على مدى ثلاثة اسابيع اندلعت تظاهرات جماهيرية غاضبة، احتجاجاً على تزوير الرئيس الجورجي ادوارد شيفاردنازه للانتخابات. ثم تحولت الى نوع من العصيان المدني بعد احتلال البرلمان، ثم تقرر انتصارها عملياً، بعد تحييد الجيش. فأسقط بيد الرئيس فاضطر الى الاستقالة. واجبرت اميركا التي دعمته طوال اثني عشر عاماً على الاعتراف بالوضع الجديد والتخلي عن الصديق الحميم، الطاغية المقنّع بالديموقراطية، ورأس النظام الفاسد حتى العظم. الشعب الذي اطاح شيفاردنادزه شيء وقادة المعارضة الذين استولوا على السلطة شيء آخر. فالشعب انتفض لأن الديموقراطية الموعودة لم تحسّن اوضاعه المعيشية والاجتماعية والتعليمية والصحية، بل زادت منسوب معدلات الذين هبطوا الى ما دون خط الفقر بعد ان تعفّن الوضع حتى حافة الانهيار الاجتماعي والاقتصادي، فحان وقت الانقضاض على ولي النعمة والقفز الى السلطة. فهم في عقليتهم واستراتيجيتهم لا يختلفون، كما ظهر حتى الآن، عن عقليته واستراتيجيته. بل لأنهم ديموقراطيون اكثر كان قرارهم الاول، استفتاحاً، الا يسمح بان ينافس في الانتخابات احد من خارجهم. ولهذا فليفرح الشعب قليلاً ثم ليستعد لدورة جديدة من الازمات والمواجهات ما دام النظام القادم ضمن اطار العولمة والامركة، لكن ربما، في المرة القادمة بقيادة تبحث عن البديل الثالث: غير بديل الديكتاتورية او بديل الديموقراطية الفاسدة. لقد أخطأ البعض حين ظنوا منذ عشر سنوات ان النضال ولّى زمانه، وان الشعوب، بعد التخلص من ديكتاتورياتها، سترضى بديموقراطية تُفصّل قوانين الانتخاب فيها على القياس المطلوب، وتمارس الاقصاء، وصولاً إلى تزوير صناديق الاقتراع. أو قل سترضى بالانتقال من نظام كبت الإرادة إلى نظام تزييف الإرادة. إنهم لم يدركوا ان ما فعلوا اطلق طاقات الشعوب. فأي بديل هذا الذي سيكون مقبولاً حين يُرفع الدعم عن قوت الفقراء ووقودهم ومشربهم خصخصة حتى الماء، وتُضيّق سبل المعاش، ويُصعّد الغلاء إلى أعال تقصر عنها الأيدي، ويفقد المجتمع مكتسبات العمالية والتعليمية والصحية؟ وأي بديل تنتصب فيه شواهق جبال الثراء غير المشروع المشروع لا تصير أصفاره فلكية، ويعم الفساد تحت شعار "الحكم الصالح". ولهذا لم يكن ثمة بدّ من أن تولد الظاهرة البوليفية والجورجية والبرازيلية والفنزويلية وأمثالها وإن لم تزل المعركة سجالاً، ومن أن تعلو أمواج التظاهرات الاحتجاجية وألوان مقاومة الاحتلال والحرب بلوغاً إلى المغزى الذي حملته دول العالم الثالث إلى كانكون. ومن ثم آن الأوان للنخب التي صفقت، بحق، لسقوط الديكتاتوريات، أن تعيد النظر في موقفها الذي ابتلع "برشامة" العولمة وديموقراطياتها الجديدة، فلا مفر من غسل الأيدي الآن من نظام شيفاردنادزه، وقبل دي لوسادا بوليفيا، ومن قبلهما، ومن بعدهما، من على الشاكلة الجديدة التي حلت مكان الديكتاتورية السوفياتية، او ديكتاتوريات العالم الثالث، على اختلافها، الى نقطة تعفن انظمة تلك الديموقراطيات وتحرك الانتفاضات والاحتجاجات الشعبية ضدها، ومن ثم البحث عن بديل ثالث. ذلك أن الفرق شاسع بين ان تكون على حق في رفض الديكتاتوريات وان تكون على حق في قبول البديل "الديموقراطي" العولمي المؤمرك واعتباره البديل الوحيد المقابل والافضل. فقد اثبت واقع العشر سنوات الماضية ان الديموقراطيات الجديدة افسحت بعض المجال للحريات السياسية لكن وسعت وفاقمت اكثر مساحات التبعية والفقر والمرض والبطالة والمظالم الاجتماعية وفساد القيم والفساد المالي وتدهور الاقتصادات الضعيفة والمتوسطة، ولا ننسى فضائح الشركات الاميركية المتعدية الحدود، والأخطر تحول الرشوة العالمية مع موجة الخصخصة الى مستويات جعلت الرشوة الداخلية السابقة اشبه بلعب اطفال. هذا من دون المغفلة عما تعنيه براءات حقوق الملكية الفكرية من احتكار للتكنولوجيا والعلوم والمعارف والبحوث الجديدة احتكار الدواء نموذجاً. التعفن السريع لظاهرة الديموقراطيات الجديدة ولظاهرة العولمة والسياسات الأميركية كما ظهرت على الخصوص في عهد إدارة بوش، يشكل سمة عالمية جديدة حتى لم يعد من السهل على مؤيديها انكار ذلك. فرئيس البنك الدولي في دبي في 23/9/2003 قال في خطابه أمام مؤتمر "كوكبنا غير متوازن": "قليلون جداً جداً يملكون كثيراً جداً جداً، والكثرة الكاثرة تعيش على أمل ضئيل. وثمة اضطراب هائل، وحروب كثيرة. وهناك آلام لا حصر لها". وفي هذا خلاصة لنتائج العولمة وسياسات البنك والصندوق الدوليين والديموقراطيات الجديدة تشمل غالبية الدول. ومن ثم، فمن قلب هذه الصورة، وبسببها، يجب أن نقرأ المغزى وراء الانتفاضة الجورجية بغض النظر عن قادتها، ومن قبلها، وأهم منها، الثورة البوليفية التي اندلعت قبل شهرين وقُيّدت من القاعدة الشعبية، وأطاحت قيادة "ديموقراطية جديدة" ورفعت شعارات معادية للخصخصة والعولمة ورهن البلاد للشركات الاميركية. ثم يجب ان تقرأ في الاطار نفسه نتائج الانتخابات في فنزويلا والبرازيل والبيرو والاكوادور واقالة الرئيس الارجنتيني، وما يجري من نضالات شعبية في كل بلدان اميركا الجنوبية والوسطى ضد توقيع اتفاقية "منظمة التجارة الحرة للاميركيين". وهنا يبرز البحث عن البديل الثالث قوياً، وان لم يستطع حتى الآن، ان يشق طريقه بسبب ثقل القيود التي فرضها البنك والصندوق الدوليان على البلاد، او في الادق بسبب نظام العولمة والضغوط الاميركية المباشرة. الامر الذي يسمح بالاستنتاج: اذا كان بمقدور شعب كل بلد ان يطيح رؤوس انظمة الديموقراطيات الجديدة من خلال الانتفاضة او الانتخاب سيان، فان الانقاذ من خلال بديل ثالث يحتاج الى نظام عالمي بديل / ثالث. ولهذا البديل حديثه المستفيض. اما من ناحية اخرى فان ما تشهده كوريا الجنوبية، النمر الآسيوي، في هذه الايام، من شبه انتفاضة عمالية شعبية صاخبة ضد النتائج التي جاء بها نظام العولمة، وقد راح يدمر المكتسبات العمالية والاجتماعية والخدمات التعليمية والصحية، تاركاً الامر كله لحرية السوق التي لا ترحم. وقد حق عليها امس "حرية الغابة" العصرية. ثم يجب ان يدخل في هذا السياق المد الهائل الذي اخذت تحظى به الحركات الاحتجاجية ضد العولمة والحرب والسياسات الاميركية والاسرائيلية في الغرب. فأمس، فقط، شهدت شوارع لندن تظاهرة كبرى، في يوم دوام رسمي، وصلت الى مئتي الف متظاهر ومتظاهرة ضد زيارة بوش سياساته. ولا حاجة، بالطبع، الى ادراج الانتفاضة والمقاومة في فلسطين والمقاومة في لبنان ومقاومة الاحتلال الاميركي بكل اشكالها في العراق ضمن هذا السياق اذ هي في مقدمته، وبكلمة: الشعوب تنتفض ضد عالم ما بعد انتهاء عالم الحرب الباردة، ليس عوداً إلى خلف وإنما إلى بديل ثالث وأمام.