سأتناول ثلاث حكايات قديمة تبيّن كيف كان القدماء ينظرون إلى الكتابة بريبة. كلنا نعرف حكاية "صحيفة المتلمس"، مع أن الأولى أن نطلق عليها "صحيفتي المتلمس وطرفة"، بإبراز الثنائية الواضحة التي تنطوي عليها الحكاية. ذهب الشاعران المتلمس وطرفة بن العبد إلى بلاط الملك عمرو بن المنذر في الحيرة، وهما يقصدان نيل الحظوة عنده بمدحه والثناء عليه. لكن الشاعرين كانا قبل ذلك قد هجواه لسوء الحظ. كان عمرو بن المنذر المعروف باسم عمرو بن هند نموذجاً للازدواجية الصارخة، فهو ملك يحكم بأهوائه ونزواته. ولا ننسَ أن المناذرة جميعاً عرفوا بالازدواجية، فقيل عن النعمان بن المنذر إن له يومي "بؤس" و"نعيم". من يأتِ إليه في يوم بؤسه يلقَ ما لا يحب، ومن يأتِ إليه في يوم نعيمه يحصل على ما لا يتخيل، بحسب وصف المصادر العربية القديمة له. وتصفه المصادر المسيحية المعاصرة له بثنائية دينية، ليست أقل من ذلك تناقضاً... ذهب الشاعران إذاً إلى ملك ينتمي إلى عائلة طبعت حياتها بالثنائية والتقلب من النقيض إلى النقيض. في البداية قبل الملك عمرو بن المنذر مديحهما، وأكرم وفادتهما. وقد تظاهر بالصفح عن إساءة الشاعرين القديمة، ووعدهما بجائزة سنية ينالها كل منهما من عامله على البحرين. أعطى الملك الشاعرين صحيفتين، كتب فيهما جائزة لكل منهما، وأمرهما بالتوجه إلى البحرين. لكن خوف المتلمس من الصحف المكتوبة، وخشيته البدوية من انسلال الحيات من بطون الكتب، دفع به إلى أن يطلب من غلام أن يقرأ له صحيفته. دهش المتلمس حين عرف أن الملك أوصى بقتله، فألقى صحيفته في الفرات، وطلب من طرفة أن يفض ختم صحيفته ويقرأها. لكن طرفة رفض أن يصدق أن الملك أوصى بقتله. ذهب طرفة إلى البحرين، ونصحه عاملها بالهرب والتواري، لكنه تصور ذلك حسداً له منه. فاضطر العامل إلى تطبيق ما جاء في الصحيفة، وهو قتل طرفة. ومن ذلك الحين أطلق على طرفة اسم الشاعر القتيل. لأمر ما أراد المخيال الشعبي الجاهلي أن يطلق على الصحيفة اسم "صحيفة المتلمس"، مع أن ضحيتها الفعلية هو طرفة، لا المتلمس. ولأمر ما أراد هذا المخيال نفسه أن يجعل عمرو بن هند ملك التناقضات، أن يتردد في قتل الشاعرين في بلاطه في الحيرة، ويأمر بقتلهما بعيداً... لكن المهم لنا، وما نرى أنه مضمون الحكاية الفعلي، هو هذه الازدواجية الخادعة التي تمارسها الكتابة. لقد وصف المتلمس الكتابة بكونها "مضللة" في بيت شعري له. صحيفة المتلمس صحيفة موت، وصحيفة طرفة صحيفة حياة. الكتابة عند المتلمس مخيفة ومثيرة للشبهات، والكتابة عند طرفة وعد بالمكافأة والتكريم. لم يصدق طرفة أن صحيفته تأمر بقتله حتى وهو يتلقى النصح بالهرب من عامل البحرين. هكذا يتضح أن بطل هذه الحكاية هو الكتابة نفسها، وقد اختارت ضحيتين معاً، المتلمس حين انتبه إلى أنها مصدر موت، وطرفة حين تصور أنها منبع حياة. الحكاية الثانية يرويها ابن شاكر الكتبي والصفدي عن ابن العلقمي، آخر وزير عباسي في بغداد. حين أراد ابن العلقمي أن يصانع المغول، وقد اقتربوا من حدود بغداد، أمر بحلق رأس واحد من مماليكه، وكتب لهم على جلدة رأسه الحليق رسالة. حتى إذا طال شعر رأس المملوك، أمره بإيصال الرسالة إلى المغول، ووعده بأنه كتب له فيها مكافأة مجزية. لكن المفاجأة كانت أن المكافأة التي تعد بها الكتابة هي "مزقوا الورقة، واقطعوا رأس المملوك". وقد استثمر هذه الحكاية المرحوم سعد الله ونوس في مسرحيته "مغامرة رأس المملوك جابر". نستطيع أن نسأل مَن أدرى الرواة بوقائع هذه الحكاية؟ وكيف وصلت إلى علمهم؟ هناك ثلاثة أركان في هذه الحكاية. المرسل، وهو أبن العلقمي، والمرسل إليه، وهم المغول، وقناة الاتصال، وهو المملوك. أما الرسالة فقد تلاعبت بهؤلاء الثلاثة جميعاً. لن نستطيع أبداً أن نعرف محتويات هذه الرسالة. إذ ما من أحد من هؤلاء يمكن أن يسر بها. المرسل لأنه ينكر إرسالها لأنها دليل خيانة ضده. والمرسل إليه لأنه عدو وشهادة العدو مطعون بها، فضلاً عن كونها تشير إلى مقابلته إحسان المملوك بالإساءة إليه. والعبد، الذي كان قناة الاتصال وحامل الرسالة، لأن الرسالة خدعته بممارسة أعنف أشكال الازدواجية معه. لقد وعدته بالحياة، وها هو يجد موته. وعدته بالمكافأة، ولكنها أعطته المنية. وما دمنا لن نتوصل أبداً إلى مضمون الرسالة الفعلي، فإن المضمون الوحيد الذي تسمح لنا به هو ازدواجيتها، هو اندماجها بقناة الاتصال وانفصالها عنها في الوقت نفسه. هذا التطابق بين الرسالة والعبد الذي حملها، والتحامها بفروة رأسه، يجعل العبد نفسه رسالة وقناة اتصال معاً. لكنه لو كان يعلم أنها تنطوي على وعد بموته لما حملها والتحم بها. لذلك فالرسالة تلتحم به، لتخدعه فقط، وتنفصل عنه بمجرد وصولها. حين تصل الرسالة تقرر استقلالها عن حاملها، وتصرح بمضمونها الفعلي، وهو الانتقام من قناة إيصالها. وهكذا يتضح بالنتيجة أن الكتابة ذات وجهين. تتعلق الحكاية الثالثة بعبد هندي أميركي عند اكتشاف أميركا أوصاه سيده الأوروبي أن يوصل سلة تين فيها 30 حبة إلى صديق له، ووضع في وسط السلة ورقة تشير إلى عدد حبات التين. لكن العبد جاع في منتصف الطريق، فأكل نصف السلة. عندما قرأ الصديق الورقة أنكر على العبد نقص العدد، وأنه مخالف لما مكتوب في الورقة. أصر العبد على أنه أوصل السلة كما هي، وأن الورقة تكذب. في المرة الثانية، طلب السيد نفسه من العبد أن يوصل سلة أخرى إلى صديقه، وفيها عدد مشابه من التين، وورقة أخرى عن هذا العدد. وفي منتصف الطريق، جاع العبد، لكن خبث الورقة لن يفوت عليه هذه المرة. لذلك، فإن أول عمل قام به هو إخفاء الورقة تحت حجر، حتى لا تراه وهو يأكل التين. كان العبد مطمئناً أن الورقة لن تخبر الصديق بأكله التين، لأنها لم تره. لكنه فوجئ بأن الصديق يستنكر عليه نقصان العدد أيضاً. أصر العبد أن العدد لم ينقص، غير أن إصرار الصديق على ما في الورقة أقنعه أن الورقة لن تغير رأيها حتى وإن لم تره يأكل حبات التين. فاعترف بذنبه وأقر للورقة بصحة ما تقول. في هذه الحكاية الأخيرة، أربعة أركان صريحة: مرسل، ومرسل إليه، ورسالة، وقناة اتصال. كل واحد يحاول الاحتيال على الآخر. ما يعنينا هنا أن السيد لا يثق بعبده، ومع ذلك فهو يرسله. وهو بحاجة إلى الاحتياط منه بكتابة عدد حبات التين. تتعلق الرسالة إذاً بعدد الحبات. غير أن تدخل قناة الاتصال، وهو العبد في هذه الحكاية، في أكل نصف العدد، يجعل الرسالة في حالة تناقض مع نفسها. تقول السلة إن عدد الحبات 15، وتقول الورقة إن عددها 30. للرسالة هنا نصفان: الورقة والسلة. ويجب أن يتطابق ما في الورقة مع ما في السلة. إذا تطابقا فالرسالة صحيحة. ولا يكتمل تصديق الورقة إلا عندما تتطابق مع ما في السلة. وإذا كان هناك تفاوت في العدد، فلا بد من كذب أحدهما أو تعرضه للتغيير. محاولة العبد أكل الحبات، دون تغيير ما في الورقة، دليل على محاولة تغييره الرسالة في أحد طرفيها فقط. وهكذا يبقى الآخر شاهداً على تزويره، أي بالنتيجة على تدخل قناة الاتصال في سلامة مضمون الرسالة. في الحكايات الثلاث جميعاً تمارس الكتابة نوعاً من الاحتيال على منتجها أو ناقلها. الكتابة مثار شبهة وموطن ريبة. وسبب هذه الشبهة وتلك الريبة أن الكتابة باستقلالها عن منتجها أو ناقلها تقرر معناها الخاص، وتنفصل عن المعنى الذي خبأه فيها المنتج أو الناقل. وبهذا الانفصال تولد انشقاقها إلى معانٍ متعددة. باستقلال الكتابة عن معنى مؤلفها أو مرسلها، تنتج معناها الخاص الذي يعد بالتعدد والغزارة، ولذلك تكون مثار شبهة.