل مع قيس، إنما طلب منهم ذلك مشروع قدمه عبدالله غل رئيس وزراء تركيا بطلب من العم سام. وإذا كان قيس بن الملوح صدع للأمر، وانصاع لطلب الرجل، فغادر الحي والقبيلة، وراح يهيم على وجهه في الفيافي والقفار إلى أن مات مجنوناً من وله الحب، فإن صدام حسين ليس بهذه البلاهة، فهو غير مستعد لأن يمضي فيوقِّع ولا أن يمضي ويذهب أو يتنحى ويرحل. فإذا كان حب قيس لليلى دفعه الى أن يضحي بنفسه من أجلها، فإن حب صدام للسلطة، وهيامه بها، يدفعانه الى أن يضحي بكل شيء من أجلها. فالرجل اعتاد على هيام السلطان، ووجاهة المنصب، وجبروت القوة. ومعنى أن تملك وتحكم وتتحكم: نطقك قانون، ومشيئتك قدر، وطاعتك من طاعته عز وجل، فأنت مبعوث العناية الإلهية ليس الى شعب العراق، وأهل العراق، وإنما للأمة العربية والإسلامية، وللإنسانية جمعاء. فمن كانت تلك صفاته، فمن من الرجال يجرؤ ويتقدم بورقة وقلم طالباً توقيعه على التنحي أو التنازل. لذا فمشروع عبدالله غل أوقع الناس كلهم في حيص بيص. ولسان الحال يقول: "من الذي يعلق الجرس". لا أحد يجرؤ. بعضهم يحرص على مصلحته، وبعضهم الآخر يمنعه الخوف، ويحسب العواقب، فما أدراه فقد تخذله أميركا، ولها في ذلك سوابق كثيرة. أميركا تريد كسب المعركة قبل خوض الحرب، برحيل صدام. وحبذا لو تم عقد قمة من بعض الدول المعنية وإتمام الصفقة من دون قتال ونزال. ولكن صدام قطع على مجهوداتهم وترتيباتهم عندما أعلن، في إحدى خطبه الأخيرة انه سيقاتل، مع شعبه، "المغول الجدد". خصوصاً ان الشوارع العربية، وغير العربية، راحت تتظاهر وقوفاً معه ونصرته ضد الضربة الأميركية، رافعة شعاراته وأعلامه وصوره وكأنه بطل قومي وعالمي. فكيف يترك هذا "البطل" كل هذا المجد، وينزوي في ركن آمن؟ القاهرة - أحمد الحبوبي سياسي عراقي مقيم