لا أذكر أن الولاياتالمتحدة تعرضت لانقسام في نخبتها السياسية على السياسة الخارجية الأميركية كالانقسام الحالي. انقسمت على أمور داخلية متعددة كحق الإجهاض وحقوق الشواذ والحقوق المدنية وعلاقة الرئيس السابق بيل كلينتون باموظفة المتدربة مونيكا لوينسكي. وانقسمت بسبب الحرب في فيتنام. أستطيع أن أفهم الأسباب التي تجعل الانقسام على السياسة الخارجية أشد حدة من الانقسام على أمور داخلية، فكلفة الأخطاء التي تقع فيها الحكومة الأميركية - أو أي حكومة - أثناء ممارساتها للسياسة الخارجية تكون عادة باهظة إذا قورنت بكلفة الأخطاء الداخلية. أخطاء الخارج يسقط بسببها ضحايا بشرية، وبعض هؤلاء الضحايا يعود داخل صناديق يغطيها العلم الأميركي، فيتذكر الأميركيون أن حكومتهم أخطأت الحساب وإن لم تعترف بالخطأ. ثم هناك الكلفة المادية التي تتطلبها عمليات عسكرية في الخارج. تزيد عن هذا وذاك احتمالات أن يؤدي العمل الخارجي إلى تشويه سمعة الولاياتالمتحدة وتعريض مصالحها الاقتصادية في الخارج للضرر وهو ما يعود بدوره بصعوبات على معيشة المواطن الأميركي العادي كما حدث بعد حرب 1973. في جو يسوده هذا الانقسام تبرز أهمية دور حرية التعبير في الحياة السياسية الأميركية. ولعلها تبرز الآن أكثر من أي وقت مضى بعد أن أقدمت حكومة الرئيس بوش على محاولات لتكبيل الإعلام وتقييد حرية التعبير تحت مسميات مختلفة، مثل حماية الوطن وتأمين الجنود الأميركيين الذين يقاتلون دفاعاً عن أميركا ومصالحها، ومثل القول إن جميع الحكومات الأميركية لجأت في أوقات الحروب إلى تقييد الحريات للأسباب نفسها وتحت المسميات ذاتها. إلا أن كاتبين هما شبلي تلحمي ومارك غريفر من معهد بروكينغز كتبا يؤكدان أن هذا الادعاء غير صحيح على إطلاقه. يذكران أن الرئيس أبراهام لينكولن فرض قانون الطوارئ خلال الحرب الأهلية في مناطق الشمال، وأن المنشقين اليساريين الذين وقفوا ضد التدخل الأميركي في الحرب العالمية الأولى اعتقلوا وحوكموا، وأن الأميركيين من أصل ياباني أجبروا بالقوة على الإقامة في معسكرات اعتقال خلال الحرب العالمية الثانية، وأن المكارثية قمعت وشردت أصحاب الفكر المعتدل في الولاياتالمتحدة. ومع ذلك لم تقيد حرية التعبير في 1812 وفي الحرب المكسيكية وفي الحرب الأسبانية - الأميركية وفي الحرب العالمية الثانية. ويتحدثان عن حالات تدخلت فيها المحكمة الدستورية وأجهزة قضائية أخرى لتشجيع احترام الحقوق المدنية والحريات خلال الحروب والأزمات الداخلية وليس قمعها، وأن بعض الحكومات كان يرى في تشجيع حرية التعبير رصاً للصفوف في مواجهة الأعداء الخارجيين وليس العكس، ومن ذلك ما حدث خلال حركة الحقوق المدنية والحركات المناوئة للتمييز العنصري وكذلك خلال الحرب الفيتنامية. ويتوصل الكاتبان في النهاية إلى أن الحكومات الأميركية التي قيدت الحريات المدنية كانت هي نفسها قبل الحرب أو قبل الأزمات تتمنى أن تجد الفرصة لتقييد هذه الحريات. والنموذج الأوضح هو حكومة الجمهوريين الحالية التي انتهزت فرصة 11/9 لتنفيذ خططها التي وضعتها قبل هذا التاريخ لتقييد الحقوق. فقانون المواطنة وغيره من الإجراءات تتسق تماماً مع خطط الحزب الجمهوري لزيادة قدرة أجهزة الأمن الحكومية على التحقيق في الأنشطة الإجرامية وتقوية ساعد رجال الأعمال ضد النقابات. ويتضح ذلك من عدد من المواد التي نص عليها "القانون الوطني" والتي تنطبق فقط على حالات محلية جداً، أما عن الاعتقال الجماعي لأفراد من أصول أجنبية فهو نفسه كان موجوداً في سياسات سابقة تمنح الأجانب حقوقاً ظلت تقل وتقل بالتدريج مع مرور الوقت ومع الحكومات المتعاقبة. ورغم كل هذه الإجراءات المقيدة للحقوق والحريات لم يأت قانون المواطنة الشهير ولا غيره من القوانين على ذكر تجارة السلاح وحيازتها لأن الجمهوريين يقفون ضد أي تقييد لحق المواطن الأميركي في شراء السلاح. وفي مجال الدفاع عن الحرب ضد العراق كتب أحد المعلقين يقول إن العالم لم يعرف على امتداد قرون طويلة سلاماً كالسلام الذي يسود العالم اليوم. مرة أخرى تعود فكرة عهد السلم الأميركي لتفرض نفسها على الفكر السياسي والاستراتيجي الأميركي. هذا السلم الأميركي بالمفهوم الذي يسوقه بعض كبار المعلقين الأميركيين ينطبق فقط، في ما يبدو، على حال الحروب بين الدول العظمى. فالسلام العالمي قائم طالما لا توجد حروب بين دولتين كبيرتين أو أكثر. والسلام قائم أيضاً حتى لو كانت عشرات الحروب ناشبة في أنحاء متفرقة من أميركا اللاتينية وجنوب آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط، والسلام مستتب كما الاستقرار العالمي حتى لو قامت دولة عظمى بشن حرب في أفغانستان أو في العراق أو في أي دولة أخرى من دول العالم غير العربي. ومن أهم ما قرأت كان ما كتبه زبيغينو بريزنسكي رئيس مجلس الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس كارتر. كتب يتساءل عن معنى أن تعيش دولة وتطلب أن يكون لها دور قائد في العالم بينما قيادتها خائفة وقلقة ومتوترة ومضطربة التفكير. ثم أنه يثير موضوعاً له أهميته البالغة. كتب عن الفهم الخاطئ للإرهاب في السياسة الخارجية الأميركية قائلاً إن الإرهاب ليس عدواً ولا يمكن أن يكون عدواً، لأن الإرهاب ليس إلا أداة أو وسيلة أو نوع من الحرب. هناك عدو يستعمل الإرهاب ولكن الإرهاب ذاته لا يمكن أن يكون عدواً. وأعتقد أن هذا الموضوع يحتاج من كثير من حكومات العالم بخاصة من الحكومات العربية الاهتمام به قبل أن تغوص أكثر وأكثر في حروب أو تعبئة شاملة ضد أداة حرب ظناً أنها العدو وهي ليست كذلك. العدو يقف وراء الإرهاب. ولكنه ليس الإرهاب. الولاياتالمتحدة لم تحدد حتى الآن بالوضوح الكافي من، أو ما، هو العدو الذي يحاربها بالإرهاب وترد عليه بتعبئة عالمية مستخدمة أقوى ما لديها من أسلحة ومعدات وتكنولوجيا حديثة. لذلك أتفق مع بريزنسكي حين حذر من عواقب شن حروب وقائية بينما الولاياتالمتحدة لا تعرف تماماً من هو العدو الذي يستخدم الإرهاب ضدها. قيل في مبررات شن الحرب على العراق علاقة صدام حسين ب "القاعدة" ثم ثبت أن هذا الأمر غير دقيق تماماً، كما ثبت أيضاً أن الاتهام بوجود أسلحة دمار شامل غير صحيح. في الحالتين: الحالة الأفغانية والحالة العراقية، شنت واشنطن الحرب ضد أدوات حرب وليس ضد عدو واضح ومحدد. خطورة الاستمرار في هذا النهج في التعامل مع الإرهاب أنه سيصبح من حق دول أن تهاجم دولاً أخرى بحجة أن عناصر فيها تستخدم الإرهاب. ولو استمرت أميركا تمارس هذا الحق فسيكون منطقياً أن تنتفض تيارات وأفراد ضدها للانتقام وعندها سيستخدمون الإرهاب لعجزهم عن الانتقام بوسائل أخرى مثل الحرب النظامية. شاهدت على إحدى القنوات التلفزيونية رجلاً من إفريقيا يحمل طفلاً يموت، يردد الرجل أن دولاً وشركات أدوية عملاقة في الغرب تحتكر صناعة الدواء اللازم لعلاج ابنه من مرض نقص المناعة، ثم يصرخ ويهدد بالانتقام لو قضى الطفل. السؤال الذي لا تريد واشنطن الإجابة عنه أو حتى التأمل فيه هو كيف سينتقم هذا الرجل الإفريقي الأعزل الغاضب، إن لم يكن يعمل "إرهابياً"؟. يقول بريزنسكي إن إدارة الرئيس بوش استعملت في خطابها السياسي والإعلامي كلمات كثيرة بلا معنى إلا أنه كان لها أسوأ الأثر على علاقات أميركا الدولية. فالخطاب السياسي للحكومة الأميركية يردد منذ فترة وبلا ملل أن هناك دولاً تكره الحرية، هنا أيضاً تفقد السياسة الأميركية الجديدة صدقيتها لأنه من غير الممكن توجيه الاتهام لدول بكراهيتها للحرية لمجرد أنها تختلف مع الولاياتالمتحدة الأميركية، تماماً كالقول بأن هناك دولاً تكره أميركا. كلمات غير دقيقة تسعى إلى تشويه مشاعر الشعوب الحقيقية تجاه أميركا والشعب الأميركي. ويركز بريزنسكي على خطورة مفردات الخطاب الأميركي المعاصر وتوجهاته على علاقات أميركا بحلفائها، ويختار أمثلة كالادعاء المتكرر بأن أميركا تتحدث باسم الرب الخالق وتنفذ إرادته، أو أن أميركا تعني الغنى والتقدم فالعاجزون عن الغنى والتقدم لا بد أن يكرهوا أميركا، وهكذا العاجزون عن تطوير قوتهم العسكرية. أميركا هي القوة والعدل والحرية والإرادة السماوية. ومن يرفض هذه "الحقيقة" كاره لأميركا. قليلون في ظني هؤلاء الذين سيثقون ثقة كاملة ومطلقة في كل ما يقوله الرئيس الأميركي من الآن فصاعداً. أنا نفسي أجد صعوبة في الاقتناع بأن عبارات ومواقف التأييد العربي لسياسات أميركا الجديدة في الشرق الأوسط أو غيره تصدر عن نية صادقة أو باطمئنان أو باقتناع. فالدولة التي يكون شعارها أو عنوان خطابها السياسي "إما معنا أو ضدنا" لا تطمئن لها الدول الأخرى. وما كان يمكن فهمه أو تفهمه في الأيام القليلة التي أعقبت تفجير البرجين في نيويورك والبنتاغون في واشنطن يصعب فهمه أو تفهمه الآن. إذ أنه حين تدور أنشطة الدولة الأعظم كافة حول بند واحد يصبح واجبنا أن نقلق عليها ونقلق منها في آن واحد. فالولاياتالمتحدة تبدو منذ ذلك الحين وكأنها لم تعد تفهم بالدقة الكافية ما يحدث في الخارج. تأكدنا الآن أنها لم تكن تعرف العراق كما كان يجب أن تعرفه كساحة لحرب يجري الإعداد لها منذ زمن طويل. وتأكدنا أنها لم تعرف الكفاية عن فلسطين وعن العرب وعن المسلمين. يكفي أن تقول مستشارة الرئيس بوش للأمن القومي الأميركي إن الصراع العربي - الإسرائيلي أسطورة اختلقتها الحكومات العربية، لندرك حدود معرفة أميركا بفلسطين والعرب والمسلمين. إن أخطر ما يمكن أن يحدث للولايات المتحدة هو أن تقع في المأزق ذاته الذي وضعت إسرائيل نفسها فيه. فإسرائيل لكي تهرب من اتهامات بارتكاب جرائم عنصرية وتصفية الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية لجأت إلى تضخيم موضوع العداء ضد السامية ليختلط الأمر على الناس وتستطيع بسهولة أن تتهم المعارضين لسياساتها بأنهم عنصريون ومعادون للسامية. أميركا تكاد تفعل الشيء ذاته حين يتوجه الخطاب السياسي الأميركي تدريجياً ولكن بقوة نحو اتهام من ينتقد السياسة الخارجية لحكومة الرئيس بوش بأنه عدو للشعب الأميركي. الخطورة في هذا التوجه أنه ينقل قسراً أفراداً وشعوباً ودولاً من خانة الرأي الآخر إلى موقع الضد، أي إلى موقع العدو. * كاتب مصري.