• ذات مساء، كنتُ أستمعُ إلى الراديو، وهو ينقل مع إحدى الفضائيات العربية السعودية حديث طبيب نفساني، أو هكذا فهمت، عن حالات الاكتئاب التي تصيب الإنسان. شرّق الطبيب وغرّب، وأتى بالعجائب التي أذهلت المذيع والمذيعة، وفي إبحاره، أتى على قصة حبٍّ عاطفية شهيرة في الأدب والثقافة المجتمعية العربية، فسمعتُ عجبًا عجابًا! وقلت لنفسي: ليته لم يصل إلى هذا. • القصة التي كان يرويها الطبيب النفساني كشاهد على ما يقوله، وللتدليل على أنواع حالات الاكتئاب، قصة قيس بن الملوّح مع حبيبته ليلى العامرية، حيث يقول الطبيب: «ارى في هذه الحالة ما لا يراه الأدباء، فحين يرى الأدباء أن جنون قيس بحب ليلى دفعه في بعض حالاته إلى السفر حافيًا من نجد إلى بلاد الشام، وإن الهيام سلب قيس لبّه، ودفعه إلى ذلك السلوك، أرى -كما يقول الطبيب- ذلك من واقع تخصصي كطبيب نفساني نوعًا من الرهاب والاكتئاب». • بمعنى آخر، ما حاول قوله الطبيب النفساني هو سعيه إلى نفي الحالة الرومانسية التي سادت الذهنية العربية عن قصة ليلى ومجنونها قيس، فهو يرى أن ذلك نوع من الأدب الغارق في الرومانسية، مع أن الحالة لا تعدو أن تكون نفسية يجب إخضاعها للتحليل النفساني ومعاييره. وهو ما دفعني إلى الاستغراب والدهشة، كون هكذا رؤية صادرة من متخصص ومثقف، لابد أن يدرك أن معظم المشاعر والعواطف الإنسانية لا يمكن إخضاعها لمعايير قياس مادية، كما يحدث مع الآلة أو المادة. • ونسي صاحبنا النفساني تفاصيل هامة في عشق قيس، والحالة التي أصبح عليها، وهي أن جنون قيس، وشروده، وهيامه بغير وعي، لم يكن بسبب حبّه لليلى، بل بسبب منعه من الاقتران بها، فرغم أنها ابنة عمّه، ورغم أنه كان لهما مسيرة عمر منذ الطفولة، إلاَّ أن عمّه «أبا ليلى» رفض تزويجه ب «ليلى»؛ بحجة أنه شبّب بها، أي تغزّل فيها شعرًا، وهو ما يتنافى مع العادات والتقاليد، ونسي الطبيب أن حب ليلى ملأ قلب قيس عشقًا، وهيامًا سارت به الركبان، وتغنّى به العشّاق على مدى الأزمان. • وهكذا حالات تستعصي على مَن فَقَدَ الحسَّ الإنساني الرفيع، لأنه يُقَيِّم العاطفة، والمشاعر بمقاييس الربح والخسارة، وكأنّه في سوق المال، أو في ساحة حراج. وليسمح لي الطبيب النفساني بالقول إن تحليلات وتهويمات فرويد وتلامذته ليست سوى واحدة من البلايا التي رُزئت بها الذهنية البشرية، فحرفتها عن إدراك سمو العاطفة إلى اعتبارها مادة أو آلة. • العشق يا سيدي حالة انصهار لا نهائي، وذوبان أبدي في المحبوب، وارتقاء علوي يحلّق بالنفس البشرية إلى آفاق لا يصلها إلاًَّ مَن وهبه الله الحسَّ الفطريَّ الإنسانيَّ السويَّ.. كما أن الحبَّ وحالاته، من عشقٍ وهيامٍ، وولهٍ، ليست سوى تعابير لمكنونات المُحب، ومدى تعلّقه بمحبوبته، حتى وإن مشى حافي القدمين ولمسافات طويلة، كما فعل مجنون بني عامر. وجنون المحبين حالة عشق رومانسية، لا يدركها إلاًَّ مَن كان طاهر القلب. وصدق مَن قال: «مَن جُنّ بالحبِّ فهو عاقلٌ.. ومَن جُنَّ بغيره، فليس بعاقل». [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (10) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain