ليس من عادات عالم الاقتصاد، المأخوذ بالتحليل الصارم، ان يأخذ بمعلومات روائية. ومع ان بعض الماركسيين احتفى ببصيرة بلزاك الفاتنة، التي تنصبه مرجعاً لعلماء الاجتماع والاقتصاد والتاريخ، فإن بصيرة الروائي، الذي شاء ان يكون "سكرتيراً للتاريخ"، لم تختلس من النص الروائي منظوره الذي يتحدث عما وقع وعما هو محتمل الوقوع، كما لو كان النص مزيجاً هجيناً من الوقائع المشخصة والوقائع المحتملة. لم يمنع هذا عالم الاقتصاد المصري "جلال احمد أمين" ان يضيف الى حقله الخاص به حقلاً غريباً عنه هو: "النقد الأدبي"، حيث الاقتصادي يقبل بنصوص روائية ويرفض اخرى، متوسلاً معايير تلائمه، تعيّنه قارئاً وناقداً في آن. وآية هذا كتابه الجديد: "كتب لها تاريخ"، الذي يتوقف امام اعمال: الطيب الصالح وبهاء طاهر وسلوى بكر وعلاء الأسواني ولطيفة الزيات وثروة أباظة وأعمال اخرى... لم ينتقل جلال أمين من القضايا الاقتصادية الى "تحليل الروايات" من دون توسط أو تجسير، ذلك انه اعطى كتباً تلامس موضوعه وتفيض عليه، مثل: "محنة الاقتصاد والثقافة المصرية، المثقفون العرب واسرائيل، التنوير الزائف، وصف مصر في نهاية القرن العشرين، العولمة والتنمية العربية...". ولعل هذ ه القضايا التي تحيل على الموضوع الاقتصادي كشف الأقنعة عن نظريات التنمية الاقتصادية بنسب مختلفة تعين جلال أمين مختصاً يكسر الاختصاص، وتجعل منه صورة عن "القارئ الممتاز"، الذي حلم به طه حسين ذات مرة، وبما ان في هموم "المثقف الممتاز" ما يكسر حدود الاختصاص، فإن أمين لا يرى في الناقد الادبي المختص مرجعاً للأحكام الصائبة، ويرى لذاته الحق في استبدال الناقد بغيره، طالما ان الاختصاص في ذاته ليس عنواناً للحكمة. مع ذلك فإن "الاقتصادي - الناقد" لا يدخل الى النقد الأدبي بلا تحرّج. قليل أو كثير، بل ينثر كلمات مواربة تبرر فعله ولا تبرره في آن، فهو يشير الى اختلاف اساليب القراءة التي تسمح لقارئ ان يبدأ من فعل روائي معين وتتيح لآخر ان ينطلق من زاوية اخرى، مؤكداً حرية "المتعلم الممتاز" ويستدعي، بشكل سريع، معنى الابداع والفطرة والفطرة المبدعة، محتفظاً لنفسه بصفة "التطفل"، التي تلازم ضيفاً جاء الى مأدبة لم يدع اليها، بيد ان جلال أمين، النزيه الحر العفوي، لا يلبث ان يعلن ان في احكام "النقاد المحترفين" ما لا يرضيه وان في لغتهم ما لا يروقه، وان في ذائقتهم الادبية ما يصدمه ويثير حنقه. وهذا ما يدفعه الى تعنيف "صبري حافظ" آخذاً عليه لغة ينقصها الوضوح وتساهلاً في وظيفة النص الروائي الاخلاقية، وعن مبدأ الاختصاص الذي لا يحتشد فيه الحق، كما "ضلال" النقاد المحترفين وطقوسهم الكهنوتية، تصدر رغبة "الاقتصادي" في ان يكون ناقداً، كأنه شاء ان يفصل بين النص المفيد ونص شره اكثر من خيره، وبين نقد عفوي مريح ومستريح ونقد آخر يربك الاسئلة الواضحة. في مقابل مصطلحات احترافية تتحدث عن "استراتيجيات توليد المعنى وتكامل الثنائيات المتقاطبة"، يأخذ الاقتصادي بمعايير واضحة تتكلم عن العمق والتشويق والنفاذ الى القلب، وعن ذلك الابتكار الذي يضع بين القراء شخصيات روائية التقوا بها غير مرة، الا ان السؤال الاساس الذي يطرح هذا كله هو التالي: ما هي آثار "التربية الاقتصادية" في قراءة نص روائي؟ وما هي الاسباب الروائية التي تدفع باقتصادي محترف الى الاحتفال باعمال "غير اقتصادية"؟ لا يتلكأ جلال أحمد أمين في الاجابة، وهي قائمة في عناصر ثلاثة: الوضوح الموضوعي، او الموضوعية التي يقبل بها العقل، اذ في العمل الروائي ما يستنطق الواقع استنطاقاً صائباً، معيناً الأدب ناطقاً بحقيقة جماعية، ليس غريباً، اذاً، ان يُدرج الاقتصادي في "تحليله المتطفّل"، في شكل متواتر، تعبير: المسألة المصرية، اي جملة الوجوه التي تضعف المجتمع المصري، مثل الفساد وضعف الانتماء والنفاق السياسي: يتكشف العمل الروائي، بهذا المعنى، وثيقة اجتماعية، تكتب عما يكتبه الاقتصادي، ويستظهر وثيقة عارفة نزيهة، اما العنصر الثاني فهو "الانسان"، الذي توضع من اجله سياسات اقتصادية "رشيدة"، تقوم الاعمال الروائية بالتصريح عن رشادها او لفظيتها الكاذبة. ولعل سؤال الانسان، الذي يتوزع على الرواية وعلم الاقتصاد معاً، هو الذي يحوّل المقولات الاخلاقية عند أمين الى مقولات جمالية مثل: الأمل، المقاومة، انتظار النور، التفاؤل، التسامح، وهو في هذا، وقد ارتكن الى "مسألته المصرية"، لا يبشّر بنسق مجرد من القيم، بل ينصر الاعمال الروائية التي تنص قيماً جميلة خذلها الواقع المصري. ومع ان الاقتصادي المصري اختار اعمالاً "تنفذ الى اعماق المجتمع المصري"، فإن القول بعلاقات التلازم بين الاخلاقي والجمالي يستدعي سؤالاً مؤرقاً عن معنى الأدب والعلاقات الأدبية، فإذا كان على العمل الروائي ان يعكس احوال زمانه، بما يُرضي هموم الاقتصادي واسئلته، فإن هذا العمل ينزف دلالته بعد الانتقال الى زمن مختلف، الامر الذي يقوّض "كونية المعايير الجمالية" ويحوّل "تاريخ الأدب" الى سؤال عقيم. ان العنصر الثالث هو "اقتصاد اللغة"، وذلك بمعنى مزدوج: فالاقتصاد في ذاته فضيلة تنقض الترف والبطر والتزيد، والاقتصادي اللغوي فضيلة كتابية مجلاها الوضوح والبساطة و"السلاسة". غير ان اللغة المقتصدة، التي يدعو اليها الاقتصادي، تطرح على الناقد، احترافياً كان أم هاوياً، سؤالاً لا يمكن تجاهله: فإذا كان الوضوح فضيلة اللغة الأولى، فإن في هذه الفضيلة ما يختزل اللغة الادبية الى بعدها الاستعمالي لا اكثر، وهو ما لا يأتلف مع معنى الممارسة الأدبية، التي تعطي اللغة المجازية حيزاً واسعاً. ولعل في القبول بهذه الفضيلة ما يبدد دلالة اعمال ادبية كثيرة، مثل بعض اعمال جمال الغيطاني في مرحلتها المتصوفة، وراوية هدى بركات "أهل الهوى"، او ذلك العمل المتألق الذي يداعب الروح "أسير عاشق" للراحل جان جينيه. ينفذ الاقتصادي الى عالم الرواية حاملاً آثار "تربيته الاقتصادية"، وتذهب الرواية الى الاقتصادي معلنة عن: قوة الأدب. فلو التقى الاقتصادي في حقل اختصاصه بما يغنيه عن معارف اخرى لما ذهب الى "عرس الزين وعمارة يعقوبيان"، ولو لم يكن في اعمال بهاء طاهر ما لا يسر به "العلم الاقتصادي" لما اثنى عليها الاقتصادي ثناء كبيراً. وللجواب المطلوب اشكال متعددة: يقول الجواب الجاهز بتكامل المعارف الانسانية، ويقول جواب آخر بمحدودية "العلوم الدقيقة"، التي تعالج من الانسان وجهاً صريحاً ولا تنفذ الى آخر خبيء تتكفل به الرواية والشعر والمسرح... لكن جلال أمين يصوغ اجابة ثالثة ترضي "الأدباء" وتؤكد قوة الأدب كأن يقول: "ان الأدب وسيلة اكثر فعالية بكثير في التعبير عما أصاب المجتمع المصري من تحولات خلال العشرين عاماً الماضية، من اي علم من العلوم الاجتماعية..." في الاعتراف الصريح اشياء من الغرابة، لأنه يوازن بين العلم والأدب ويعترف للأخير بعلمية خاصة لا توجد في العلم المختص الدقيق. وبداهة فإن في كلام "أمين" آثاراً صريحة من آثار: "المتعلم الممتاز" المأخوذ بالحرية والحقيقة، بقدر ما فيه تذكير بمفهوم "الكلّية"، اذ العمل الأدبي ينطوي على علاقات الواقع متحاورة ومتكاملة، وبفكرة "البصيرة الأدبية"، التي تضع في الحاضر المعيش ملامح مستقبل لم يأت بعد.. هذه البصيرة هي التي جعلت نجيب محفوظ يلامس موضوع "الانفتاح" في روايته الصغيرة "أهل القمة" قبل ان يلتفت اليه الاقتصاديون المختصون. يستدعي اعتراف أمين ملاحظة سريعة: لا يعود تفوق الأدب على غيره من العلوم الاجتماعية الى "البصيرة الأدبية" فقط، بل الى جملة شروط عربية تشل الواضح وتلغي الصريح المعلن ولا تكترث كثيراً ب"الأدبي" المتوج بالأقنعة، ولعل شروط الرقابة الرسمية والجماهيرية هي التي تجعل، ربما، من الرواية "العلم الوحيد" في العالم العربي، ذلك العلم المغترب المخذول والمتمرس وراء المُكر وأعمدة المجاز. ينجز جلال أمين في "كتب لها تاريخ" قراءة حرة، تنصر الروائي الحالم بالحرية وتفتش عن قارئ محتمل ينصر الروائي والناقد في آن. وحريته هذه تقوده الى مساءلة المختصين من النقاد ولا تطمح الى تعيينه ناقداً جديداً، لأنه لو شاء ان يكون ناقداً محترفاً لما تمرد على اختصاصه الاقتصادي الاول. واذا كان في هذه الحرية ما يعبر، نظرياً، عن عقل حواري ينكر التعصب فإن فيها، تاريخياً، ما فيها يرد الى النسق التنويري العربي، الذي عالج القضايا جميعاً من وجهة نظر التحريض والإنارة. بهذا المعنى، يقدم "أمين" مداخلة أخلاقية في الأدب. تُعلي من شأن الانسان الحر وتتحفظ على نقد مختص، جميل اللباس وفقير الكلام.