سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
فجوة بين الخطاب الاعلامي والقرار السياسي ... واستمرارية في سياسة حافظ الاسد الخارجية . التصويت السوري ضد العراق: دمشق تثبت مجدداً قدرتها على قراءة اتجاه الرياح الدولية
لم يكن شعبياً التصويت السوري لمصلحة القرار 1441، واختلف المحللون ازاءه، لكن لا شك في انه كان الخيار الوحيد المتاح امام الحكومة السورية في ظل الوضعين العربي والدولي. والأهم انه سهل على العراق قبول القرار "من دون قيد او شرط" اذ ان اي موقف سوري آخر كان سيكون بمثابة المزاودة على بغداد. وباعتبار ان المسألة العراقية كانت الامتحان الاول للسياسة الخارجية منذ تسلم الدكتور بشار الاسد الحكم عامين فإن التصويت الايجابي دل الى استمرارية السياسة الخارجية السورية التي اتبعها الرئىس الراحل حافظ الاسد. يبدو تصويت سورية في مجلس الأمن الى جانب القرار 1441 مفاجئاً قياساً الى الخطاب الاعلامي المناهض للسياسة الاميركية في شأن العراق والى العقيدة القومية لحزب "البعث" الحاكم في كل من دمشقوبغداد. لذلك لم يلق هذا التصويت ترحيباً في الشارع السوري الذي اعتاد على خطابات المسؤولين والاعلام الرسمي المتضمنة اشد العبارات انتقاداً لادارة الرئيس جورج بوش التي تستهدف "استعماراً جديداً للشرق الاوسط ورسم خريطة سياسية جديدة للمنطقة ارضاء للصهيونية لأن حدود سايكس - بيكو الراهنة لم تعد تلبي مصالح اسرائيل". من حق من ألّف هذا الخطاب وشارك في الجهود الشعبية وشبه الرسمية لمقاطعة البضائع الاميركية بسبب انحياز واشنطن الى اسرائيل و"سعيها لخدمة المصالح الصهيونية" في المنطقة، ان يصاب بالخيبة لتصويت بلاده الى جانب قرار سوقته الادارة الاميركية وضمنته "شروطاً تعجيزية" بهدف "احتلال العراق وسرقة نفطه". لكن لن يفاجأ ابداً من يعرف بدقة ما يخدم مصالح سورية ومن يتابع مسيرة السياسة الخارجية السورية في العقود الاخيرة والمواقف التي اتخذتها في المراحل الخطرة، خصوصاً عندما كانت مهددة لاستقرار البلاد، ومدى تمتع دمشق ببراغماتية سياسية عالية تجعلها قادرة على الميل في وجه العواصف، لاعتقاد صناع القرار ان "البراغماتية لا تتناقض مع المبدئية. الاولى، تمثل الطريق للوصول الى الثانية". آخر مثال على هذه "البراغماتية" بالمعنى السياسي و"الحكمة" بالمعنى السوري الداخلي، كان في تشرين الاول اكتوبر العام 1998 عندما حشدت الحكومة التركية جيشها على الحدود الشمالية لسورية، مطالبة ب"طرد" عبدالله اوجلان زعيم "حزب العمال الكرستاني". ولم ترد سورية وقتذاك بحشد جيشها، بل أعطى الرئيس الراحل حافظ الاسد اوامره بعدم تحريك جندي شمالاً لأنه لم يكن مستعداً الدخول في حرب مع تركيا من أجل حزب كردي وأمر بتشكيل لجنة امنية مشتركة اسفرت عن توقيع اتفاق امني مع تركيا وحل المشكلة و"خروج" اوجلان قبل خطفه من قبل اجهزة الامن التركية ومحاكمته، وصولاً الى فتح صفحة جديدة اسفرت عن تحييد انقرة وضمان الاستقرار والتركيز على "العدو التاريخي اسرائيل". وفوجئ الرأي العام السوري آنذاك بهذا الموقف الرسمي لأن الخطاب كان معادياً ل"الاتراك المتحالفين عسكرياً وأمنياً مع اسرائيل لاعادة سياسة الاحلاف وتطويق سورية بين فكي كماشة"، بل اعضاء في الوفد المفاوض كان يعتقد ان سورية ستخوض حرباً مع انقرة. وكان السوريون فوجئوا ايضاً قبل ذلك بثماني سنوات عندما استيقظوا ذات يوم على نبأ دخول سورية في "الحلف الدولي لاخراج جيش النظام العراقي من الكويت الشقيق"، بعدما وجه الاسد رسالة الى صدام حسين مناشداً اياه الانسحاب من الكويت "مع الاستعداد للوقوف في خندق واحد لو تعرض الجيش العراقي للعدوان خلال انسحابه". صدام لم ينسحب، وسورية دخلت التحالف الدولي الذي خاض "عاصفة الصحراء" ما جنبها العاصفة الدولية التي بدأت رياحها تهب في دول اوروبا الشرقية. أي ان القيادة السورية وجدت مصلحة البلاد والاستقرار في الدخول رمزياً مع اميركا لاعطاء "شرعية عربية" مع مصر لحرب تحرير الكويت. وحصل في المقابل على: اولاً، دعم وحماية دولية لمواجهة التغييرات الدولية وانهيار حلفاء سورية الشيوعيين. وثانياً، اطلاق عملية السلام لحل الصراع العربي- الاسرائيلي ودخول مفاوضات لاعادة الجولان. وثالثاً، دعم الوجود السوري في لبنان والتخلص من الجنرال ميشال عون الذي اعلن "حرب تحرير" ضد الجيش السوري. ورابعاً، اعطاء مهلة لتكييف وضعها مع "النظام الدولي الجديد" بعد دورها في تسليم الرهائن. ونظرياً هناك تشابه مع ظروف ما قبل حرب الخليج العام 1991، فماذا تريد سورية حالياً "ثمناً سياسياً" للتصويت لمصلحة القرار 1441؟ هناك اهداف استراتيجية، هي: اولاً، ضمان وحدة العراق وسيادته وعدم حصول فوضى، إضافة الى عدم قيام دولة كردية تلهم اكراد المنطقة. ثانياً، دعم سياسي للوجود السوري في لبنان مع تكيفه مع الوضع الجديد وربط مستقبله بالتسوية السلمية. ثالثاً، التزام التسوية السلمية الشاملة واعادة الجولان السوري الى حدود 4 حزيران يونيو 1967. رابعاً، تخفيف الضغط الاميركي بسبب وجود منظمات تعتبرها واشنطن "ارهابية" مثل "حماس" و"الجهاد الاسلامي"، طالماً ان دمشق تعتبرها منظمات مقاومة ولها الحق الشرعي بالمقاومة والبقاء في سورية لأن قيادتها من اللاجئين الذين تتحمل اسرائيل مسؤولية تهجيرهم. خامساً، دعم الاصلاح الاقتصادي والسياسي في البلاد مع مهلة زمنية للتكيف سياسياً مع متغيرات ما بعد 11 ايلول سبتمبر كما كانت متغيرات انهيار الكتلة الشرقية قبل عشر سنوات. سادساً، مساعدات اقتصادية او استمرار العلاقات الاقتصادية القائمة مع العراق البالغ نحو 1,5 بليون دولار. أي، لا يشكل عراق المستقبل عبئاً على سورية لا بالمعنى السياسي ولا بالمعنى الاقتصادي. كانت هذه الاهداف العريضة لسورية التي تأمل ان تفاوض عليها مع الادارة الاميركية، وكان هناك في الاشهر الاخيرة مسارا "العصا والجزرة" بين دمشقوواشنطن. اذ ان ادارة بوش كانت مدركة لاهمية الدور السوري في "تهدئة العواطف" بسبب خصوصية الاثر القومي السوري في الشارع العربي احتجاجاً على الجرائم الاسرائيلية، واعطاء "شرعية عربية" للقرار 1441، لكن لم تكن في صدد دفع كامل "الثمن" الذي تطلبه دمشق، فكانت تستخدم اسلوبي "عصا" الضغط السياسي والاقتصادي و"جزرة" الترغيب السياسي والاقتصادي، اللذين ردت عليهما دمشق ب"عصا اغلظ" لادراكها أهمية دورها في المحيط العربي والاقليمي كنظام علماني وقومي ذي علاقات مع فرنسا وروسيا دولياً وايران ومصر والسعودية عربياً. وتضمن مسار الضغط العناصر الآتية: اعلان الرئيس بوش ان سورية تستضيف "معسكرات ارهابية" في خطابه الشهير في 24 حزيران الماضي، وعدم اجراء محادثات رسمية مع وزير الخارجية فاروق الشرع لدى زيارته الى نيويورك لترؤس جلسات مجلس الامن في حزيران، مناقشة مشروع قانون محاسبة سورية في الكونغرس، تسريبات عن احتمال قيام اسرائيل ب"تصفية حساب" مع سورية في لبنان و"حزب الله" واحتمال اتخاذ الحكومة الاسرائيلية الحرب على العراق ذريعة لاضعاف سورية، وحديث جون بولتون عن تعاون نووي سوري - روسي، تحذير وليم بيرنز مساعد وزير الخارجية لسورية من تهريب النفط العراقي وايصال اسلحة الى العراق "خرقاً لقرارات مجلس الامن المتعلقة بالحصار"، واشارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك الى ان اسرائيل "تنتظر ذريعة لضرب سورية" خلال لقائه الاسد في دمشق، واعتذار واشنطن عن قيام طائرة اميركية بالتحليق "خطأ" فوق الاجواء السورية بالتزامن مع تسريبات عن احتمال قصفها "خطاً" لأنبوب النفط. اما "الجزرات" الاميركية فكانت تضم العناصر الآتية: كتابة بوش ووزارة الخارجية الى الكونغرس لمنع اقرار قانون المحاسبة في ايلول، واشادة كبار المسؤولين بتعاون سورية في محاربة الارهاب و"انقاذ ارواح اميركيين"، اجراء محادثات بين الشرع ونظيره كولن باول خلال اجتماعات الجمعية العامة، ودعوة الشرع الى اجتماعات اللجنة الرباعية المتعلقة بتنفيذ "رؤية" بوش لاقامة دولتين فلسطينية واسرائيلية، وقيام ديبلوماسي عربي بنقل "تصور واضح مع خرائط" لاحتمال انسحاب اسرائيل من الجولان مع الحرص على التسوية الشاملة على جميع المسارات، واجراء اتصالات غير علنية في لندن بين شخصيات سورية وأميركية، وانتهاء باتصالات من الرئيس شيراك مع الاسد لحضه على التصويت مع القرار وتقديمه "ضمانات بأن القرار لن يستخدم ذريعة لضرب العراق"، وارسال باول رسالة خطية الى الشرع. وعلى رغم ان المسؤولين السوريين مهدوا للقرار باعلان مدى الاهتمام الدولي بالموقف الذي ستتخذه بلادهم، فإن الشارع بقي معتقداً ان القرار سيكون الرفض او الامتناع عن التصويت في احسن الاحوال، بعد التحذيرات من ان "الحرب في افغانستان ستكون نزهة قياساً الى العراق" ومن ان "الرمال العراقية ستكون اصعب وأخطر من الرمال الافغانية" وقياساً الى الجهود التي بذلت اخيراً لتعزيز العلاقات مع جميع من تصنفهم واشنطن "اعداء" لها في "محور الشر" و"نادى الارهاب" أي، السودان وكوبا وليبيا وايران وكوريا الشمالية والعراق. مرة اخرى اثبت النظام السوري مقدرة على قراءة اتجاه الرياح ومواقف فرنسا حليفه الدولي وايران حليفه الاقليمي. لكن الاهم ملاحظة ان كيفية التعاطي مع القرار دلت الى ان استمرارية السياسة الخارجية التي اسسها الرئيس الراحل بعد تسلم الدكتور بشار الاسد الحكم. أي، ان الرئيس الراحل كان سيتخذ الموقف ذاته لو كان حياً في هذه الظروف.