أتصور أن المعاني التي تشير إليها ترجمة سعيد يقطين لمصطلح "التعلق النصي" hypertextuality في الأفق النقدي لتحليل النصوص الذي فتحه جيرار جينيت، ومضى فيه سعيد يقطين، هي في نهاية الأمر معانٍ محدودة بأفقها النوعي، ومحصورة في العلاقة ما بين نص لاحق hypertext ونص سابق hypotext، ولا تجاوز ذلك في دائرة التحليل التي تظل مرتبطة بنصوص مكتوبة، أو مطبوعة في كتب، متعاقبة في تاريخها الذي يتصل بمواقف اللاحق القيمية من السابق. وهي بعد ذلك - وقبل ذلك - مرتبطة بنص له ثباته المائز، وطبيعته الخطية أو الأفقية التي تفرض علينا قراءته من اليمين إلى الشمال، أو من الشمال إلى اليمين، في لغات عدة، ولا نفهمه إلا في تعاقبه الأفقي، حتى لو خرجنا أحياناً على هذا التعاقب من قبيل الاستثناء. ولكنْ للتعلق النصي معانيَ مغايرة، تفتح أفق الدلالة الثانية التي تقترن بعموم التعلق الذي لا ينحصر في علاقة لاحق بسابق، وداخل دائرة النص المكتوب وحدها، وإنما يجاوز ذلك إلى علاقة عامة، تصل النصوص المكتوبة بالنصوص المخزونة في الكومبيوتر، أو الموجودة في أقراص مدمجة، أو المتاحة على مواقع الإنترنت المختلفة. وعموم هذه العلاقة الجديدة، في تغاير أوضاعها التي يتيحها الكومبيوتر أو الإنترنت، قرين العلاقة المغايرة ما بين القارئ والنصوص التي فقدت صفتها المادية على صفحات كتاب وتحولت إلى علاقة ما بين قارئ وأقراص مدمجة على شاشة الكومبيوتر، أو نصوص تتيحها الشاشة نفسها على مواقع الإنترنت التي تقدمها. وتلك علاقة تؤدي إلى تغيير في معاني التعلق وهيئاته، كما تؤدي إلى تغيير جذري في معاني "المتعلِّق" و"المتعلَّق به" اللذين تنداح المسافات بينهما بقدر ما تتباين إلى ما لا نهاية. وينتج من ذلك نص يغدو مفعولاً للتعلق بكل أشكاله التي يقيمها القارئ، كما يغدو فاعلاًً أو مسهماً في عملية التعلق بحكم طبيعته التي لا تنحصر في البعد الأفقي وحده، بل تجاوزه إلى البعد الرأسي، وغيره من الأبعاد الممكنة التي تحيل "التعلق" إلى "تعالق". ومن هذا المنظور تغدو لدلالة المطاوعة الصرفية في صيغة "التعالق النصي" مغزاها الواعد الذي يؤكد تبادل الفاعلية بين الأطراف الفاعلة والمنفعلة في النص الذي نطالعه في الكومبيوتر. أو في مواقع الإنترنت، ونتبادل وإياه إمكانات إعادة الإنتاج النصي في علاقات مغايرة. هكذا، تكتسب صيغة التعالق النصي معانيَ مجددة يمكن الكشف عنها - في مجالاتها الجديدة - بالعودة إلى معجمين يهتمان بمتغيرات ثلاثة. أولها متغيرات الاصطلاح في النظرية الأدبية والنقد الثقافي من ناحية. وثانيها متغيرات علم العلامات والإعلام والاتصال من ناحية موازية. وثالثها متغيرات المجالات البينية التي تصل بين الجميع والتقنيات الاتصالية المتقدمة في الكومبيوتر والإنترنت. أما المعجم الأول فهو "معجم كولومبيا للنقد الأدبي والثقافي الحديث" من إعداد جوزيف شيلدرز Childers وجاري هينتزي Hentzi، وصدر عن مطبعة جامعة كولومبيا، نيويورك 1995، ويحدد المعجم دلالة "النص المتعالق Hypertext - في عملية التعالق النصي - على النحو الآتي: "مصطلح سكّه رائد الكومبيوتر تيودور ه. نيلسون في الستينات، ولكنه دخل حديثاً في الاستخدام العام، فأصبح ال Hypertext يشير إلى الإمكانات الجديدة التي خلقها الكومبيوتر للوصول إلى النصوص والربط بينها. فوق ذلك، يؤكد المصطلح الطرائق التي يسمح بها الكومبيوتر للقارئ أن يهرب من تضيقات الخطية، والتثبيت، والتقييد الذي يميز النصوص التقليدية المكتوبة. بالطبع، فإن فعل القراء لم يكن محدداً بهذه الخصائص على نحو بسيط، ففي الاستخدام، كان القراء قادرين على التنقل داخل النص، القفز من المتن إلى الهوامش، التوقف لمراجعة نصوص أخرى، أو التخلّي ببساطة عن نص في سبيل غيره. مع دخول الكومبيوتر والبرامج الحديثة، على أي حال، فإن القدرة على الحركة من كتلة في النص إلى غيرها في النص نفسه، أو في نص آخر تعززت على نحو هائل، وأخذ كُتَّاب من مثل جور ب. لانداو ينظرون إلى هذا التطور بصفته إكمالا إتماما تكنولوجياً لمفاهيم نظرية من مثل مشروع إزاحة المركز، اطراح المركز، مفاهيم التناص والنص الكتابي والرفض ما بعد الحداثي للسرد الخطي الذي يمضي في اتجاه واحد". وهناك فهم مقارب أو مشابه نجده في "المعجم الموسوعي لعلوم العلامات والإعلام والاتصال" من إعداد مارسيل دينسي: "النص المتعالق هو النص الإلكتروني الذي يقدِّم يزودنا ب روابط عناصر مفتاحية، ممكِّنا المستعمل من الحركة خلال المعلومات على نحو غير متتابع أو متعاقب. وقد سك المصطلح سنة 1965 ليصف النصية الخاصة بالكومبيوتر بصفتها على النقيض من النصية الخطية للكتب والأفلام والكلام. النصية الأولى تسمح للمستعمل أن يستعرض خلال مواضيع ذات علاقة بالموضوع، من غير اعتبار للنظام المقدّم للمواضيع. هذه الروابط تتأسس تتحدد عادة بواسطة كل من مؤلف وثيقة النص المتعلق والمستخدم المستعمل، اعتماداً على القصد من وثيقة النص المتعالق. مثال ذلك، الإبحار عبر روابط كلمة لغة في مقالة عنها، يمكن أن يقود المستخدم إلى "الأبجدية العالمية للأصوات"، وعلم اللغة اللغويات، وعينات من لغات العالم... إلخ". وبعد هذين التعريفين اللذين يمكن أن يعينا على فهم مصطلح "النص المتعالق" ومجالاته، يمكن التوقف عند الإضافة التي يطرحها أمبرتو إيكو في المجال الذي يطلق عليه "شعرية التعالق النصي" والتنظير الذي يصوغه - من منظور هذه الشعرية - للتقابل بين النص التقليدي الموجود في كتاب مطبوع أو مخطوط، والمقروء بطريقة أفقية والنص الإلكتروني الذي ينبني على إمكانات غير محدودة من التعالق الذي يصنعه القارئ ويصنعه النص في الوقت نفسه، وذلك في عملية إدراكية لا تخلو من معنى التبادل في تقديري. ومن هذا المنظور الخاص ببنية التعالق النصي، يمايز إيكو بين ظاهرتين مختلفتين اختلافاً كلياً. أولاهما نصية النص المتعالق. وثانيتهما نسقية النص المتعالق. وتتضح الظاهرة الأولى على مستوى المقارنة بين النص التقديري للكتاب المألوف والنص المتعالق في الكومبيوتر. ففي الأول نقرأ قراءة خطية في اتجاه واحد: من اليمين إلى اليسار، أو العكس، أو من أعلى إلى أسفل، أو العكس، بحسب الثقافات. ويمكن أن ينتقل القارئ لهذا النص عبر الصفحات بما لا ينقض أحادية الاتجاه، فيرجع من صفحة ثلاثمئة إلى صفحة عشرين مثلاً للتحقق من معلومة، أو استرجاع معلومة فاتته، يتيقن منها ليعاود المضي في الاتجاه المطَّرد. وعلى النقيض من ذلك النص المتعالق، فهو شبكة متعددة الأبعاد، أشبه ما تكون بمتاهة تذهلنا بعدد ممراتها المحيرة المفتوحة على كل الاحتمالات، حيث يمكن لكل موضع أو نقطة التقاء أن يتصلا بأي نقطة أو موضع غيرهما. هذه النصوص المتعالقة تؤدي إلى اختزال وقت وجهد في عمليات البحث: الربط، المقارنة، القياس، الاستنباط أو الاستنتاج، وذلك على نحو يمكن أن يؤدي إلى التخلّي عن الأشكال المادية للعدد العديد من مجلدات الموسوعات والمراجع الكبرى، واللجوء بدلاً منها إلى أشكالها غير المادية على مواقع الإنترنت، ومن ثم تحويلها من نصوص تقليدية مطبوعة نقرأها خطياً إلى نصوص إلكترونية متعالقة نقرأها في أي اتجاه نشاء. ويوضح إيكو هذا الأمر بتقديم المثال الآتي: أفترض أنني أريد أن أعرف ما إذا كان ممكناً لنابليون أن يتقابل وكانط الفيلسوف سأرجع إلى مجلدات الموسوعة العالمية التي أمتلكها، أو التي أجدها في المكتبة العامة، وأختار مجلد حرف النون مجلد حرف الكاف من مجلدات الموسوعة، وأبحث تحت اسم نابليون وكانط. وعنده سأعرف أن الأول عاش ما بين 1769-1821 والثاني ما بين 1724-1804، الأمر الذي يعني معاصرة كانط لنابليون، واحتمال اللقاء بينهما. لكن السيرة المختصرة لكل منهما في الموسوعة لن تكفي لتأكيد هذا الاحتمال، ومن ثم لا بد من الرجوع إلى كتب كثيرة، عن الاثنين، فوق أرفف المكتبة، وتدوين ملاحظات، ومقارنة بيانات أجمعها مع الملاحظات، كي أستنبط في النهاية الاحتمال الذي افترضته نظرياً. وتتطلب هذه العملية من الوقت والجهد البدني والعقلي الكثير. ولكن كل هذا الجهد يمكن توفيره مع الجهد في حال النصوص المتعالقة للموسوعات والمراجع الكبرى، فما علىّ سوى أن أتجول بحرية بين الموسوعة التي تحولت في الكومبيوتر إلى نص متعالق، فأربط بين أحداث يأتي ذكرها في البداية وأخرى مشابهة لها في مواضع أخرى من النص، وأعطي أمراً بتكوين قائمة بجميع الكلمات التي تبدأ بحرفٍ ما، أو جميع المواقف والأحداث التي يأتي فيها اسم نابليون مقترناً باسم كانط، وأن أقارن بين تاريخي ولادتهما ووفاتهما في ثوانٍ أو دقائق معدودة. وذلك كله من دون حاجة إلى مراجعة مجلدات وكتب عدة لأيام وأيام، وحمل أثقالها بدنياً وذهنياً. وإذا كان تحويل الموسوعات إلى أقراص مدمجة قد اختزل الوقت أو الجهد إلى أبعد حد، وذلك بالقدر الذي أحال نصوصها التقليدية إلى نصوص متعالقة، فإنه سيؤدي في المستقبل إلى تحول الأقراص المدمجة إلى مواقع على الإنترنت من دون حاجة إلى المجلدات التقليدية من الموسوعات. أما الظاهرة الثانية فتتصل بالنظام أو النسق الذي تندرج فيه النصوص المتعالقة، فهذه النصوص تتصل بشبكة النصوص العالمية WWW التي هي الأم الكبرى لكل النصوص المتعالقة على امتداد الكوكب الأرضي، وربما على امتداد المجرّة الكونية في المستقبل، هذه الأم الكبرى هي شبكة Web مكتبة عالمية هائلة تتيح للمرء، أو ستتيح في زمن قصير، أن يحصل على كل الكتب التي يرغب فيها. ولكن إذا كان وجود هذه الشبكة الهائلة يقترن بالحضور الافتراضي، أو غير المادي للكتاب، فهل يؤدي هذا الوجود إلى اختفاء الوجود المادي للكتاب؟ لا أحد يستطيع الجزم تماماً بما يحدث في المستقبل، ولا حتى أمبرتو إيكو، ولكن بعض ظواهر الحاضر قد تقودنا إلى التخمين، فالمرء يظل بحاجة إلى الكتاب المادي ليس في الأدب وحده، بل في جميع الحالات التي تتطلب قراءة دقيقة لنص ما، أعني قراءة لا تسعى إلى جمع معلومات، وإنما التفكير في المعلومات المتاحة، وجعلها حافزاً لتداعيات تتولد بها أفكار وقرانات جديدة. والكومبيوتر نص يصعب تعلم عملياته من دون كتاب مادي إرشادي. والمرء - في ما يقول إيكو - يحتاج بعد قضاء اثنتي عشرة ساعة عمل أمام جهاز الكومبيوتر إلى أن يجلس مسترخياً يقرأ جريدة أو ربما قصيدة جيدة. لكن المؤكد على رغم ذلك أن الشكل المادي للكتاب وطرائق نشره وتوزيعه ستتغير جذرياً فوق التغيرات التي حدثت فعلاً، خصوصاً بعد ظهور عمليات الطباعة بحسب الطلب، وبداية الإقبال على الكتاب الإلكتروني الذي نحصل عليه بإدخال قرص مدمج في جهاز الكومبيوتر، أو قراءة الكتاب على أحد مواقع الإنترنت وطباعته على الورق بواسطة الجهاز نفسه. وذلك أمر لا يؤدي إلى ازدواج الوجود المادي والمعنوي للكتاب، فضلاً عن إمكان اختفاء الشكل المادي للموسوعات فحسب، وإنما يؤدي - فوق ذلك - إلى الغلبة التدريجية لحضور النصوص المتعالقة المقترنة بالكومبيوتر والإنترنت، والاهتمام المتزايد بصوغ نظرياتها التكوينية الخاصة، ومن ثم الحديث عن "شعرية" جديدة لهذه النصوص التي تقترن صفاتها الإلكترونية بصفات تعالقها النصي. ويمكن - في هذه الشعرية - الحديث مع إيكو عن تحويل أي نص متعالق وهو أمر له نواتجه الجذرية التي تؤدي إلى تغيير مفاهيمنا المعتادة عن "النص" و"القراءة" و"التفسير" و"القارئ" و"المؤلف" وعملية "الإبداع" نفسها... ولكن هذا الانفتاح المطلق للنص المتعالق ليس سوى وهْم في ما يؤكد إيكو الذي لا يتخلى عن مفاهيمه الأساسية عن "العمل المفتوح" و"التفسير" الذي لا يخرج عن الدائرة الاحتمالية للممكنات التي يحدد بها النص التفسير المقبول والتفسير المفرط أو المغلوط. ولذلك فإنه يؤكد - حتى في مقاربته شعرية النص المتعالق - أن قدر الحرية المتاح لنا عند القراءة يتمثل فحسب في حرية تحريك التراكيب المعدة سلفاً، في إطار عدد كبير من الاحتمالات. ولذلك فإن النص المتعالق نص يغوي بانفتاحه البالغ، لا لأن ينتج احتمالات لا نهائية من الحركة وإمكانات التشكل وإعادة الإنتاج، وإنما لأنه يتحرك في داخل الأطر التي انبنى عليها النص المتعالق، ولا يسمح بالحركة إلا في حدود ممكناتها مهما تعددت هذه الممكنات إلى حد غير مسبوق، فالحرية النصية تظل حرية انقراء مبرمج سلفا، مهما كانت الإمكانات المحدودة من التعالق النصّي التي يتيحها الكومبيوتر للنصوص المتعالقة على شاشته أو شبكته بلا فارق.